على المربي أن يكون حاذقًا في الإلزامات التي يفرضها الإلحاد على نفسه حتى يختصر الطريق على السائل المتشكك أو السائل القاصد للشر..
تبدأ
المشكلة الإلحادية من حيثيتين تخصان الحياة الجامعية:
الأولى:
أن العلوم التي تقدَّم بعيدة عن الإنسان وأشواقه الوجودية كما يخبرنا عالم
الاجتماع (كريستن سميث) في مقاله (التعليم يغرق في الهراء)؛ حيث قال: (هذا الهراء
هو فقدان الجامعة لقدرتها على التعامل مع الأسئلة الكبرى في الحياة؛ بسبب أزمتنا
الإيمانية مع الحقيقة والواقع، والمنطق والدليل، والحجاج والتحضر، ومشتركنا
الإنساني).
فغالبية
الجامعات من حيث المبدأ لا تهتم بالوضع الإيماني لروَّادها، بل الأمر عكس ذلك؛ فهي
تفتح على واردها اللهو والدنيا، وتبعده عن الجبيئة التي عليه وعلى دينه، بل إن
كثيرًا من التقارير ترى أن الجامعة -في الأغلب- تخرّج من ليس له مستقبل دنيوي؛
فالجامعة في وضعها الحالي لا دينًا أقامت ولا لدنيا هيأت.
أما
الحيثية الثانية فهي أن الجامعة تملأ حياة واردها وتوهمه بأن حياته مكتظة، فإذا
انتهت هذه الحياة أو انقطعت لذاتها وجد ذاته فارغة، وكل هذا التكثير عبارة عن سراب
وهراء يحسبه الظمآن ماءً وما هو ببالغه.
وأذكر هنا قصة حدثت مع
الإمام الغزالي لها متعلق مباشر بما سنطرح هنا، حيث وفي
أثناء عودته إلى بلدته (طوس) قطع
اللصوصُ عليه الطريق، وأخذوا منه مخلته التي فيها كتبه وكراريسه؛ ظنًّا منهم أن
فيها نقودًا ومتاعًا، وساروا في طريقهم، فتبعهم (أبو
حامد) وأخذ يلحُّ عليهم أن يعطوه أوراقه وكتبه التي هاجر من أجلها ومعرفة
ما فيها؛ وقال لهم: خريطتي لا تُفيدكم بشيء، أعيدوها إليّ. فقال
له رئيسهم: وماذا في الخريطة؟ قال: قلتُ: كتُبي؛ علوم درستها وهي محفوظة في هذه
الخريطة. فضحك كبير اللصوص وقال له: كيف تزعم أنك عرفت عِلمها وعندما أخذناها منك أصبحتَ لا تعلم شيئًا
وبقيتَ بلا علم؟!
يقول
الإمام الغزالي في ذلك: هذا مستنطق أنطقه الله ليرشدني به في أمري، فلما وافيت طوس
أقبلت على الاشتغال ثلاثًا حتى حفظتُ جميع ما عقلتُه، وصرت بحيث لو قطع عليّ
الطريق لم أتجرد من علمي.
فيمكن
أن ننزل هذه القصة على واقعنا؛ فالكثير يذهب للجامعة وكراسته الإيمانية من أوراد
وصلة بالله وعبادته منقطعة؛ فعند أول طارق لباب الشبهة مع عدم وجود آلية إيمانية
وعقلية سليمة يسقط الإيمان ويسقط معه الدين.
بين
المراهقة وزمن التكليف:
إن
المصطلحات التي نطلقها على مرحلة عمرية معينة لا تعد مصطلحات أو أسماءً فارغة، بل
هي عبارة عن أسماء تتحرك داخل حقل دلالي حي؛ يترتب عليه كيف نفهم المصطلح وكيف
نتصرف بناءً على فهمنا له، وأعطي مثالاً هنا؛ فعندما نقول: دعه فهذا (طفل)؛ نحن
نستبطن داخل اسم الطفل مجموعة من المفاهيم الضمنية؛ منها على سبيل المثال: أن
الخطأ في حقه طبيعي لأنه طفل، وأنه غير محاسب لأنه طفل. إذًا كل مصطلح يحمل بين طياته
حركة دلالية وسلوكية، وعدم إدارك قيمة هذه الدلالة فيه إشكالات كثيرة كما قال
الإمام ابن حزم: (الأصل في كل بلاء وعماء وتخليط وفساد: اختلاط الأسماء، ووقوع اسم
واحد على معانٍ كثيرة، فيُخْبِر المُخبر بذلك الاسم وهو يريد أحد المعاني التي
تحته، فيحمله السامع على غير ذلك المعنى الذي أراد المخبر، فيقع البلاء والإشكال).
[الإحكام في أصول
الأحكام (8/101)].
