(تجديد الخطاب الديني) مصطلح مشبوه ولا شك؛ غرضه ليس التمكين الدين بوسائل العصر، ولكن هدفه وغرضه وما صيغ من أجله هو: تطويع الدين لرغبات أهل العصر! بدلاً من أن يعتنق أهل العصر هذا الدين ويطبقوه كما هو لصالحهم وصالح الأرض التي يعيشون عليها

(تجديد الخطاب الديني) مصطلح مشبوه ولا شك؛ غرضه ليس التمكين الدين بوسائل العصر، ولكن هدفه وغرضه وما صيغ من أجله هو: تطويع الدين لرغبات أهل العصر! بدلاً من أن يعتنق أهل العصر هذا الدين ويطبقوه كما هو لصالحهم وصالح الأرض التي يعيشون عليها.

لكن الواجب هو (تأصيل الخطاب الدعوي) أو (إصلاح الخطاب الدعوي)، بمعنى أن نرد الخطاب الديني الدعوي الإرشادي إلى أصله، ليس في الوسائل بالطبع! فلن نكف عن استخدام الإنترنت مثلاً لأن الأصل هو المنبر الخشبي ورقاع الجلد، لكن رد الخطاب الدعوي إلى أصله يكون في أصل فحواه وفي أصل أغراضه، بمعنى أن يكون غرضه حقًا تعريف الناس بالله وتفهيمهم منهج الله ومعونتهم في السير على الصراط المستقيم: في الدنيا عملاً بالاستقامة، وفي الآخرة نجاة على الصراط حتى الاستقرار في جنات الله العزيز الحميد،

ولا شك أن انحرافًا مسّ الخطاب الدعوي وانجرف به عن أصوله في الفترة الأخيرة، ولا شك أن هذا الانحراف له الدور الأكبر في (التيه) الذي يعانيه الآن من يحبون الفكرة الإسلامية ويسعون جاهدين لنصرة الإسلام بكل طاقتهم؛ فالخطاب الدعوي هو مقوَد الصحوة، وإذا اختل المقوَد انحرف التوجيه، وهذا يؤدي لتشتيت الجهود في الفراغ، وربما قاد الجهود لنتائج عكسية تضاد الغرض الأصلي من العمل وهو الفلاح لأهل هذا الدين وتمكينهم في هذه الأرض. وكلما زاد انحراف المقوَد زاد احتمال حدوث اصطدام في الطريق أو انقلاب كامل عن الوجهة الأصلية!

ومن هنا سيكون لي بضع كلمات متتابعات في بعض مقالات متتالية سأحلل فيها ظاهرة انحراف بعض المفاهيم الخاصة بالخطاب الديني الدعوي أو لنقل (انحراف بعض مفاهيم الخطاب الصحوي)، نسبة للحقبة التي سأدرسها، وأبين عوامل الاعوجاج فيها.

وأول ما سأبدأ به هو الأشد خطورة من وجهة نظري؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما يأكل الذئب من القاصية"، والفشل يأتي من انفراد شخص أو جماعة عن سياق أمة الإسلام فيأكلهم (الذئب)، والذئب هنا هو: شياطين الإنس والجن معًا،

ولكي ينحرف فرد أو جماعة عن أمة الإسلام لابد أن تجد ذئبًا ارتدي لهم ثوب الحمل: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 21]، وأمسك بيده الانحراف يزينه للفرد وللجماعة (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) [الأعراف: 22] حتى استجاب الفرد وتعصب لشيء غير الإسلام، واستجابت الجماعة وتعصبت لشيء غير الإسلام، شيء صاغه الذئب ونشره، وتابعه في نشره بغي وعي قوم جاهلين أو غافلين، حتى إذا صار الفرد قاصيًا عن جماعة المسلمين، وصارت الجماعة قاصية عن أمة الإسلام؛ أكلها الذئب، والذئب هنا هو الداعية النرجسي الذي سردت صفاته في مقالتي السابقة تلك:

وارث إبليس، السمات النفسية للداعية النرجسي

وسأشرح في مقالتي هذه جانبًا من كيفية الخديعة، وماهية مسار الانحراف الذي أوصل الصحوة الإسلامية لمحطة حالية ليست هي التمكين بكل تأكيد!

ابتكار عناصر جديدة للتعصب من أجلها!

