ونحن بدورنا -كمثقَّفين وحواريين ومربين- مطالبون أن نخلع عن عاتقنا رداءَ التقليد والتعصُّب اﻷعمى، وأن نقتفي استراتيجيةَ هذا النَّهج الحضاري. فإذا فعلنا ذلك أدَّى بنا إلى تقليص دائرة اﻻحتقان المذهبيِّ والطائفيِّ المليء بالسلبية..
شهدت حقباتٌ من التاريخ صراعاتٍ طائفيةً
وفتنًا مذهبية كانت تطفو أحيانًا وتخبو أحيانًا أخرى، بحسب ما تملي المصالح
السياسية ويستجدُّ من تطوُّرات في العَلاقات الكبرى بين القوى الحاكمة والأصوات
المعارضة، أو بين مذاهب تقليدية وتيارات إصلاحية وثالثة تحرُّرية، خلَّفت وراءها
فتاوى تفوح منها رائحةُ الفرقة والإقصاء، والتضليل والتكفير، حصدت أرواحَ ناسٍ ومهجَ
أطفالٍ، وتسبَّبت بانتهاك محرَّمات، وتعدِّيات على رموز ومقدَّسات.
وظلَّ العقلُ الإنسانيُّ ردحًا من الزمن
مغلوبًا مقهورًا تحت مطرقة العصبية لإمام المذهب أو شيخ الطائفة، معطَّلاً عن
التفكير والإنتاج، يعيش حالةً من الجمود المقيت والتقليد الأعمى، قد استروح إلى
الانشغال بألغاز المتون المختصرات، وحصر الدِّين في مذاهب معينة وضمن دائرة
الخلافات، متغاضين عن الرحمة المستودعة في ذانك التنوع والتعدد!
ما فتئ هذا المسلسلُ المرير يلملم ما تبقَّى
منه في ذاكرة الماضي الأليم، ويستجمع جراحات السابق، ليشكِّل من جديد واقعًا
مشؤومًا وحالةً مرضية تنخر في جسم الأمَّة المثقَل بالهموم والمحفوف بالأحزان،
كلَّما حاول النُّهوضَ على قدميه وجد من يطعنه في ظهره وخاصرتيه، وهو يتهادى بين
ساذجٍ قد فهم الإسلام مقلوبًا، وعدوًّا قد تمسَّح بمسوح أهله امتلأ صدرُه غلاًّ
وحقدًا، فهو يتحيَّن الفرصة لمعاودة الانقضاض عليه على حين انشغال أبنائه بأنفسهم
عن متابعة المسيرة ومسايرة الاتباع!
فتمخَّض لدينا من رحم هذه الأزمة تساؤلٌ:
هل ألغى الشرعُ الحنيف التعدُّديةَ وألزم
بالأحادية والمصير إلى تعيين الحقِّ المطلق بين المنتسبين إليه، سيَّما ونحن نتلو
قول الله تعالى: ﴿فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَماذا بَعدَ الحَقِّ
إِلَّا الضَّلالُ فَأَنّى تُصرَفونَ﴾ [يونس: ٣٢]؟!
بالعودة الرَّشيدة إلى منابع الهدى والخير
في الأمَّة، نجد القرآن الكريم قد دلَّ على الإسلام كدينٍ؛ فقال الله
تعالى: ﴿إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسلامُ﴾ [آل عمران: ١٩]، تنضوي تحت رايته
كلُّ الأيدي العاملة لأجله بصدق وإخلاص، والمنفتحة على أخواتها بكلِّ أريحية
وانبعاث؛ تأسيسًا على القاعدة الذهبية (التعاون على القاسم المتَّفَق عليه، والنُّصح
في القسيم المختلَف فيه). وتبقى مدارسُه الفكريَّةُ تفسيرًا لنصوصه، ومذاهبُه
الفقهيَّةُ شروحًا لآياته وأحاديثه، في مفهومٍ تنظيريٍّ إجرائيٍّ مُشبَع
بالحيويَّة المتحرِّكة القائمة على سماحة الإسلام ويُسر شريعته الغرَّاء ومرونة
فقهه، ما أسهم بشكلٍ مباشر في توليد الآراء الاجتهادية الدالَّة على سعته ورحمته
وغناه.
وإنَّ ما نلحظه من اختلاف في الفروع الفقهية
لدى السَّادة الفقهاء المتبوعين، لجهة قائلٍ بالوجوب أو النَّدب، والرُّخصة أو
العزيمة، والتحريم أو الكراهة... ينبغي ألا يفسد في الودِّ قضيَّةً، بل يجب حملُه
على مُسوِّغاتٍ شرعيةٍ وقوانينَ أصوليةٍ وملاحظاتٍ مسلكيةٍ علمية دعت إلى هذا
الغنى في التنوُّع الاجتهاديِّ التحليليِّ والفهم البشريِّ للنَّصِّ المقدَّس.
وإذا كان الغزاليُّ حجَّةُ الإسلام قد ذهب -مع غيرِه من المُصوِّبة كالباقِلاَّني وإمام الحرمين- إلى القول بتعدُّد الحقِّ في المسائل الفروعية بحسب مؤدَّى كلِّ فقيه، وأنه ﻻ يجوز اﻹنكارُ ونَصبُ الوﻻء والبراء استنادًا إلى تعدُّد اﻵراء في القضايا الفقهية الفرعية؛ فإنه بذلك ينشد وحدة الأمَّة، وتماسك المجتمع، وقيام العمران على ما تأتلف عليه القلوب والأبدان من القوة في الوحدة.
الغزاليُّ حجَّةُ الإسلام قد ذهب -مع غيرِه من المُصوِّبة كالباقِلاَّني وإمام الحرمين- إلى القول بتعدُّد الحقِّ في المسائل الفروعية بحسب مؤدَّى كلِّ فقيه، وأنه ﻻ يجوز اﻹنكارُ ونَصبُ الوﻻء والبراء استنادًا إلى تعدُّد اﻵراء في القضايا الفقهية الفرعية.
وهو ما قعَّده قبلُ اﻹمام المطَّلبيُّ محمَّد
بن إدريس الشافعيُّ -رحمه الله تعالى- في غير ما رواية أُثرت عنه، أو قول سطَّرته
يراعه في كتبه، حتى خرَّج مسائله على هذا اﻷصل الوحدوي التقريبي الذي يربط
بين وشائج الأمَّة، ويحدُّ من ظاهرة الخلاف والنِّزاع بين مُكوِّنات الوطن.
فتراه بعد أن ذكر عدَّة نماذجَ فقهيةٍ جرى
فيها الخلافُ، وتبنَّى هو نفسُه قولاً بتحريمها؛ أفتى بمنتهى الوضوح والصراحة أنَّ
مُستحِلَّها والعامل بها ﻻ تُرَدُّ شهادته. أي: إنه عند الشافعيِّ عدلٌ. مستنده في
ذلك ينطلق من ملاحظة التعدُّدية الفكرية، وقَبول اﻵخَر على ما هو عليه من مخالفته
في إطار المسموح به اجتهادًا؛ فيقول:
(... فهذا كلُّه عندنا مكروه مُحرَّم، وإنْ
خالفَنا النَّاسُ فيه، فرغبنا عن قولهم. ولم يدعنا هذا إلى أن نجرحهم ونقول لهم:
إنكم حللتم ما حرَّم الله وأخطأتم. ﻷنهم يدعون علينا الخطأ كما ندَّعيه عليهم،
وينسبون مَن قال قولنا إلى أنه حرَّم ما أحلَّ الله عز وجلَّ). [اﻷم (6/223 - 224).
ونحن بدورنا -كمثقَّفين وحواريين ومربين-
مطالبون أن نخلع عن عاتقنا رداءَ التقليد والتعصُّب اﻷعمى، وأن نقتفي استراتيجيةَ
هذا النَّهج الحضاري. فإذا فعلنا ذلك أدَّى بنا إلى تقليص دائرة اﻻحتقان
المذهبيِّ والطائفيِّ المليء بالسلبية التي فرَّقت الأمَّةَ ومزَّقتها، وكانت
كفيلة بضعفها وتقهقرها وتشتيتها وتمالؤ الأعداء عليها.
واﻷمَّةُ الزاهرة إنَّما تنتهض بين الأمم
إذا كان علماؤها على وفاق فيما بينهم. ويتواصل النُّهوض وتُكتب له اﻻستمراريةُ متى
سار الأتباعُ على طريق أسلافهم من غير تبديل أو تحريف.
هذا الملمح الذي نشير إليه ونحثُّ عليه، هو
ما أرسى قواعدَه قبلًا الإمامُ الفقيه المجتهد أمير المؤمنين أبو الحسن عليُّ بن
أبي طالب -رضي الله عنه- في نحو ما جاء في رسالته إلى الأشتر النخعي -كما في (النَّهج):
(ولا تنقضْ سنَّةً صالحة عمل بها صدورُ هذه
الأمَّة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية. ولا تحدثنَّ سنَّة تضرُّ بشيء
من ماضي تلك السُّنن، فيكون الأجرُ لمن سنَّها، والوزر عليك بما نقضت منها).
وهو ما يتوافق تمامَ الموافقة والانسجام مع
ما أشار إليه الفقيه المقاصديُّ أمير المؤمنين الفاروق أبو حفص -رضي الله عنه- حين
أحال مستفتيَه إلى عليٍّ وزيدٍ معلِّلاً سببَ عدم حملِه السائلَ على رأيه في
المسألة بقوله:
(لو كنتُ أردُّك إلى كتاب الله، أو إلى
سنَّة رسول الله ﷺ لفعلت، ولكنِّي أردُّك إلى رأيٍ، والرَّأيُ مُشترَكٌ، فلم ينقض
ما قال عليٌّ وزيدٌ -رضي الله عنهما-).
بيد أنَّ المشكلة تكمن في قصور النظر المَشُوب بالحماس المتفلِّت، والرغبة في التصدُّر والبروز، والعاطفة الجيَّاشة غير المنضبطة بنصوص الشرع الحنيف ومقاصده الرشيدة، في غياب ملحوظ لدى فئام من الناس لسُلَّم الأولويَّات وفقه الموازنات وتدبُّر المآلات وعواقب التصرُّفات، والاستئثار بالحقِّ، ومصادرة الصواب، والاستيلاء على الخيرية والصلاح بقوَّة الإرهاب الفكري! ورحم الله شيخ الإسلام البلقيني القائل: (الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض).
المشكلة تكمن في قصور النظر المَشُوب بالحماس المتفلِّت، والرغبة في التصدُّر والبروز، والعاطفة الجيَّاشة غير المنضبطة بنصوص الشرع الحنيف ومقاصده الرشيدة
وإلا فإنَّ آراء الفقهاء لا تعدو كونَها
فهمًا بشريًّا لنصوص الوحيين، ومحاولةً علميَّةً لتفسير كلام المعصوم، مرتبطةٌ
بظروف وحيثيَّات تُفهم في سياقها، وبعضُها لا يعمَّم أو يقاس عليها.
وهكذا، هو مخطئٌ مَن سلخ الآيةَ الكريمة من
سابقها ولاحقها، وأوهم أنها في غير مرادها، قال تعالى: ﴿قُل مَن يَرزُقُكُم مِنَ
السَّماءِ وَالأَرضِ أَمَّن يَملِكُ السَّمعَ وَالأَبصارَ وَمَن يُخرِجُ الحَيَّ
مِنَ المَيِّتِ وَيُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمرَ
فَسَيَقولونَ اللَّهُ فَقُل أَفَلا تَتَّقونَ * فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ
الحَقُّ فَماذا بَعدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنّى تُصرَفونَ * كَذلِكَ
حَقَّت كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذينَ فَسَقوا أَنَّهُم لا يُؤمِنونَ﴾ [يونس:
٣١-٣٣].
فهل مِن ناصحٍ أمينٍ قبل ألا
يبقى ثورٌ ليُؤكلَ لا أبيض ولا أسود؟!
إضافة تعليق