لماذا
أذكر ذلك وما علاقته بمبحثنا هنا؟!
أذكر
ذلك لأنبِّه المربين -وأولهم الآباء والمعلمون- على الخروج من الحمولة الدلالية
للفظ (المراهق)، فهي كما يشير الدكتور عبد الله الطارقي في كتابه (دعه فإنه مراهق)
تحمل حمولة دلالية من قبيل السفه والخفة وركوب الشر. [دعه فإنه مراهق، عبد الله الطارقي ص179].
فإذا
كان هذا ما تعنيه الكلمة فنتَّجِه سلوكيًا بصورة لا إرادية للتعامل المتراخي مع
المراهق لكونه سفيهًا ولا يدرك مصلحة نفسه. هذا ينعكس بشكل مباشر على العلاقة بالإلحاد،
فنحن لابد -من حيث المبدأ- أن نجهز المكلَّف فور سن التكليف بالواجبات العلمية
والعملية، وإلا نعتبر مرحلته نوعًا من الطيش؛ لأن هذا الإهمال قد تنبت فيه أبشع
بذور الشك واللامبالاة التي تقود إلى التعامل مع الدين بطريقة استسخافية؛ حيث
حياته كلها قائمة على مفهوم السفه والسخافة وانعدام الاتجاه. إذًا حتى ننضج هذا
المفهوم لابد أن نركز فيما قبل المرحلة الجامعية ونبني في نفوس المكلفين عزة
معرفية وسلوكية تمكنهم من الاستطالة بالحق كما يستطيل أهل الباطل بباطلهم.
وقبل
أن أدخل على هذه البنية أريد الإشارة إلى إشكالية خاصة تخص الشباب الجامعي من
الناحية العلمية والعملية؛ تخبرنا ماريو دي بولانتونيو في مقالها الماتع: ضيق
الروح في بيئة العمل.. الدافع نحو الإبداع، تحقيق الذات، والفضول في التعليم([1])
عن إشكالية عويصة في أنظمة التعليم وأنظمة العمل، تتمثل في أن التعليم يهتم فقط بالدراسات
التي تخص الدماغ أو التفكير أو ما يسمى عقلًا، وفي ظل ذلك يتم نسيان الإنسان
كناحية جسدية وروح، وكأنه آلة يتم برمجتها وإدخال المعلومات فقط، فإهمال الروح في
العملية التعليمة يؤدي لإنتاج إنسان أداتي يتجه نحو الوظيفة وفقط.
ولهذا
على المربي أن يحاول إعادة مصطلح الروح للعملية التعليمية؛ فالإنسان عندما ينجز
يضيف لروحه كما يضيف لمحفظته، والإنسان عليه ألا يترك روحه في صحراء قاحلة حتى إذا
جاءت شبهة عصفت بالرمال في عقله وأدخلته في إشكالات لا حصر لها.
أدخل
الآن لمجموعة من النصائح العملية في بناء المربي وفي كيفية تعامله مع الشبهات بشكل
عام:
1.
البناء الشرعي السليم:
على
المربي أن يهتم بالبناء الشرعي السليم للمتربي؛ حيث إن كثيرًا من الإشكالات
والشبهات التي تعرض يمكن حلها في كون المرء يملك عدة معرفية شرعية متينة، وهذا يمكّن
المربي من تشخيص الشبهة بدقة دون أن يقع في إلزاماتها المغلوطة، فشبهة مثل شبهة أن
القرآن به أغلاط نحوية، من السهل على طالب العلم الشرعي الإجابة بأن القرآن أحد
مصادر النحو لا العكس، فينهي النقاش بمعرفته الشرعية المتينة.
وقد
أتيحت الآن العديد من المشاريع العلمية والمعرفية التي يستطيع المربي من خلالها أن
يلتحق ببرامج متخصصة مثل صناعة المحاور، أو برامج مساق؛ فهي تعينه على التدرج
الجيد في بناء علومه الشرعية والعقلية.
2.
كثافة الاطلاع:
على
المربي أيضًا أن يكون مطلعًا جيدًا على العلوم الإنسانية والتجريبية؛ لما فيها من
فائدة في تتبع الوضع العلمي على المستوى العالمي؛ فالعلوم الإنسانية والتجريبية
تمكّن المربي من الاطلاع المجمل على خارطة المباحث، والتي من خلالها يستطيع أن
يحدد أنماطًا فكرية مستقبلية قد تثير الإشكالات؛ فعلى سبيل المثال سنكون ملزمين بالرد
على إشكالات تأتينا من علوم الجينات ومن علم الأعصاب ومن علم الاجتماع، وطبعًا لن
يستطيع المربي أن يحيط بكل هذه المعارف، فماذا نصنع؟! هذا ما أجيب عليه في النقطة
الثالة.
3.
بناء شبكة علمية ومعرفية بين المتخصصين والمربين في هذه المجالات:
فهذا
يساعد المربي والباحث على حد سواء في الإجابة على إشكالات لا يتمتع المربي فيها بعلم
دقيق، فعلى سبيل المثال إذا أتى للمربي إشكال فيما يخص فيزياء الكم؛ فالشبكة
المعرفية ستعينه على طلب المساعدة من المتخصصين، وهذا بحد ذاته يزيد من قاعدتنا
المعلوماتية والمعرفية على المستوى الطويل.
4.
استخدام أدوات المحكمات الكونية والشرعية:
يمكن
للمربي الاستعانة بأدوات المحكمات الكونية والشرعية لرد الشبهات مجملاً ليبرد نار
الشبهة في قلب السائل، فعلى سبيل المثال لو أن شخصًا احتج على صحة نظرية التطور ببعض
الأعضاء التي لا نفهم عملها، وقال: إنه لا فائدة منها = فلابد أنه لا يوجد خالق
تام العلم يخلق شيئًا ناقصًا؛ فنقول له: إن محكم الجسد منظم تنظيمًا باهرًا، وإذا
وجد شيء لا نفهمه يعتبر متشابهًا، والعاقل من يرد المتشابه للمحكم لا العكس، فلابد
أن لهذا المتشابه الذي لم نفهمه محكمًا وهو النظام المتقن شديد الاتقان.
5.
المعرفة قبل الرد:
على
المربي أو الذي يتعامل مع فئة الشباب ألا يتعجل في الدفاع قبل المعرفة، فإذا أتاه
سؤال من متشكك ولم يعرف إجابته عليه أن يطلب الوقت، ولا يتعجل في الإجابة؛ لأنها
ستضعه ودينه في موقف محرج، فالمشكك أو السائل قد يكون المربي المتدينُ هو الدينَ
بالنسبة به، وأذكر مثلاً على ذلك أن أحد المتشجعين حين سُئل عن نظرية داروين أجاب
بكل ثقة: لقد سقطت في الغرب!! وهذه إجابة خاطئة كليًا، وتعطي للملحدين فرصًا
للاستهزاء والدخول إلى قلوب الشباب بالمجان.
6.
استخدام الإلزامات الإلحادية:
على
المربي أن يكون حاذقًا في الإلزامات التي يفرضها الإلحاد على نفسه حتى يختصر
الطريق على السائل المتشكك أو السائل القاصد للشر، ولأضرب مثلًا على ذلك: ألحدت
أنثى بسبب اغتصاب ابنها وقتله، ونحن هنا نستوعب الهزة التي حصلت لها، فهي مرعبة
على الجانب الإنساني، لكن الانتقال بسبب هذا للإلحاد هو اهتزاز عاطفي ومتسرع،
فماذا سيفعل لها الإلحاد؟!
لنأخذ
السيناريو إلى أقصاه؛ فالإلحاد يؤمن أن البشر ليس لديهم قيمة مميزة تختلف عن باقي
ما في هذا الكوكب، فإن كنا مجموعة حثلات بيوكميائية كما قال ستيفن هوكنج فماذا
يعني اغتصاب طفل وقتله؟! لماذا سيكون هذا غلطًا؟! لن يجد الإلحاد إجابة، بل الأكثر
مرارة أن الإلحاد قد يتوقف عن الجواب ولا يعلم أن هذا الفعل صحيح أم خطأ، فكاهن
الإلحاد ريتشارد دوكنز قال: ما الذي يدفعني للقول بأن هتلر كان مخطئا؟! يقصد بذلك حرقه
لليهود.
بل
المصيبة الأكبر لو خرج لنا مؤمن بنظرية التطور وقال: لا إشكال أن يأكل القوي
الضعيف ويستغله في كل المستويات، فبمَ سنجيبه من الناحية الإلحادية؟! لا شيء.
وعليه
فعند فحص المذهب الذي انتقلت له هذه المرأة نجد أنه يزيد الإشكال ولا يحله.
وأخيرًا..
على المربي أن يكون واعيًا ومنتبهًا، لاسيما في هذه المرحلة الحرجة من حياة
المتربي؛ فهي مرحلة الاحتكاك المباشر بينه وبين الأفكار الإلحادية، التي يكون فيها
عقله تربة خصبة بدرجة كبيرة لامتصاصها والتفاعل معها.. نسأل الله أن يحفظ أبناءنا،
ويعين مربينا على أداء رسالتهم على الوجه الأمثل.
[1]
عنوان ورابط
والمقال:
The Malaise of the Soul at Work: The Drive for Creativity,
Self-Actualization, and Curiosity in Education
https://link.springer.com/article/10.1007/s11217-019-09653-4
إضافة تعليق