نعرف جميعًا أن الناس يتعصبون لأعراقهم، أو أديانهم، أو مذاهبهم، أو بلدانهم، لكن انحراف الخطاب الدعوي سار مسار انحراف الخطاب الرياضي! فكما أن الرياضيين في عصرنا ابتكروا عناصر جديدة للتعصب هي الانتماء لأندية الكرة مثلاً؛ فبعض الدعاة المنحرفين ابتكروا عناصر جديدة يتعصبون لها ويدعون جمهورهم أن يتعصب لها؛ منها: مسميات محدثة للتدين ذاته، أو أسماء أعلام لجماعات هؤلاء الدعاة، أو حتى مسائل معينة في العقيدة والفقه لا تتصل بداعية معين أو جماعة معينة، لكن يقوم حولها الخلاف، وتنصب من أجلها حروب التعصب بين الناس والفئات المختلفة، وليس هذا عهد الإسلام بيننا، ولا هكذا تقوم وحدة المسلمين، لكنها وراثة من مناهج الاحتلال زرعها فينا لتكون أدواته الباقية الخفية؛ بينما هو يلملم أدواته الظاهرة خارجًا من بلاد المسلمين شرقًا وغربًا تاركًا بيننا مبدأ (فرق تسد Separate And Conquer).

فتجد من ينصب الخلاف على مصطلح (الملتزمين) أو (المطوّعين)، وهو مصطلح صحوي بامتياز لم يوجد في تاريخ الأمة المسلمة قبل ستينيات القرن الماضي، كان قبله المسلم يوصف بأنه (مسلم) أو (مؤمن) أو (رجل صالح) أو (سني)، ولم يكن لهذه النماذج السابقة دلالة على شيء فئوي، ولكن دلالتها كانت سلوكية على أن هذا الموصوف بالسنة أو الصلاح يتبع هدي النبي في حياته ويريد مرضاة الله، أما مفهوم (الملتزم) و(المطوع) فقد انغرس في الضمائر الجمعية للمسلمين في البلدان المختلفة دلالة على أيديولوجيا معينة وثياب معينة، بل صار يقفز معه إلى الذهن أسماء دعاة معينين في كل بلد، دعاة استبدلوا عنوانًا مثل (ماذا يعني انتمائي للإسلام؟) بعناوين مثل (لماذا لا تلتزم؟)، و(ما هو الالتزام الأجوف؟)، وهكذا.

ولا يدل وصف (الالتزام) في أدبيات هؤلاء أبدًا على (محض الإسلام)، ولا يشمل (عموم المسلمين) أو يوصف به الصالح من المسلمين لو لم يكن له (الهدي الظاهر) الذي ينحتونه للمسلم ثيابًا وسلوكًا! بل حتى والله لو ارتدى ذات الثياب بطريقة تختلف عما يصفه بعض الشيوخ هؤلاء بأنه (التزام)، مثلاً لو ارتدى القميص الأبيض ولم يقصِّر القميص إلى نصف الساق فهو ليس ملتزمًا وليس مطوَّعًا، ولو ترك لحيته لكنها لم تكن طويلة وفيرة فهو ليس ملتزمًا وليس مطوَّعًا، ولو ارتدت المسلمة خمارها ولم ترتد النقاب فهي ليست ملتزمة ولا مطوَّعة، وبالطبع لو لم يكن في سجل السماع والاتباع لدى هؤلاء المسلمين شيوخ يحافظون على هذه المصطلحات ويرعون دلالاتها الصارمة في الثياب والسلوك؛ فبالتالي لو لم تسمع هؤلاء الدعاة فأنت لست ملتزمًا ولا مطوَّعًا، بل يستحيي جمهور الموصوفين بـ(الالتزام) من وصف من لم يبدو مثلهم ويتكلم مثلهم أنه (أخ) في الإسلام أو (أخت)، فوصف الأخوة يوفرونه لمن يماثلهم ثوبًا وسلوكًا.

