تأتي تلك المقالة على قصرها لتلقي لمن أراد أن يطأ بهمته هذا المجال ثلة أفكار تفيده في تفعيل نية الخير لديه، فأنت وإن كنت طالبًا محترقًا تريد أن تُفعل طاقة الدعوية داخل جدران الجامعة، أو جامعيًا سابقًا تريد أن تصحح مسارًا أو تستدرك فائتًا..

لا شك أن العمل الدعوي هو ميدان البذل والتضحية، وهو وظيفة الأنبياء ودأب العلماء والمصلحين على مر الزمان، وهو سلاح المؤمن لمواجهة الباطل، وهو دليل الإيمان لمن يحترق قلبه لرفعة الإسلام، وهو إرادة نفس تأبى الباطل أن يسود، وهو قلب يأبى الدعة والخمول.

والشباب هم وقود الدعوات، وطاقة الأمة المحركة لها، وهم قادة التغيير على مر العصور، وبهم نصر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ فقلوبهم أشرب للحق، وعقولهم أحفظ للعلم، ونفوسهم أقدر على الصبر.

والجامعة تحوي الكفاءات المستقبلية، والهمم المتطلعة، والطليعة المتعلمة الرائدة في مجتمعاتنا الحديثة، وعليهم ركيزة البناء والتغيير؛ فقد اجتمعت لهذه الفئة مقومات وأدوات لا تتوفر لغيرهم؛ لذا كان الاهتمام بتلك الفئة والتركيز عليها لإخراج الخير من داخلها وتهيئتها للتأثير في مستقبل مجتمعاتهم من الأهمية بمكان، وتأتي تلك المقالة على قصرها لتلقي لمن أراد أن يطأ بهمته هذا المجال ثلة أفكار تفيده في تفعيل نية الخير لديه، فأنت وإن كنت طالبًا محترقًا تريد أن تُفعل طاقة الدعوية داخل جدران الجامعة، أو جامعيًا سابقًا تريد أن تصحح مسارًا أو تستدرك فائتًا؛ فإني دالُّك على خطوات للتخطيط والعمل، وهي تجمع إليك خبرة عملية مع تأصيل نظري.

يمكن تقسيم أوقات العمل الدعوي التربوي داخل الجامعة إلى عدد من المراحل:

أولاً: وقت إبداعي:

وهو عملية التصورات الذهنية التي تسبق العمل، وتشمل الهدف النهائي، والمراحل المختلفة التي يمر بها، وصولاً إلى الأهداف المرجوة، والتي سنفرضها هنا، وهو تشكيل النواة الصلبة، والتأسيس لعمل دعوي تربوي مؤسسي مستمر داخل بيئة العمل الطلابي في الجامعة، مع الوقوف على الأدوات والأساليب المتبعة للوصول للهدف النهائي.

في المحور الإبداعي الصفة الأولى الملازمة له أن تكون صياغته قابلة للقياس؛ فإن المأمول هو تكوين نواة صلبة لها مواصفات خاصة، فنحتاج إلى تشعبها في كافة الكليات وفي الصفوف الدراسية المختلفة لضمان استمرارية العمل في الأعوام التالية، وانتقال الخبرات وتبادلها بين الفرق الدراسية المختلفة.

في المحور الإبداعي يُتخير من الطلاب الأذكياء وذوو الأنساب؛ فالبيوتات الأصيلة تخرج أشخاصًا يحملون صفات الثبات والكرم والمروءة، والناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة، ولا يخفى أثر الدعوة إذا خالطت بشاشتها قلوب الأذكياء الأفذاذ.

ومن سمات الشخصية في اللبنة الأولى وضوح الفكرة تمامًا في عقله، وانتماؤه إليها بقلبه، واستعداده للبذل والتضحية، فالهدف المرجو أن يحمل الأولون في بداية الطريق الذي تخطه وضوحًا لا لبس فيه للفكرة، ولا تواني فيه عن عزم.

ثم تأتي مرحلة توثيق الروابط بين أفراد المجموعة الدعوية الأولى اجتماعيًا وتربويًا عن طريق تحقيق أركان المجموعة التربوية من تعارف وتفاهم وتكافل؛ بحيث يؤدي ذلك إلى تقوية الروابط الاجتماعية بين الأفراد، كما يجب توثيق الروابط التنظيمية داخل المجموعة الدعوية الرائدة. وإنما يتم ذلك بالممارسة العملية والتطبيق والرقابة والمتابعة، الرقابة الذاتية من أفراد المجموعة ومن المسؤول عنها.

فهم مجموعة من الأذكياء أصحاب الهمم، مؤتلفة قلوبهم، واضحة الفكرة في عقلوهم، وعلى الاستعداد للبذل والتضحية من أجل نشرها، منتشرون في الفرق والصفوف المختلفة. وهذا هدف قابل للقياس كما ذكرت لك.

من سمات الشخصية في اللبنة الأولى وضوح الفكرة تمامًا في عقله، وانتماؤه إليها بقلبه، واستعداده للبذل والتضحية

فإذا تم لك ذلك ونجحت في تكوين اللبنة أو المجموعة الأولى المختارة فلا مناص من التحول إلى مرحلة التخصص، وعمل تصور شامل لإنشاء اللجان المختلفة، والشروع في إنشاء هيكل تنظيمي قائم على النظام الشبكي الذي يتوزع فيه عمل الفرد بين الفرقة الدراسية المنتمي إليها ويتعاون مع مسؤولها، وبين انتمائه لإحدى اللجان الدعوية حسب خبراته ومهاراته المكتسبة. فيكون هناك مسؤول الفرقة الدراسية الذي يتعاون معه كافة الطلاب المنتمين إلى الدعوة في هذه الفرقة، ومسؤول اللجنة الذي ينتشر أفراد لجنته في الفرق المختلفة للكلية أو الجامعة.

ثانيًا: وقت تحضيري:

وهو الوقت الذي يتم فيه جمع المعلومات وتصنيفها ومعرفة كيفية الاستفادة منها، وكيفية توظيف القدرات والخبرات الموجودة، وتجهيز الأدوات المناسبة للبدء بالعمل.

في الجانب التحضيري يتم جمع المعلومات وتحليل بيئة الجامعة، ويشمل هذا تحليل العديد من المحاور، ابتداءً بأعداد الطلاب المنتمين وخلفياتهم، سواء الجغرافية، أم الاجتماعية أم الاقتصادية أم الدينية.

فسكان الريف على سبيل المثال أكثر محافظة في السلوك والأفكار، لكنهم أكثر تحفظًا وخوفًا، وأقل رغبة في التغيير والتحول، لكنهم في الوقت نفسه قد يكون للبعد المكاني عن مكان السكن ووجودهم فترة أطول في بيئة جديدة أسهل في وصول الفكرة والانتماء إليها.

وتختلف طبيعة الطلاب الدراسين في الكليات العملية عن أقرانهم في الكليات الأدبية؛ فلدى الأخيرين متسع من الوقت ومجال أرحب للحركة، والأولون أميز بنباهتهم وسرعة تقدمهم، وهذا على الأغلب، وفي كلٍّ خير.

كما يدخل في تحليل بيئة الطلاب الاتجاهات الفكرية والدينية والثقافية المنتشرة بين طلاب الجامعة، سواء أكانت اتجاهات علمانية ليبرالية أم دينية تحمل قدرًا من الانحراف، مثل الجماعات والطرق الصوفية التي لديها جنوح للتطرف، أو غيرها من الجماعات والتيارات الدينية. وتصنيف تلك التيارات، والوقوف على مواطن الخلاف، ومدى إمكانية التقارب مع بعضها أو تحييدها أو التحذير منها؛ أمر بالغ الأهمية.

ثم تأتي البيئة القانونية للجامعة والأطر العامة التي تحكم العمل الطلابي، فبعض الدول تسمح بما يسمى اتحاد طلاب، وتكوين الأسر الثقافية المختلفة، والذي يشرف عليها أساتذة الجامعة، وقد يُترك للعمل الدعوي هامش من الحركة من خلال تلك الأطر التي أقرتها الجامعة، وقد يُضيق عليها؛ لذا يجب دارسة البيئة القانونية للجامعة جيدًا، ومحاولة استغلال الهامش المتاح لأقصى درجة ممكنة.

من المهم أيضًا الوقوف على اتجاهات ورؤى هيئة التدريس، والتعرف على مدى قربهم أو تعاونهم مع الطلاب، وأيهم أقرب إلى دعم التيار الدعوي والاستعداد للمشاركة فيه، ومن منهم يحمل العداء للتوجهات الدعوية ويسعى لتقويض وجودها داخل الجامعة.

ومرحلة جمع البيانات هذه تبني عليها رؤيتك وتصوراتك في أي الأساليب والأدوات التي ستستخدمها في المرحلة الأولى، هل ستبدأ بالدعوة مباشرة، أو تأجيل ذلك وتكوين روابط من الصداقات والمعارف؟! وهل ستبدأ داخل أطر العمل الجامعي المصرح به أو من خارجه؟! وغيرها من الأسئلة التي من المفترض أن تحمل هذه المعلومات الإجابات الممكنة عليها.

مرحلة جمع البيانات هذه تبني عليها رؤيتك وتصوراتك في أي الأساليب والأدوات التي ستستخدمها في المرحلة الأولى.

ثالثًا: وقت تنفيذي:

وهو الوقت الذي تيم فيه الاحتكاك مباشرة مع الواقع ومحاولة تحقيق الأهداف؛ لذا فمن المهم استصحاب المرونة لتعديل الأهداف والوسائل والأدوات كلما بدت المشكلات أكبر من تخطيها؛ حيث إن الجهد المبذول في الوقت الإبداعي والتحضيري مهما كان متقنًا فسيبقى الواقع هو الحكم الأساس في القدرة على إمكانية التنفيذ.

يظل المسجد هو مأوى الأرواح وملتقى القلوب، فيه تتعارف فتأتلف، ومنه يتخرج الأبطال، فلا بد أن يكون لنا موطئ قدم به، وإن لم يكن ثمة مسجد في الكلية أو الجامعة فالحرص على إقامته واجب، ناهيك عن كافة ملتقيات الطلاب في قاعة الدرس وأماكن الانتظار، فكلها منطلق للدعوة ومنشأ لها.

السكن الجامعي هو محضن تربوي مهم؛ به يتوفر الوقت لمعالجة قضايا الطلاب وحل مشكلاتهم، والخروج معهم في نشاطاتهم ورحلاتهم وزياراتهم، وهو يوفر روابط إنسانية نادرًا ما تتكون في غير بيئة المعايشة هذه، وهو الأمر الذي تتميز به تلك المرحلة العمرية التي تحمل قدرًا كبيرًا من التدفق العاطفي والرغبة في تكوين الصداقات والأصحاب، وبه تتكشف المواهب والكفاءات، وكذلك العوائق والمشكلات التي تكتنف الطلاب، وبه تسهل المتابعة الدعوية التي هي أداة مهمة في عملية التقييم الدعوي والإشراف على عملية التطور الإيماني؛ فالسكن الطلابي مغنم دعوي، وفي مرحلة التأسيس حبذا لو وفرت للطلاب الجدد هذا المحضن فتقيم معهم، فتكون الرائد، ومنه ترتقي بمن اخترت.

يظل المسجد هو مأوى الأرواح وملتقى القلوب، فيه تتعارف فتأتلف، ومنه يتخرج الأبطال، فلا بد أن يكون لنا موطئ قدم به.

رابعًا: وقت تقييمي:

وهو أهم الأوقات؛ به تَعرف أين وصلت ومن أي تُؤتى، والتقييم لابد له من ضرب موعد مسبقًا، وليكن في نهاية الفصل الدراسي أو نهاية العام، وتُقَيَّم الأهداف مجتمعة ومنفردة، وفي كل مرحلة على حدة. وكما ذكرت لك لا بد أن تكون أهدافك من قبل مقيسة؛ فتكون محددة بالمكان والزمان، والمستوى العلمي والإيماني... إلخ.

والتقييم نوعان: رأسي وأفقي؛ فتطور الأعداد وزيادتها، وتشعبها بين الفرق، وانتشارها في الكليات المختلفة؛ هو نوع تقييم رأسي، وتطور مستوى المنتمين للدعوة، وتقدم تحصليهم العلمي، وتغير سلوكياتهم، ولين أفئدتهم للإيمان، وتوسع خبراتهم الدعوية؛ هذا ما نسميه تقييمًا أفقيًا، وكلا الجانبين مهم، وبهما يؤشر منحنى جهدك صعودًا وهبوطًا.

وأخيرًا.. تنحَّ إذا لم تسطع أن تصل إلى أهدافك التي وضعت، ولا تقل: ويأتي النبي وليس معه أحد، والدعوة بلاغ. فهذا -وإن كان صحيحًا لا جدال فيه- إلا أنك لست ممن أوحى الله إليهم، فإن لم تسطع شيئًا فدعه، وميادين الدعوة إلى الله لا يعدمها أحد، فأن تُقرئ طفلاً آية من كتاب الله وتتقن هذا، أو تلقي موعظة بليغة فتوقظ القلوب، أو تدرس بابًا من العلم وتعلمه؛ خير لك من أن تتصدر –بلا إمكانات- في ريادة عمل دعوي تربوي يحتاج إلى عقلية تحمل رؤى للمستقبل وتدرك الواقع التي تتحرك به، ولديها قدرة على جذب القلوب حولها. ولا أحدثك عن الإخلاص والعلم والعمل ونقاء العقيدة وصحة التأسي بسنته -صلى الله عليه وسلم-؛ فهذا مصحوب في كل عمل. وإنما ذكرت لك جوانب عملية إجرائية، وهي لمن ارتقى في سلم الوصول إلى الله -عز وجل-، وبه مُكنة التصدر للإصلاح. 

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة