لكل سلوك في الحياة علاقة مباشرة بالطريقة التي يفكر بها صاحبه، فحياة الإنسان مرتهنة بطريقة تفكيره، فإذا تغيّرت طريقة تفكيره -بجهده أو عبر جهد غيره- فإن سلوكه يتغير
لكل سلوك في الحياة علاقة مباشرة بالطريقة التي يفكر بها
صاحبه، فحياة الإنسان مرتهنة بطريقة تفكيره، فإذا تغيّرت طريقة تفكيره -بجهده أو
عبر جهد غيره- فإن سلوكه يتغير، وهذا التغيير قد يصل إلى النقيض، كأن يتحول
الإحجام إلى إقدام أو العكس.
وهذا يعني أن هناك علاقة عضوية بين المعرفة والممارسة،
فالقراءة تمدنا بالمعرفة التي تدفعنا إلى تصحيح الممارسة، والممارسة تخلق الدافعية
نحو مزيد من القراءة التي تمدنا بمزيد من المعرفة، أي أن المعرفة تُنَمِّي وتَدْفع
الممارسة، والممارسة بدورها تُخَصِّب الأفكار وتُعَدِّلها وتعطيها معناها.
فإذا غابت المعرفة وساد الجهل؛ توقف التفكير ووزعت علينا
ملابس الطفولة الفكرية سخرية للناظرين، فى إعلان وصاية على كل إنسان ألغى عقله
وأخرس لسانه وقَبِل العبودية إلى الأبد.
ومن هنا تأتي أهمية "البناء المعرفي" في إنتاج
النموذج الإنساني الذي يمتلك الإرادة لإتمام رحلة الوصول إلى
النور الإلهي عبر التساؤل عن الجديد الذي يجب أن يعرفه، ليحيا وفق ما وصل إليه من
معرفة وما يدين به من قيم.
ولا شك أن للبناء المعرفي روافد شتى ومصادر متنوعة، إلا
أن الكتب تمثل رافدًا من أهم تلك الروافد التي تبثها الحياة من هنا وهناك، والتي
قد تسبب الحيرة المعرفية لكثير من أبنائنا الذين يتطلعون لزيادة خبراتهم وتنمية
مهاراتهم؛ فنراهم يمارسون بعض المهارات دون إحكام تأسيسها وتقوية بنيانها في مرحلة
الاكتساب الذهني والرصيد المعرفي.
ومن هنا، فقد مسّت الحاجة إلى "تأسيس البناء المعرفي" في هذه المهارات، لتثمر في الأخير ما يسمى "المَلَكة" التي تدفع بالأفكار المبدعة، وهذا يعني أن نجعل:
· المعرفة.. رحلة حياة:
بدأ
القرآن التغيير بكلمة "اقرأ" (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق:1]،
وثنّى بالقلم وما يسطرون (ن * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم:1]، وثلّث
بالرفع بالعلم: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11]، وربّع بدمج المعرفة بالإيمان: (شَهِدَ
اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ
قَائِمًا بِالْقِسْطِ) [آل عمران: 18].. ذلك أن من أهم أسباب الخوف من التغيير:
"الجهل" و"الكبر".
فأمّا
"الجهل" فيدفع الإنسان إلى الاستهانة بقدر نفسه؛ فيفقد كل رغبة في
الإصلاح أو التغيير.
وأمّا
"الكبر" فيحمل الإنسان على الشعور بعدم الحاجة للحق، وازدراء الناس،
والتعالي عليهم.
وقد
أخبر سبحانه عن الأمرين بقوله -عز وجل-: (بَلْ
قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ
مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف: 22، 23].
فإذا
كان الذي منعهم من الإذعان للحق هو "الجهل" في بداية الأمر؛ فإن الآية
الثانية تخبرنا بأنه قد أتى هؤلاء القوم النذير ليبلغهم الحق، إلا أنهم بطروا هذا
الحق، والبطر هو الشعور بعدم الحاجة للشيء، فهم يظنون أنهم على الحق ولا يحتاجون
للحق من أحد، وهذا أحد أركان الكبر كما عرفه محمد -صلى الله عليه وسلم-: "الكبر
بَطَرُ الحقِّ وغمط الناس" ـ رواه مسلم.
ولذلك
كان من أنفع طرق التعلم "التلقي والتساؤل"، بمعنى عدم التصديق على أية
معلومة بمجرد أنها وردتنا ممن نحب، بل نقابل المعلومة بمجموعة من الأسئلة تحول هذا
القَدْر من "المعرفة" إلى "علم" راسخ.
وهكذا
في رحلة العلم لا يستصحب المتربي مفاهيم مسبقة، ولا يخجل من التساؤل ولا يتكبر
عليه: (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) [الزخرف:81].
مرونة في "التلقي" ممن أمامي، ودخول دون خوف إلى "نفق"
التساؤل الذي يحمل في نهايته "نور" العلم الذي يؤدي إلى التغيير: (فَاعْلَمْ
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد
19].
وهكذا..
كأن المتربي طفل، فالطفل يضع الأسئلة الضخمة كالجبال، لماذا نولد؟! وأين نذهب؟! ومن
أين نأتي؟! كل هذا بعفوية، ثم يراقب بروح الدهشة والفضول ما يرى وما يسمع، وتلك
الروح الطفولية من التعلم، وعدم الكف عن السؤال وبدون خوف هي أفضل طرق التعلم([1]).
ولذلك
فإن من واجبنا أن نرسخ عند أطفالنا ثلاثًا: روح البحث بلا ملل، والسؤال بلا خوف،
والانفتاح المعرفي بلا حدود.
وأن
نترك للطفل روح الاستغراق والفضول، ونهم التعرف والتعلم.
فيتجرأ
و"ينطق" ويتجاسر فيتكلم فـ"يسأل"، فإذا سأل أخذ المربي في
تنمية عقله، بـ"احترام السؤال" وتنمية "الدهشة" واستثارة "روح
الفضول" وتشجيع "الحوار"، و"النقد"، وكثرة التساؤل؛ لأنه
كلما كثر التساؤل، تحركت النفس في اتجاه المعرفة دون حد تقف عنده..
إنه لا يجد الإجابات إلا من يؤرقه التساؤل، ولذلك فإن حضور التساؤل أهم من صواب الإجابة؛ ومن تسلق مرتفع البحث عبر التساؤل؛ فإن سيره ينتهي يه إلى قمة الحكمة من خلال:
· التراكم النوعي للمعرفة:
من
أراد أن يبني نفسه معرفيًا؛ فلا يكفي أن يقرأ الإنسان بلغة واحدة، حتى لو كانت
ترجمات جيدة، بل لا بد من الرجوع إلى الينابيع وبلغتها، هذا لمن أنعم الله عليه
فأتقن، وهي مهمة شاقة، خاصة من تعلمها على كبر، ثم يعيد النظر فيما يقرأ –ربما-
لأكثر من عشرين مرة لبعض الكتب التي يرى أهميتها، فيلتهم منها مئات الصفحات في
ساعات قليلة.
ولذلك
فإن من أراد أن يبني نفسه معرفيًا، لا بد له من مخطط لا يعرف السكون أو التوقف، وتحليق
مع الكتب في مغامرات الصعود إلى جبال الأفكار حتى يصل إلى ما يمكن أن نسميه
"الإشراف المعرفي"، حيث الرؤية المبصرة لما حوله من أفكار، كمن رأي
الدنيا من قمة جبل.
ولا
سبيل إلى تأسيس هذا النوع من العلم إلا من خلال ثلاث دورات من القراءة:
-
القراءة الأولى: مرور الكرام، سطحية.
- القراءة
الثانية: تنقيحية لمحاولة لفهم ما بين السطور وتحت الكلام.
-
القراءة الثالثة: لا يدع مغلقًا إلا فتحه، ولا عويصًا إلا حاول فهمه، ولا مبهمًا
إلا عرف سره([2]).
ثم
يقوم بتعديل الأفكار بالحذف والإضافة من خلال تمريرها بفلترة "العقل النقدي"،
فما كان باطلاً رده، وما كان تافهًا أهمله، وما كان ثريًا استوعبه وأضاف إليه من
تراكيبه المعرفية؛ فينتج نوعًا من المعرفة هي الذهب الخالص الذي يمكن صرفه في أي
سوق فكرية.