ورويدًا رويدًا ينمو التعصب إلى تقديس تلك الفئة التي تتكون من كل من ينال شرف الوصف بالالتزام والتطوّع حتى يقال بلسان الحال: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة: 18]، وتجد جلسات الموصوفين بأنهم (ملتزمين) وتجد كتبهم ومحاضراتهم تمتلئ بمبالغات عن دعاتهم وشيوخهم وأفرادهم، وترى في سلوكهم جليًا أنهم يرون أنفسهم طبقة (أوليجاركية Oligarch) ينبغي لها أن تحكم المسلمين وأن تسود، ويحصرون في أنفسهم وصف (الفرقة الناجية)، ويقصرون الوعد بـ(النصر والتمكين) في أنفسهم، ويكادون يقسمون أرض الجنة بينهم بينما هم جلوس لا يفعلون شيئًا مما قد يفعله من خلع القميص أو حلق لحيته ومن كشفت وجهها مع كامل احتشام ثيابها هنا أو هناك من المسلمين العاملين.

وما هذه الخيالات والأوهام التي يعيشها (الملتزمون) إلا بناء على شفا جرف هار، ما يلبث إلا أن ينهار بهم في فشل الدعوة في الدنيا، أو لنقل هنا فشل الدعو(ى)، فإذا دعا الإنسان لأوصاف حجرها هو وادعى فضل من التزمها دون غيرها من المسلمين فهذه دعو(ى) جاهلية وليست دعوة الإسلام البيضاء النقية التي تجمع ولا تفرق، والتي تعذر ولا تحجُر، اللهم إلا على من أتى ببدعة أو بهتان أو جريمة، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ) [النجم: 23]، يصيغون صورة يتوهمونها لما ينبغي أن يكون عليه المسلم، ومن يوافقهم فهم أصحاب الهوى في المظهر دون المخبر مثلاً، أو أصحاب الهوى في القعود دون العمل مثلاً، أو أصحاب الهوى في الانعزال عن الناس مثلاً، (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) [النجم: 23].

فهم يتركون المنبع الصافي الذي يحض على توافق الظاهر والباطن، والعمل دون كلل ولا ملل، ومخالطة الناس مع الصبر على أذاهم، لذلك فمن نصب راية عميّة يوالي عليها ويعادي كراية (الالتزام) بمفهومها الذي يحصر الإسلام في صورة معينة واختيارات معينة من بين ما ساغ فيه الخلاف؛ فهؤلاء حقًا نرجسيون: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [غافر: 56]، سميع بما يفترون من عند أنفسهم، بصير بما يجري وما يفعلون، وسينهار بهم البناء أيضًا في الآخرة إذا استمروا فقاقيع لا حقيقة لها.

طبقات العنصرية!

فلا تجد العنصريات تأتي فرادى حول مصطلح مثلاً وتكف عن الظلام! لكنها (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) [النور:40]، فمن وقع في فخ العنصرية حول مصطلح (الملتزمين) أو (المطوعين) مثلاً؛ فإنه لا يرى هؤلاء فئة واحدة!

بل تجد بوضوح في أدبيات هذا الصنف من الدعاة تصنيفًا داخليًا لفئتهم المبتكرة تلك! فهناك: عموم الملتزمين، ويوصفون بـ(الأخ فلان) و(الأخت فلانة)، ولا يقال لفظ (الإخوة) لمن هو في دونهم مرتبة في نظر داعية التعصب مهما كان مسلمًا صالحًا، ومن ثم: خواص الملتزمين ويقال لهم: (الحاج فلان) و(الحاجة فلانة)، وربما (الأستاذ) و(الأستاذة)، ثم: كبار الملتزمين أو (الصف الثاني) وهم شيوخ دون الشيوخ، ولكنهم لا يظهرون غالبًا ولا يطلق عليهم اسم (الدعاة)، وسأكف هنا عن ذكر دعاة الالتزام وشيوخ الملتزمين وأفرد لهم مقالة تليق بمكانتهم!

عموم الملتزمين:

هم (الإخوة) و(الأخوات)، وتنقطع بعدهم أخوة الدين في خطاب دعاة التعصب! وهم كل من التزم (الهدي الظاهر) في ثيابه وحجاب أهله وشعر وجهه، واتجه للتغذية على الأغذية التراثية والتزم التمر وحليب الإبل وطبخ الثريد بلا أرز وتكلم الفصحى وسمى أبناءه أسماء الصحابة وقال: (جزاك الله خيرًا) بدلاً من (شكرًا)، واستبدل (السلام عليكم) بدلاً من (صبحك الله بالخير)، وهجر العطور الكحولية إلى (المسك) و(العود) و(العنبر)، وهذا بلا شك جميل وفيه من شعائر الدين ما فيه، لكنه ليس كل شيء! فأكثر هذا الجمهور آلات من لحم ودم تعمل بشعائر ظاهرة وليس في قلوبهم شيء! إنهم الذين يُخشى عليهم في القبر أن يجيبوا الملكين "هاه، هاه، وجدت الناس يقولون شيئًا فقلت"، غرّهم بهرج دعاة (الالتزام) وجزمهم أن (النجاة في الالتزام)، وغرّهم سهولة أن يحصل المرء على ختم (ملتزم) بينما هو لم يتفقه حقًا، ولم يعرف الله حقًا، ولم يتغير ويترك سابق عهده من أمراض القلوب والأعمال الفاسدة حقًا، خاصة في السر.

خواص الملتزمين:

هم فئة أعلى من سابقتها، ولهم فضل وتبجيل، ويظهرون معرّفين بأسمائهم وصفاتهم في خطاب الداعية، يكبرهم ويعظمهم داعية التعصب لأنه يعتمد عليهم في نشر منهجه! فهؤلاء اتجهوا لتعلم العلم الشرعي، ولابد أن يكون حنبليًا، وربما كان عيبًا أن يكون شافعيًا، فحفظ المتون ودأب على حلقات شرح متون العقيدة، ولم يغب أبدًا عن الصلاة في المسجد، وصار عيبًا في نظره ألا يحفظ أولاده القرآن كاملاً صغارًا، ولا يسردون المتون الشرعية على البديهة حفظًا وينشدونها في كل وقت وحين، وهذا بلا شك شرف عظيم في دين الله لا يماري فيه إلا السفهاء، لكنه ليس كل شيء! ولا يدل مع رؤية الذات أضخم مما هي عليه على شيء! والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل!

وحديثنا بالطبع ليس عن طلاب العلم النجباء، سادة الدنيا ومصابيح الظلام، لكن عن قوم يعلمون ولا يعملون، فهؤلاء ممن تعلم العلم ليماري به السفهاء ويجادل به الفقهاء ويظهر به على القرناء! وتجد في كتبهم كثيرًا جدًا (أهمية طلب العلم)، وفي محاضراتهم (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، لكن لا تجد أبدًا (ماذا نفعل بهذا العلم؟)، ومهما بحثت لا تجد تفصيلاً لشؤون حياتنا في الواقع اليوم: (ماذا نفعل في القضية الفلانية؟)، وبالتأكيد لا تجد لهم حسًا ولا خبرًا في نوازل المسلمين وقضاياهم الكبيرة! هم أكاديميون للأكاديمية، عرائس خشب بلا بطاريات حين تحتاجهم، وكثيرًا في النوازل تجدهم في جانب الأمان لا جانب العمل!

وإنك لتجد هؤلاء في بيوتهم نسخًا مغايرة لما يظهرون به في مساجدهم، جفاة غلاظ ينفّرون أبناءهم من الدين بكثرة الضغوط، ليبدو الأبناء أمام الناس (ملتزمين) بلا زرع حقيقي لمفاهيم عاملة تقود أولادهم لإسلام راسخ، وإيمان يدفهم للتضحية لنشر هذا الدين ومصالح أنفسهم ومن ثم مصالح المسلمين.

كبار الملتزمين:

الذين يحكمون هذا العالم العنصري الضيق ويسوقون القطيع، نظّار الخاصة الالتزامية، حكّام مساجد الدعو(ى) الجاهلية الذين يأتون في (الصف الثاني) بعد دعاة العصبية الجاهلية وشيوخها، فهؤلاء ليسوا كالعاملين الطبيعيين للإسلام الذين يقودون العمل الاجتماعي بإخلاص، ويسخّرون أنفسهم لمصالح المسلمين، لكنهم قوم وجدوا في جمهور الفئة الأولى والثانية رعايا صالحين لسهولة السيطرة، قوم زاهدون في فتات الدينا لكن طامعون في حكمها برمّتها، ومن ثم وقع في أيديهم أشياء كثيرة لم يستحقوها بأعمال كبيرة حقيقية ولا غير ذلك، لكنهم تقربوا من دعاة العصبية الجاهلية وشيوخها، ووفروا لهم الدعم اللوجيستي المناسب، ورفعوا عن كواهلهم مسؤوليات إدارة هذا العالم المتهافت من قطعان الشخصيات الجوفاء التي لم تتغير حقيقةً، ولم تسلك سبيل النور على حقيقته، لكنهم (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 104].

لماذا يتعصبون؟!

في الحقيقة فإن مظاهر التعصب غير الضرورية، يعني التي هي ليست في معارك حقيقية نص عليها الله ورسوله، ولكنها في معارك من صنع أهواء البشر، كمعركة (أكون ملتزمًا أو لا أكون) هذه، مظاهر الالتزام هذه كلها نتاج عقدة نقص عميقة تتعلق بالإيمان ذاته، ويكون التعصب هو آلية دفاع لا إرادية ينتجها العقل الباطن ليحافظ على حقيقة دفينة هي (عدم الإيمان بالفكرة)، ففي إحدى رواياته قال ﭼون لو كاريه -الجاسوس البريطاني السابق وكاتب أدب المخابرات المعروف- على لسان البطل: (the fanatic is always concealing a secret doubt المتعصِّب يُخفي دومًا شكًّا دفينًا).

يعرف الجواسيسُ المخضرمون أن مظاهر الانحياز الفجَّة لرأي ما هي علامة الشك فيه! لذلك يوجهون جهود التجنيد والاختراق دومًا إلى الفئة الأكثر تعصبًا، وينصبون شباكهم حول الشخص الأشد عصبية! وكثيرًا ما ينجحون! وقد قدّمت أن التعصب زرعه الاحتلال ليبقى أداته الخفية بينما رحل بجيوشه الظاهرة، فتأمل حال العنصريين المتعصبين من يوالون حقًا؟! وفي صف من هم؟!

إلى أين يقود هذا التعصب؟!

يقود التعصب للعنصرية إلى (الانتكاس)؛ ففي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة -فيما يبدو للناس- حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها"، الشاهد هنا قوله "فيما يبدو للناس"، وهذا من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤيد ما ذهب إليه "لو كارييه" في تحليله لنفسية المتعصب!

فالمتعصب للعنصرية ذاته سيفقد إيمانه، بل هو بلا إيمان في الحقيقة، لكنه "يبدو للناس" مؤمنًا، وسيدفع أولاده بالتبعية إلى فقد الإيمان؛ لأنه يعيش حياته بوجهين: إيمان غير حقيقي يبدو خارج بيته، وسلوكيات حقيقية مناقضة لهذا الإيمان داخل بيته، فيصدق فيه قوله تعالى: (وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النحل: 94]، سيصد أولاده عن سبيل الله بتعصبه للعنصرية الموهومة، وسيصدهم عن سبيل الله بتناقضه، وسينبت في بيته الانتكاس ومن ثم (الإلحاد). ولمزيد في هذا الباب أحيلكم على مقالتي:

8 علامات للبيت النرجسي، وكيف يتعامل معه المربي؟!

وختامًا..

فإذا رأيتم داعية ينصب أعلام هذه المظاهر والخلافات، إذا رأيتم داعية يحيط أتباعه ذوي الأوصاف الظاهرية وقلة الأعمال الحقيقية، يحيطهم بسياج الرضا الإلهي، ويسميهم عمليًا بالفعل لا بالقول أنهم "شعب الله المختار"، وأنهم "المختارون من الله"، إذا رأيت داعية ينصب هذه الرايات تحت مسمى "مجتمع الملتزمين" و"الخواص" و"أهل الفضل"، ويقيم على أساس ذلك الولاء والبراء بين فئات المسلمين الطبيعية التي واجبنا جمعها لا تفريقها، إذا رأيت هذه الجريمة وتلك الخديعة فاعلم أن هذا "الذئب" لا يدعو إلى الله، ولا يدعو أهل الإسلام ليوحدوا صفوفهم، ولكنه يفرق بين المسلمين، ويدعو لنفسه ورايته ولمن تتفق مصالحهم الدنيوية مع مصلحته لا مصالح المسلمين.

إذا رأيت ذلك فاعلم أنك في البيئة الخطأ، ومع الفئة التي سينهار من تحتها الطريق، وتنزلق أقدامهم عن الصراط، إذا رأيت ذلك فاعلم أنك في ضيق بعيد عن براح الإسلام الفسيح.

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة