المعركة قديمة جدًا، قدم الإنسان! بل هي أقدم حقًا من الإنسان! والسلاح الذي أوقع بنا الهزيمة قديم هو الآخر قدم الإنسان! بل هو قطعًا أقدم من الإنسان! لكننا رغم ذلك نعود فنسأل: كيف انهزمنا؟! وكيف سقطنا؟!
المعركة قديمة جدًا، قدم الإنسان! بل هي أقدم حقًا من الإنسان!
والسلاح الذي أوقع بنا الهزيمة قديم هو الآخر قدم الإنسان! بل هو قطعًا أقدم من الإنسان!
لكننا رغم ذلك نعود فنسأل: كيف انهزمنا؟! وكيف سقطنا؟! وكيف محى الأعداء جهودنا وتمكنوا من رقابنا وعقول أولادنا؟! وكيف حازوا أرضنا وسرقوا ثمار ما زرعناه؟!
ما الذي يهزم الدعوات؟! ما الذي يكبل أمة الإسلام ويمنع ماردها أن يقوم ويقود؟! ما الحيلة التي تسقط بها الحصون في كل مرة؟! وما الكيد الذي تتفرق به الصفوف بينما قد حمي وطيس المعركة؟!
ما المنزلق الذي يهبط بنا من العلوِّ إلى السفول؟!
إنها في كل مرة إجابة واحدة: هو ذاته الذي أهبط أبوينا من الجنة إلى هذه الأرض!
لا، إجابتك التي بدرت في ذهنك خاطئة! إنها ليست (المعصية)! الإجابة ليست محض المعصية! بل (تغليف المعصية في ثوب النصيحة)، و(تخييل الباطل في صورة الحق) هو ذلك السلاح، الذي لولاه ما عصى آدم ربه فغوى!
منذ معركتنا الأولى مع الاختيار الحر، والتي ظهر فيها إبليس لأبوينا وادعى مظهر الداعية المخلص: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف" 21]، منذ ذلك الحين وهي الحيلة ذاتها، وهو المحتال ذاته يظهر في كل مرة لينحرف بالمسلمين عن جادة الصواب إلى جادة الهلاك، حيلة: المكيدة في صورة النصيحة، والمحتال هو: العدو في صورة الداعية المصلِح الأمين.
والعدوّ ليس في الصف المقابل، لكنه في صفنا، هو طاوس الدعاة، أكثرهم عبادة وأكثرهم نورًا، هو إبليس.
لكنه في الأزمنة المتعاقبة لا يكون إبليس ذاته، بل وارثًا لإبليس، يكون داعية زائفًا، يدعو لنفسه ولا يدعو الناس لله.
إن السلاح الخبيث والعدو الخبيث يشكلان ظاهرة واضحة تسبب انهيار الدعوات دومًا عندما يأتي زمان الحصاد، هي ظاهرة (نرجسية الدعوة) إذا استخدمنا مصطلح (النرجسية) الحديث للدلالة على الاستكبار والأنانية والعنصرية وتعدد الوجوه وفجر الخصومة وادعاء الفضل، وهي (جاهلية الدعوى) إذا أسمينا الأشياء بأسمائها، ونعتنا الصفات التي تحدث عنها اختصاصيو علم النفس الغربيين وحددوها للنرجسية، إذا نعتناها باسمها في الشرع الحنيف كما نعتها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين وجد الفخر بالعنصر الأبيض في أبي ذر -رضي الله عنه- يتيه به على بلال بعنصره الأسود فقال له رسول الله: "انك امرؤ فيك جاهلية". فهذه الصفات النرجسية في الحقيقة (جاهلية)، لقد وجدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صحابي جليل فأسماها (جاهلية)، فإن وجدناها نحن في دعوات إسلامية ودعاة إسلاميين نعتبرهم أجلاء فهي بلا شك أيضًا (جاهلية).
ولا شك حين نجمع الأحاديث بعضها إلى بعض نجد أن هذه الصفات إذا توافرت في داعية، وإذا سادت أهل دعوة مهما أسمت نفسها (إسلامية) فهي في حقيقتها ليست دعوة إلى الله! ولا تأخذ بأيدي منسوبيها إلى الجنة، ولكنها التي أخبر عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن دعاتها هم "دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها".
مظاهر النرجسية الدعوية:
فتعالوا نتحدث عن مظاهر (نرجسية الدعوى) وأقول دعو(ى) بألف اللين وليست دعوة؛ لأن الجاهلية على كل حال دعوى كاذبة! دعونا نتحدث عن الصفات الخبيثة تلك التي تنحط بها جماعة ما أو فكرة ما من مرتبة أنها (دعوة إسلامية) سامية وذات أهداف نبيلة، إلى حضيض أنها (دعوى جاهلية).
أولاً: العنصرية التفضيلية Ethnocentrism:
بحيث تعلن الدعوة أو الجماعة مجموعة صفات وسلوكيات مرغوبة لديها، مقدسة بين أهلها، مَن فعلها أو وُجدت فيه فهو المفضل على غيره، وهو الأولى بالنصرة والتوظيف والصدقات والتزويج وكل خير ومنفعة وفضل، هو أولى من غيره مهما كان غيره مسلمًا أتقى أو أولى منه بالنصرة لضعفه أو استحقاقه، وهذا تمحور حول فئة ما أنزل الله من سلطان بصفاتها ولا برهان من الله في يد تلك الدعوة بأفضلية أهلها، كأن يقولوا مثلاً: إن الأفضل هم أتباع الشيخ فلان، أو هم سكان الإقليم الفلاني، أو من التزموا مظهرًا معينًا من بين مباحات مظاهر المسلمين... وهكذا.
ورغم أن الأصل في الإسلام أن (الناس سواسية كأسنان المشط)، و(لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)، إلا أنه نتيجة التخييل والزيف ينظر من انتمى لهذه المجموعة أنه من عنصر أفضل، وذلك لمجرد انتمائه لا لتقواه، وربما غيرت هذه الفئة مفهوم التقوى وطوعته وفق هواها، تمامًا كما نظر إبليس إلى نفسه بأفضلية النار على الطين! ورغم أن الطين حقًا أفضل من النار لمنفعته وإفسادها، إلا أنها العنصرية هكذا تعمي وتصم.
ثانيًا: العنصرية التسفيهية Ethnophaulism:
بحيث تعلن الدعوة أو الجماعة مجموعة صفات وسلوكيات بغيضة لديها، مجرّمة بين أهلها، مَن فعلها أو وجدت فيه فهو من (الأغيار) كما يطلق اليهود على غيرهم، ويعاملون هذا (الغير) بكل دونية وتحقير وعداوة، مهما كان مسلمًا صالحًا، ومهما كانت له على الأمة من أيادٍ بيضاء وأعمال عظيمة، فتجد الصراع محتدمًا بين دعوتين أو جماعتين على هذا المنوال، فلو اعتنقت إحداهما فكرة (الإصلاح) وَصَمَتْ من اعتنق فكرة (الكفاح) بالتطرف، وترد معتنقة (الكفاح) على معتنقة (الإصلاح) بوصمة التهاون... وهكذا. وهذا رغم أن الأصل في الإسلام أن (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2].
وتنتج وتفرّخ هذه العنصرية التسفيهية بكل تأكيد مظاهر (الفجر في الخصومة)، التي قد تصل في أعتى صورها في بعض البلدان إلى الكيد لقتل داعية منافس أو الاشتراك في مكيدة لسجنه أو نفيه خارج بلاده! وهذا ليس من الدعوة ولا الإصلاح ولا الإسلام في شيء، إن هذا الاستقطاب لا تستفيد منه هذه الدعوة ولا تلك، وبالطبع نتيجة الاستقطاب لا تتكامل الدعوات، ولا تتعاون الجماعات، ولا تشد إحداها أزر الأخرى، بل تتعادى وتتلاسن، وربما بالطبع تتقاتل أحيانًا إذا توافرت الشحناء، ودَعَمَ القتالَ منتفعون من هنا وهناك، وكلا الدعوتين المتغايرتين على بعضهما هما في حبائل الشيطان، يهلكون أتباعهم مع الأسف!
ثالثًا: تقديس وتطويب الكبار Consecration:
بحيث تجد أشخاصًا -في ميثاق دعوة ما- لا ينبغي نقدهم أو الحديث بالسلب عنهم، ربما انتقد أتباع هذه الدعوة بعض الصحابة وعابوا الأئمة، لكن (فلانًا) قديس معصوم، لا ينبغي مجرد معارضته، ويكون على الأغلب حيًا يرزق، وهو منشئ هذه الدعوة أو قائدها الحالي، فمنسوب هذه الدعوة مع هذا القديس أو القديسة كالذين (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة: 31]، سواء بسواء.
فإذا كان للقديس رأي قديم شديد في مسألة: يحرمها تحريما شديدًا ويجعلها Taboo لا يمكن ممارسته؛ فإنهم يحرمونها، ويلفظون فاعلها، وينعتونه بأسوأ النعوت، فإذا عنّ لهذا القديس أن هذه الممارسة صارت جميلة لطيفة حُلوة فإنهم جميعًا يتبعونه كمن يتبعون وحيًا حرم شيئًا ثم نسخ حرمته فصار حلالاً طيبًا مباركًا؛ فهم يطيعونه طاعة الرب -عياذًا بالله-، ويعبدونه على الحقيقة (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) [الزخرف: 54]، فإذا رأيتم هذه الظاهرة -وهي كاسحة واضحة في دعوات كثيرة اليوم- فاعلموا أنها دعو(ى) جاهلية، يدعو أتباعها لعبادة قديسهم لا عبادة الله العزيز الحميد، بينما المعلوم من الدين بالضرورة أنه: لا أحد مقدس في الإسلام، لا عالم ولا داعية، ولا والد ولا الدة، ولا حاكم ولا محكوم؛ فكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
رابعًا: الانتحال والتقمص plagiarism:
وهذا في كتاب الله لصاحبه وعيد شديد؛ قال تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران: 188]، فإذا وجدت كبار الدعوة ينسبون لأنفسهم مؤلفات صغارها وأعمالهم، ويقتاتون على أمجاد صنعها غيرهم، حتى إن بعض الدعاة ينتحل لنفسه بعض كلمات وفتاوى العلماء الأقدمين! ويدعي أنه أول من قال كذا، أو أنه أول من أفتى بكذا، بينما قوله وفتواه منقولة بالحرف من كلمات إمام كبير قديم، لكن ربما كانت مطوية في مؤلف لذلك الإمام لم يشتهر!
فإذا رأيت هذا الانتحال، وخبرت هذا التقمص فاعلم أنك في دعو(ى) جاهلية، وأن هذه ليست دعوة إسلامية؛ لأن الانتحال من أوضح سمات النرجسيين؛ لأنهم كما يقول المختصون: (بلا ذات حقيقية)، ليست لهم شخصيات واضحة أصلاً، فينتحلون دومًا شخصيات غيرهم، ويعيشون على إمداد نفسي يوفره ضحاياهم، فهم أبرع الممثلين؛ لأنهم يمثلون على الناس في الحياة الواقعية لا أمام الكاميرات، وهم أخطر خلق الله؛ لأن الذي تراه شيخًا داعية للكفاح ربما هو في الحقيقة يهودي دعيٌّ جاسوس كما في قصة الجاسوس اليهودي (يهوذا فاضل) الذي اخترق القوات المصرية في حرب 1948م على أنه داعية كان يؤم الناس في المسجد الأقصى ومسجد خان يونس الكبير! حتى انكشف وتم إعدامه بصعوبة وبعد خراب كبير وسنوات من الاختراق والكيد والإفساد.
خامسًا: التقسيم الطبقي Stratification:
وهذا حين تتوسع سمات الأسرة النرجسية لتشمل مجتمعَ دعوة ما؛ فالبيت النرجسي يقسم أولاده ثلاثًا: (كباش فداء) يحملون المسؤولية، ويتلقون اللوم، ولا يُعترف بأفضالهم أبدًا، و(أبناء ذهبيون) تنسب إليهم الأفضال، وتبرر أخطاؤهم، ويحوزون كل المكاسب والمناصب، و(أبناء لا شيء) لا يحملون المسؤولية، ولا يصعدون سلم الوصول لقيادة الأسرة. فإذا رأيت دعوة ما أو جماعة ما تعامل منسوبيها تلك المعاملة فاعلم أنها جاهلية لا إسلامية، ومن ضمن ذلك السمة السابقة في ادعاء الأفعال والمؤلفات وغير ذلك، كباش الفداء يصبرون ويبدعون ويعملون، بينما الذهبيون يفسدون ثم يجنون المكاسب، أما الإسلام فقد أتى بمعرفة الفضل لأهل الفضل، وبتوقير الكبير لسنة، ورحمة الصغير لضعفه، وإعطاء كل ذي حق حقه.
سادسًا: انشقاق الأجنحة Separated wings:
في الدعوات السوية قد ينشأ الخلاف على فكرة ما أو حول أحقية شخص ما بالقيادة، أو حتى بسبب قرار اتخذته القيادة في حادث جلل، ويتطور هذا الخلاف إلى انشقاق، وهذا وارد بين عباد الله الصالحين والمصلحين على حد سواء، وقد كان بين الصحابة وهم أشرف الخلق بعد الأنبياء، ومع اعتبار أن الحق واحد وهناك طرف لديه أكثر الحق وطرف لديه أكثر الباطل، لكن إذا رأينا دعوة أو جماعة فيها من الصفات التي تكلمت عنها في هذه المقالة فهي ابتداءً ليست دعوة سوية، ومن ثم فلن يكون خلافها سويًا ولا انشقاقها من أجل إحقاق الحق والعدل، هنا وفي حالة هذه الدعو(ى) العنصرية التسفيهية التطويبية الطبقية، هنا فإن انشقاقها إلى (صقور) و(حمائم) لا يكون منبته إلا التقسيم الطبقي داخل هذه الجماعة، لا بسبب توزيع الأدوار وتسكين كل موهوب في موضعه الذي يحسنه كما في أحوال الكيانات الطبيعية السوية، بل هو تقسيم طبقي مقيت، والذي بدوره هو نتاج توسعة التقسيم النرجسي للأبناء.
فتجد في هذه الجماعة من يصدعون بالحق، ويتلقون لوم اللائمين، وربما تلقوا رصاص مخالفيهم في صدورهم، وشُوهت سمعتهم، وهؤلاء (كباش الفداء)، بينما تجد في هذه الدعو(ى) أو الجماعة من يبقون دومًا آمنين، لهم قنوات مع كل أعداء مخالفيهم ومصالحهم تعمل بكفاءة ولا يعيبهم أحد، وهؤلاء هم (الأبناء الذهبيون)، ثم تجد جمهور الدعوى أولئك (اللا شيء) الذين لا هم من هؤلاء المطحونين، ولا أولئك المنعمين، لكنهم على كل حال لدعوتهم مخلصين بلا منفعة ولا ضرر! بينما الأصل في الإسلام أن (المسلمين يد واحدة على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم).
سابعًا: التلاعب النفسي manipulation:
وهنا ربما أكثر فقرات مقالتي غرابة؛ فقد كنت في حوار طويل مع أحد الاختصاصيين النفسيين، وكان مدار الحوار عن نجاح بعض الدعاة في جمع الأتباع الكثيرين مع فشلهم التام في تغيير هؤلاء الأتباع للأفضل! بمعنى أن الداعية جمع له جمهورًا لكن لم يجمع لدين الله أحدًا، سألت الاختصاصي عما يراه سببًا لذلك فأجابني: أن هذا الصنف من الدعاءة يدعو لنفسه ولا يدعو إلى الله، وزادني: أن الدعوة إلى الله رسالة تخاطب (الوعي)، بمعنى أنها تدور حول الإقناع بمفهوم شريف ما، أو توضيح حقيقة غائبة، أو مقارنات بين حال الناس مع الدين وحالهم بعيدًا عنه، وأن الدين في صلاح الحال والبال، لكن هؤلاء الدعاة يخاطبون (اللاوعي)، يخاطبون غرائز ورغبات خفية، فيحدثون الناس عن مفهوم مغلوط مثلاً عن (الحياة الطيبة)، ويصورون للناس أن من يلتزم التدين سيكون آمنًا معافى، وسيصلح حال أولاده تلقائيًا، بينما الحقيقة أن من يتدين بجد سيكون أول من يصيبه البلاء، وسيصارع كثيرًا في حياته وفي تربية من يحب، يخاطبون (اللاوعي) بوعود كاذبة ما تلبث أن تتبخر، أو يلتزمون هم بتوفير خدمات ورعايات متلفة لجمهورهم ليبقوا حولهم وليس حول الدين، وهذا ليس تدينًا في الحقيقة، بل ترويج للذات.
وهنا درستُ هذه الشخصيات جيدًا؛ فجميع هذه الشخصيات التي درسها صديقي دون استثناء: تعاني معظم الصفات التي تحدثت عنها في مقالتي هذه وأكثر منها، وأكثرهم يسهل تصنيفهم باضطراب الشخصية النرجسية، ليسوا من النوع النرجسي الاستعراضي Exhibitionist Narcissist، ولكن من النوع النرجسي الخفي Covert Narcissist الذي يُظهر غير ما يُبطن، الذي يبدو مسكينًا زاهدًا رث الثياب قليل الطعام، بينما شهوته الحقيقة هي محض السيطرة على الناس، السيطرة المطلقة، تلتمع عيناه وينتشي عند تعظيم الأتباع له، فلا يرغب في النساء ولا السيارات ولا البيوت الواسعة، لكن يرغب في كثرة الأتباع وخوض المعارك داخل الدعو(ى) وبين أجنحتها، ويشعل الصراع مع الدعوات والجماعات الأخرى، ويتغذى ويتعاظم ويزدهر على الأحقاد والآلام التي تنشأ من أتون تلك الصراعات، وبالطبع هؤلاء هم أساتذة الطعن في الظهر، وتدمير سمعة الدعاة الآخرين المخلصين وتقويض جهودهم. وهكذا تتحول المعارك بفعل هؤلاء المضطربين من كونها معارك وصراعات لله إلى كونها في سبيل مجد الذات.
ثامنًا: السيطرة النفسية Coercive Control:
الطبيعي أن دين الله هو بلسم الجروح، وهو شفاء الروح، وأننا بالأصالة نبحث عمن حطم نفوسَهم الناسُ وعدت عليهم نوائبُ الدهر لنقدم لهم شفاء كتاب الله ونقاهة سنة رسوله، لكن -وكما في السمات السابقة- فإن الداعية الزائف الذي هو من صنف الحشائش الضارة في حقل أزهار بقية الدعاة المخلصين؛ هذا الداعية لنفسه هنا ينتقي فرائسه من المحرومين عاطفيًا، أي ينتقي الفتيان والفتيان نتاج البيوت النرجسية التي حطمت نفوس أبنائها، وأخرجتهم جائعين لمصادر بديلة غير حنان الأم المفقود، واحتواء الأب الغائب، ينتقيهم لا ليقدم لهم دواء كتاب الله ولا نقاهة سنة رسوله، فهو لا يجيد هذا الدواء ولا يعرف حقيقة هذه النقاهة، لكنه ينتقي المكسورين ليسهل عليه قيادهم، ويوفر لهم عبر تقنية (مخاطبة اللاوعي) حلولاً تقودهم إليه لا إلى الله.
ولا يتم اختيار كافة الأتباع بهذه الطريقة -وإن رأى كل منضم جديد أنه يخوض حقًا مرحلة من إغداق الحب غير طبيعية- لكن يتم التركيز على من سيكون لهم دور في إدارة تلك الدعوة بعد ذلك؛ لأن الداعية الزائف يعرف حقيقة أنه في دعوته الزائفة تلك لا إيمان حقيقي سيربط الأتباع، فينتقي أتباعًا قلوبهم خاوية من مقام الأب، ينتقي أبناء الآباء المؤذين ليحل هو نفسيًا في قلوبهم محل الأب، وتسهل سيطرته عليهم، ويصعب انفصالهم عنه أو فضيحته مستقبلاً مهما عرفوا عنه من مخازٍ ورزايا، سيحبونه حب الأب، ويسترونه ستر الابن للأب، هذا ليس تلاعبًا كالصفة السابقة، ولكنه (سيطرة نفسية)، ثم يلعب دور (قس الاعتراف)، ويوهمهم أنهم ينبغي لهم حكاية مخازيهم ليعالجهم ويعينهم على تجاوزها، بينما المبدأ الإسلامي يقتضي ستر الإنسان على نفسه، فتجد التابع قد باح بمخازيه تفصيليًا لذلك الذئب، فانكسر أمامه نفسيًا لا انكسار الابن لأبيه، لكن انكسار العبد لربه، وهنا تكتمل دائرة السيطرة!
نحن عندما ندقق النظر جليًا في صفات من نطيعهم أو نطاوعهم أو نسمع لنصيحتهم لا نكون مرضى شكٍّ ولا ذوي حساسية! لكن ينبغي للمرء أن يتثبت لدينه: من يتابع؟! فأهداف الناس لا تتساوى، وكثيرًا أهدافهم الحقيقية لا تتطابق مع لافتات أهدافهم المعلنة، فعليك -أخي- إذا أردت اتباع داعية أو الانضمام لدعوة أن تنظر لهذه السمات التي تحدثت عنها، أهذه الدعوة تنصح بالإسلام حقًا؟! أم هي دعو(ى) تجذبني من الإسلام إلى الجاهلية؟! أتصلح بين المسلمين أم تفسد؟! أتعبِّد الناس لرب الناس؟! أم تعبِّد الناس للناس؟! أهي حرة مستقلة من أغراض الهيئات والحكومات؟! لا تتبع إلا رب الهيئات والحكومات؟! أم هي وسيلة ألعوبة في يد هذه الهيئة أو تلك الحكومة؟!
إن زيف الدعاة وفساد الدعوات هو أخطر من مجرد فساد رأي الدعاة أو انحراف اتجاه الدعوات؛ لأن المخطئ يثوب إلى رشده، لأن المنحرف يمكن تقويمه، أما المخادع فهو شيطان! شيطان من شياطين الإنس لا يرجو لنا خيرًا، ولا يعرف الرب الذي نرجوه بالخيرات ونستعيذه من الشر والبليات، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الأنعام: 112]. فلنحذر ما حذرنا الله منه، لنذر هؤلاء ولا نكون لهم تبعًا، لنذرهم وما يفترون!
ينبغي لكل عاقل ألا يسمح لإبليس ابن آدم، داعية الجاهلية، بوق أبواب جهنم؛ أن يعلو ويسود، وأن يتحدث باسم الحق، ينبغي ألا يتحدث الشيطان باسم الله أبدًا، فهكذا هبط آدم، ولن نعود للوطن المنشود إلا بانتصار ساحق في تلك المعركة، معركة من يدعو؟! وإلى أي شيء يدعو؟! إلى الإسلام أم إلى الجاهلية؟!
نور الهدى
مقال رائع جزاكم الله خيرا