فإذا حصّل هذا النوع من المعرفة استشعر "لذة الفهم"، وهي حالة روحية من المتعة يشعر بها من أبصر الحقيقة؛ فانشرح صدره باقترابه من النور الإلهي، وتعافى -بفضل من الله- من مرض من أخطر أمراض التفكير وهو:
· الذَريّة في التفكير:
حين يصاب التفكير بهذا "المرض" يقف الإنسان في
حيرة أمام كثير من أمور الواقع لا يقدر على فهمها، ذلك أن "الذريّة" أو
"الجزئية" في التفكير تمنع صاحبها من الربط بين الأحداث والـوقــائــع،
بحيث يجعلها داخلة تحت قاعدة واحدة، أو يستخلص منها حقيقة كلية عامة؛ لأنه ينظر
إلى الوقائع والأحداث حوله وكأنها ذرات متناثرة لا يربطها أي ربــاط عـضـــوي أو
يجمعها سياق واحد، وبالتالي لا يستطيع أن يستنتج قانونًا عامًا يـمـكــن تطـبـيقه
على كل حالة خاصة؛ فتكون قــراراته في مواجهة الأحداث قرارات عاطفية لا ترتكز على
مبادئ محددة أو أصول واضحة.
ولعل أهم أسباب هذا المرض هو البعد عن عرائس الحكمة
ولباب الأصول التي دونها علماء الأمة في كـتـبـهــم، والـتي تـوصـلــوا إليها
باتخاذهم القرآن أنيسًا وجليسًا على مر الأيام والأعوام نظرًا وعملًا، واستعانتهم
عـلـى ذلك بالاحاطة بكتب السنة ومعانيها، وبالنظر في آراء السلف المتقدمين
والالتزام بما كــان عـلـيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.
تلك الأصول التي تُربي من يقرؤها على طريقة التفكير
العـضـوية -أو الكلية- التي تجمع بين الوقائع في تسلسل وسياق واحد يمكنها من
اسـتـنـبـــاط بالقانون العام، أو المقياس الذي تقيس به الحوادث الجزئية.
فالإمام الشاطبي -رحمه الله- يقول: "الأدلة
المعتبرة هنا، المستقرأة من جملة أدلة ظنية، تضافرت على معنى واحد، حتى أفادت فيه
القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع -وهذا
نوع منه-، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب،
وهو شبيه بالتواتر المعنوي، بل هو كالعلم بشجاعة عليّ -رضي الله عنه-، وجود حاتم
الطائي، المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما"([3]).
فهو -رحمه الله- يعرض كيفية اقتناص الـقـطـع من جملة
أدلة ظنية، فلم يفتقر في الحكم بشجاعة عليّ -رضي الله عنه- إلى دليل خــــاص يـقول
بأن عليًّا شجاع، ولكن باستقراء حوادث كثيرة تتحدث عن مواقف شجاعة لعلي -رضي الله
عنه-.
«فالعموم إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغة عموم
فقط، بل له طريقة أخرى، وهي استقراء مواقع المعنى، حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي
عام، فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ»([4]).
فالشاطبي -رحمه الله- يصف هنا طريق الوصول إلى الأمر
الكلي العام، إلى الـقـاعـدة، إلى المقياس، عن طريق تصفح جزئيات المعنى.
ومن وصل إلى القاعدة الكلية استطاع أن ينزّل على مقتضاها
كل الجزئيات التي قد تخالف بظاهرها هذه القاعدة.
يقول الشاطبي -رحمه الله-: "وهذا الوضع كثير
الفائدة، عظيم النفع بالنسبة إلى المتمسك بالكليات إذا عارضها الجزئيات وقضايا
الأعيان، فإنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي، في حمله على وجوه
كثيرة"([5]).
وإذن فلا يكفي النظر في الأدلة الجزئية دون النظر إلى
كليات الشريعة، وإلا تضاربت الجزئيات وعارض بعضها بعضًا في ظاهر الأمر.
ولقد عالج ابن تيمية -رحمه الله- مرض الذريّة في التفكير([6])،
فروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن نفرًا كانوا جلوسًا بباب النبي -صلى الله
عليه وسلم- فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألـم يـقـل الله كذا
وكذا؟ فسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرج فكأنما فقئ في وجهه حب
الرمان، فقال: "أبهذا أمرتم؟ أو بهذا
بعثتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، إنما ضلت الأمم من قبلكم بمثل هذا، إنكم
لستم مما هـاهــنــا في شـيء، انظروا الذي أمرتكم به فاعملوا، والذي نهيتكم عنه
فانتهوا".
يقول ابن تيـمـيــة -رحمه الله-: "وأكثر ما يكون
ذلك لوقوع المنازعة في الشيء قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه". اهـ.
فـالـجـمـع بـيـن أطــراف الأدلة وعدم النظر إليها نظرة
جزئية ذَرّية هو طريقة أهل السنة والجماعة، وكم من ساعات تمر بسبب نقاش بين طرفين
من الناس لو كان عندهم وضوح في فهم المسألة المتنازع فيها، وجمعوا أطرافها
وجزئياتها، فربما لم يكن للنقاش مبرر.
وهذا يعني أن علينا العودة إلى الأصول والمنابع التي منها نبع ديننا، والمضي إلى القرآن والسنة بفهم سلفنا الصالح؛ لنمارس هذا التحليق المعرفي فوق إحداثيات الزمان والمكان والأشخاص([7])، الذي ينتج العلماء الذين الذين يتمتعون بالنضج المعرفي والرسوخ العلمي؛ فيقومون بحماية البناء المعرفي من الانهيار من خلال:
· الحوار وتلاقح الأفكار:
لكي
يأتي الأطفال إلى هذه الدنيا "لا بد من زواج بين رجل وامرأة، وحتى يرى
الحيوان ذريته من أي نوع، لا بد من زواج ذكره بأنثاه، وحتى يتم إثمار النبات، لا
بد من اللقاح والزوجية، فـ"ولادة" البشر، و"تكاثر" الحيوان، و"إثمار"
النبات، يتوقف كله على التلاقح والزوجية .
وهذا
القانون ينطبق أيضًا على الأفكار، فكما أن كل إنسان له أب وأم، كذلك كل فكرة، لها
آباؤها وأمهاتها، وكما أن شروط الزوجية هي أساس الخصب، كذلك تبادل الأفكار واللقاء"([8]).
إذًا،
فالحوار هو أساس للتواصل، وليس وسيلة تكتيكية غايتها ترويض الآخر؛ ذلك أن خبرة
الانفتاح على الحوار مع الآخر تؤدي بنا إلى معرفة نقصنا، والوعي بهذا النقص هو في
ذاته قوة دافعة للحياة([9])،
ففي الحوار يتكامل كل طرف مع مقابله، في مركب جديد متطور، متفوقٍ على كل ٍمن
المركبين اللذين يملكهما الطرفان قبل التحاور، والعاقبة هي العاقبة للأفكار
الصالحة التي ستبقى، في حين أن بقية الأفكار السيئة لا تقوى على الصمود مع عنصر
الزمن: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ
فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) [الرعد: 17].
فإذا
تحاورت مع الآخرين، اتخذت بعين الاعتبار:
أولًا:
أن ما عندي صحيح ويحتمل الخطأ، وما عند الآخر خطأ ويحتمل أن يكون صحيحًا، فالموضوع
لا يتعدى "خطأ في الفهم" يمكن إصلاحه بالحوار، والصبر على "قتل
الموضوع بحثًا"، وليس "قتل المخالف إعدامًا"..
ثانيًا:
أن قاعدة الجدل هي البداية من آخر نقطة اتفاق نحو أول نقطة
افتراق؛ لأن رغبتنا في البحث أهم من امتلاك الحقيقة.
ولا
يعني هذا أن يسود الحوار جو المجاملة والتهرب والالتفاف حول موضوع الحوار،
والاحتفاظ بالخنادق الفكرية؛ لأن هذا الأسلوب لا يعرض الأفكار للتجلية والتمحيص،
وبالتالي النمو والبلورة.. بل هذا الأسلوب في الحوار هو في حقيقته نوع من أنواع
الصمم يتحول معه الحوار إلى "حديث طرشان"، يسمع فيه كل طرف بآلات فهمه،
فيؤكد ما عنده أكثر مما يتلقى من الآخر، فلو أن طرفًا هنا كرر فكرته عشرين مرة ظانًا
أن الآخر قد فهم ما يقول، فإنه يكون في قمة التفاؤل.
وهذا هو ما يحدث في كل الحوارات المتخلفة؛ حيث يتوقف العقل عن العمل، ولا يسمح له بالنطق إلا أن يقول قولًا لا يوقظ نائمًا ولا يزعج مستيقظًا، ومن ثم تغيب
ثقافة النقد والتساؤل:
في غياب النقد تضيع الفرص التي تدفع العقول أن تفكّر
بحرية، وتتيح للنفوس أن تشرق وتزدهر، ومن ثم تترك لنا فراغًا في عقولنا، وفراغًا
في نفوسنا، ومجموع هذه الفراغات يكون هاوية نقف على حافتها؛ ذلك أن الفراغ العقلي
والفراغ الزمني هما شفرات حادة تحلق الأخلاق؛ فتتحول الأرواح المشرقة إلى خرائب
تعوي في خوائها نزوات الفجور.
ولا شك أن بداية الخروج من هذه الدائرة التربوية النكدة
لن يكون إلا من خلال "تحويل التربية إلى مشهد نقدي يقظ دومًا، مشهد يراجع
بروح الشك كل اليقينيات، ويكتب بلغة التساؤل كل الإجابات، لتعود الأشياء إلى وضعية
البحث، ما يجعل التربية شهقة اندهاش وصرخة رفض، وممارسة للتساؤل حول كل شيء"([10]).
إن بعض سبل ومسارات حب استطلاع المتعلم غالبًا ما تكون
بكرًا، ولكنها حُبلى بالأفكار والتساؤلات التي لم تخطر على بال المربي من قبل،
ولذلك فإن من الخطأ أن يقوم تعليمنا على تقديم الإجابات بشكل منفصل عن السؤال الذي
يثيرها، بل الواجب أن تقوم عملية التعليم على المنهج الحواري الذي يشجع فضول
المتعلم ورغبته في المعرفة، والتساؤل الرحب والتفاعل لحقيقي -لا الصوري- بين
المعلم والمتعلم([11])؛
ذلك التفاعل الذي يرتكز على حق الحوار والحديث "مع" المتعلم، وعرض
الأفكار المتناقضة أمامه، وتدريب عقله علي استيعاب مسافات الفروق..
إننا لا نتعلم عندما نتكلم، بل نتعلم فقط عندما ننصت ونرى ونمارس، ومن هنا فإنه من الواجب أن نتدرب -ليس علي كيفية التحدث- بل علي كيفية التوقف عن الحديث؛ "إذ ليس المهم رمي رسالة ما، لكن المهم هو تلقي جمهور المستمعين لها. فإذا كان لدينا طرد يتعين علينا تسليمه، ولم نجد العنوان الصحيح للشخص المرسل إليه هذا الطرد، فإننا لا نقوم بالتخلص منه وتسليمه لأي شخص، بل نحتفظ به ونسلمه في وقت آخر مناسب إلى العنوان الصحيح كي نضمن وصوله إلى صاحبه"([12]). ولن نقدر على ذلك حتى نمتلك "الوعي النقدي" الذي لا يمرر الأفكار بدون تصفية، ولا ينشرها دون وعي، ولا يدافع عنها دون علم.. بل يراقب الأفكار؛ فيدخل التصحيح على الخطأ.. ويتحرر من معصوميتها؛ فيخضعها للنقد لمرات عديدة، في صورة تقترب من صناعة الماس، حيث يتم صقله بدون ملل ليصل إلى درجة اللمعان التي تكاد أن تذهب بالأبصار، وهذه العقلية النقدية هي القادرة -بعون من الله- على:
التّحرّر من العقل الجمعيّ:
للجمهور
سلطان خطير جدًّا على آرائنا وأفكارنا مهما ظننّا تحرّرنا الفكريّ، ولأجل ذلك أخبر
الله تعالى عن حال المستضعفين فكريًّا من التّابعين من أهل النّار في تخاصمهم وهم
يقولون لمتبوعيهم: (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا
أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا) [سبأ: 33].
وأرشدنا
-سبحانه وتعالى- للطّريقة المثلى للتّخلّص من سطوة الجماهير، وهي الاعتزال
للتّفكّر بأنفسنا، أو بمشورة واحد فقط نحاوره ونتدبّر معه، فلا يكون أثره إلّا أثر
السّائل الدّافع أو المجيب الدّاعم، (قُلْ
إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ
تَتَفَكَّرُوا)
[سبأ: 46].
بل
إن الوحيّ نزل معلمًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للكفّار في موضع ليس أحق
منه بالقطع على أنّ الحقّ معه لا يفارقه: (وَإِنَّا
أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [سبأ: 24].
هذه
هي طريقة القرآن..
أمّا
طريقة أولئك الذين يتصورون أنهم مركز القياس، فإنهم لا يمتلكون إلا رؤية
"حدّية" للإنسان وللحياة، وتسلمهم هذه الرؤية "الحديّة" إلى
رؤية الكون مركبًا على الثنائية، فيتصورون أن الألوان ليس فيها سوى أبيض وأسود، بينا
الحقيقة أن الضوء هو طيف([13])
متدرج من الألوان بين الأحمر والأزرق، استطاع نيوتن تحليله بمنشور زجاجي..
ومن
هنا أكد القرآن أن ليس هناك شرٌ محضٌ، بل قد يكون خيرًا (لَا
تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [النور: 11]، كما
أخبرنا سبحانه عن الكثيرين من الأخسرين أعمالًا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وكذلك المنافقين حينما يخاطبون أنهم يفسدون في
الأرض يقولون إنما نحن (مصلحون)؟ ألا إنهم هم المفسدون، (وَلَكِنْ
لَا يَشْعُرُونَ)..
وجاء
تعبير القرآن: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ
تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا) [هود: 112]، فالاستقامة هي الحالة الوسطية
بين الطغيان واللامبالاة؛ ولما أراد العلماء تحليل الأخلاق وصلوا في النهاية إلى
أن حاصل الأخلاق ينتهي إلى ثلاثة: هي العفة والشجاعة والحكمة، وقالوا: إن كل خُلق
من هذه الأخلاق هي وسط بين حدين، وكل فضيلة هي وسط بين رذيلتين.
نحن البشر عباد الله الضعفاء، لسنا فوق النقد ولا دون الخطأ، نخطئ الليل والنهار، نحلق فيشتد بنا الطيران أحيانًا الى الأعالي، وأحيانًا ينزل مستوانا حتى لكأننا لسنا الذين كنا في الأعالي، كل منا متحيز، بل ربما أقلنا تحيزًا، هو من ينتبه الى أنه متحيز؛ فيتحرر بنسبة طردية مع مقدار التحرر من هذا المرض.
وبكلمة..
قد نمر في مسيرة البناء المعرفي بطفولة فكرية تتعلق
بـ"الأشخاص" و"الأشياء"التى تحاط بهالة من التقديس ومنع
الاقتراب، ثم تأتي مرحلة "المراهقة" الفكرية التي تتميّز بالرغبة فى
الخروج عن المألوف والانقلاب على القديم بشكل يفتقد الاتزان.. ولكنا -بفضل من الله-
لا نلبث أن نصل إلى مرحلة "الرشد"؛ حيث الوعي بما نمرّ به وما يمر به
الآخرون.
إن عصرنا هو عصر انطلاقة معرفية واسعة في الأدوات والوسائل على حساب ما يدخل عقولنا من معرفة حقيقية؛ بسبب كثرة الموجود من الفكر الغث والمعرفة الكاذبة؛ ولذلك فنحن في أمس الحاجة إلى امتلاك أسس البناء المعرفي؛ حتى لا نعتمد على قراءات مجتزأة أو تغريدات من هنا وهناك، أو رسائل مطولة عبر الواتساب أو التيليجرام تجعل الواحد منا يغرق في بحر العقل الجمعي الإلكتروني، فما أسعد من رزقه الله الوعي ينير له الطريق، وما أتعس من كان قائده الجهل الذي هو طريق الخوف والحيرة والشقاء.
([1])
راجع إن شئت "تأسيس عقلية الطفل" - د. عبد الكريم بكار.
يركز هذا الكتاب على ما ينبغي للإنسان أن
يتعلمه ويبني معرفته عليه، سواء قرأه لطفله، أو حتى أعاد قراءته لذاته وحياته.
([7])
وهو ما أشار إليه سيد قطب عند تدبره قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ
الْغَيْبِ)؛ حيث رأى أن الكلمات تشي بطبيعة فوق أرضية، فاجتماع البر والبحر وورقة
الحب والرطب واليابس والظلمات في جملة واحدة، هل يمكن أن يأتي هذا التصور على عقل
بشر؟!
إضافة تعليق