ستظل وظيفة المربي هي أشرف الوظائف التي يحبها الله -عزّ وجلّ- ويرضاها لعباده، كيف لا والمربون هم أتباع الرسل، وناقلو علمهم وعملهم إلى الأمم؟! قال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) [آل عمران:146].

ستظل وظيفة المربي هي أشرف الوظائف التي يحبها الله -عزّ وجلّ- ويرضاها لعباده، كيف لا والمربون هم أتباع الرسل، وناقلو علمهم وعملهم إلى الأمم؟! قال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) [آل عمران:146]. و(الرِبِّيُّون) بمعنى: الجماعات الكثيرة من العباد والعلماء الربانيين -جمعًا بين التفاسير-، بل أمر الله عباده بهذه الوظيفة الشريفة، قال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران:79]. قال ابن عباس -رضي الله عنه-: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ): حلماء فقهاء، ويقال: (الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره). يقول ابن حجر -رحمه الله-: (والمراد بصغار العلم: ما وضح من مسائله. وبكباره: ما دق منها. وقيل: يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده).

والتربية هي أعظم الأعمال بالنظر إلى آثارها في نفوس المتربين وفي نفس المربي من قبلهم، قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت:33]، أي: دعا عباد الله إلى الله تعالى، وهو في نفسه مهتد بما يقوله، فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعد، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه، بل يأتمر بالخير ويترك الشر، ويدعو الخلق إلى الخالق -تبارك وتعالى-.

أهمية استشعار المربي للعبودية:

إنّ شرط النجاح في عمل المربي هو تحققه بالعبودية لله تعالى؛ حتى لا تجنح نفسه إلى التسلط وتختلط عليه المفاهيم الصحيحة اللازمة لعمله بتلك التي تفسد عمله وتُذهب أجره عند الله تعالى، فالتربية تحتاج إلى قدرٍ واجب من السلطة التي تمكّن المربي من القيادة والتأثير، ويستجيب لها المتربي بالطاعة والاتباع عن حبٍ وقناعةٍ تامة لا عن قهرٍ أو تسلط، وفي حال تراجع معاني العبودية والإخلاص لله تعالى في قلب المربي أثناء عمله فيوشك أن يقع في هذا الخلط.

ولكن يتحرك من منطلق إعلاء كلمة الله في تلك الأنفس التي يربيها، وليس من باب إعزاز نفسه وتضخيمها، وهذه هي القاعدة التي سار عليها العلماء المربون الأوائل، ويسير عليها من أراد أن يصل إلى مثل ما حصّلوه من النتائج المبهرة، قال الإمام الشافعي: (لوددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولا يُنسبُ إلىَّ شيءٌ منه أبدًا، فأوجرُ عليه ولا يحمدوني). ومحبة الشافعي لتعلم الناس للعلم تعني محبته لأن يعلو منهج الله وشرعه في نفوسهم، فيتعلموه ويعملوا به، ولا يهتم أبدًا بأن يُنسب إليه، فغايته التي أفنى حياته في تربية الناس عليها هي عزّ الإسلام لا عزّ الشافعي، وقد كان هذا هو فهم السلف -رضوان الله عليهم-. يروى عن حَمدُون القصّار أنه سُئل: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟! قال: (لأنهم تكلموا لعزِّ الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لِعِزِّ النفسِ، وطلب الدنيا، وقُبول الخَلق).

عصمة من العُجب:

وتحقق المربي بالعبودية لله تعالى والإخلاص له، ينجيه من آفة خطيرة كثيرًا ما تصيب الصالحين وأهل التعليم والتربية، إنها آفة العُجب؛ عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لو لم تذنبوا، لخشيت عليكم ما هو أكبر منه: العُجْب). [صحيح الترغيب:2921].

وبما أن طبيعة عمل المربي تستلزم أن يكون أكبر سنًّا وأكثر خبرة من المتربين، والذين غالبًا ما يشتد إعجابهم بشخصية المعلم أو مشرف الحلقة التربوية، فيكون محل إعجابهم المفرط؛ حتى إنهم يصوّبون ما يراه صوابًا ويخطئون ما يراه خطئًا، وهنا يتميز المربي الذي يدعو إلى الله تعالى، فيربط المتربي بتعظيم الله -عزّ وجل- وتقديم الرؤية الإسلامية لكل جوانب الحياة على الآراء الشخصية والأهواء، عن ذلك المربي الذي يدعو إلى نفسه، ويرى نجاحه في إنتاج نسخ مكررة منه، وتظل نفس هذا المسكين تتضخم حتى يعجب بنفسه؛ فيحبط عمله، ويفسد إنتاجه التربوي؛ لأن هذا الصنف من المربين لا يحسن تربية القادة والمتميزين، وإنما يصدِّر للأمة أسوأ أنواع الشخصيات، من ضعفاء العقول والأنفس الذين لا يحسنون إلا أن يكونوا أتباعًا مدى الحياة، فكم تقدح آفة العُجب في عبودية المربي!

يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- مبيّنًا كيف يهدم العُجب معنى العبودية في القلب: (وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو يهدوه أو يمدحوه أو يمجّدوه؛ خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميرًا لهم مدبّرًا لهم متصرفًا بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر). [مجموع الفتاوى:10/186].

وقد كان علماء السلف الربانيون يربون تلاميذهم على هذا الأصل، يقول الإمام مالك بن أنس -رحمه الله-: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه). [ابن عبد البر في الجامع 2/32].

وقد بلغ الإخلاص واستحضار العبودية منهم مبلغًا عظيمًا لدرجة يهذبون بها الإعجاب الطبيعي الذي قد يصدر من المتربي إزاء موقفٍ حياتيٍّ عاديّ، فيردُّون مَحِلَّ إعجاب الطالب بهم إلى فضل الله تعالى وتوفيقه، ومثال ذلك ما حدث للإمام العالم المربي أبي حنيفة -رحمه الله-، ذلك الفقيه الربانيّ، فقد سافر يومًا مع جماعة من أصحابه إلى مكة المكرمة، وفي الطريق ذبحوا فصيلًا وشَوَوْه، فاشتهوا أن يأكلوه بخلٍّ، فلم يجدوا شيئًا يصبّون فيه الخلّ من القارورة، فتحيّروا كيف يأكلون بالخلّ؟! فحفر أبو حنيفة في الرمل حفرةً وبسط عليها السفرة وسكب الخلّ في ذلك الموضع الخفيض؛ فأكلوا الشواء بالخلّ، فقالوا لأبي حنيفة: نراك تحسن كل شيء!! فقال: (عليكم بشكر الله تعالى، فإن هذا شيء أُلْهِمْته لكم فضلًا من الله عليكم). فلنتأمل كيف دفع المربي (أبو حنيفة) بعبارته خاطر العجب عن نفسه، وخاطر الغلو عن تلامذته، وردّ نفسه معهم إلى العبودية الخالصة ببيان أن ما حدث من التوفيق لحل مشكلتهم هو محضُ توفيق ونعمة الله عليه لأجلهم.

العبودية لله نجاةٌ من التعصب:

إن تحقق المربي بالعبودية لله تعالى يجعله متجردًا لله في سلوكه وأفعاله، وآرائه وتوجهاته؛ حيث تكون كلها راجعة إلى مرضاة الله تعالى؛ ما يكون له عظيم الأثر في البعد بالمتربين الذين يقتدون ويتأثرون به عن آفات التعصب للرأي، والجدال والمراء، وحب الانتصار للنفس، وما يترتب عليها من ضعف رابطة الأخوة الإيمانية بينهم وبين زملائهم في المحاضن الأخرى، ومحبة الارتفاع على إخوانهم في الله، وكراهية أن يظهر التميز إلا من بينهم!

بل إن تجرده ليمنعه من كل ذلك، فيتعلم المتربون الإخلاص لدين الإسلام، والتماس العذر لمن خالفهم مع إحسان الظن بهم، كما يتعلمون منه الإنصاف والعدل في الحكم على المواقف والأشخاص، وفي تقييم الآراء والأفكار المطروحة، وأن ينشدوا الحق ولو كان عند غيرهم، وأن يبتغوا الصلاح ولو وجدوه عند مخالفيهم.

العدل مع المتربين في الرضا والغضب:

كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى). [صحيح الجامع: 1301]، فتحقق المربي بالعبودية لله تعالى يثمر انتماءه للحق، يراه نصب عينيه في حال رضاه أو غضبه، فيضع المتربين كلهم على مسافة واحدة، فلا يبرر العيوب وقت الرضا، ولا يتصيد الأخطاء وقت الغضب، فيصدق فيه قول الشاعر:

وعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٍ         ولكنَّ عين السُخطِ تُبْدِي المساويَا

أما إذا ضَعُفَ تجرده وإخلاصه لله تعالى، وعَظُمَتْ رؤيته لنفسه؛ فعندئذٍ سيغضب لنفسه لا لله، وينتصر لرأيه، لا للحق والصواب، ومن ثمَّ يقسِّم طلبته قربًا وبعدًا حسب تعاطفهم مع رأيه، وتأييدهم لفكرته، ودفاعهم عن وجهة نظره.

عبودية المربي ونزاهة التقييم:

إن من أهم أعمال المربي: المتابعة والتقييم الدوري للمتربين؛ حيث تكشف عملية التقييم للمربي جوانب التميز أو القصور في كل طالب، كما تمكّنه من معرفة الفروق الفردية بينهم، ومن ثمَّ استشراف الأدوار المناسبة لكل منهم مستقبلًا، وإعدادهم بالشكل المناسب لها، والتقييم من الأعمال الدقيقة، التي تتطلب من المربي الالتزام بالحَيْدَة والموضوعية، والبعد عن المحاباة والمجاملة، انطلاقًا من قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ). [النساء:135].

واقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في قوة معرفته بجوانب التفوق عند أصحابه، ومعرفة الفروق الفردية بينهم -رضي الله عنهم أجمعين-، ومن ثمّ توجيههم إلى مجالات متعددة أسست في مجموعها حضارة هذه الأمة، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أُبيّ، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح). [ضعيف الجامع:775].

والعلاقة بين تحقق المربي بالعبودية ونزاهة تقييمه لطلابه علاقة وثيقة، فالمحاباة والمجاملة في التقييم لأحد المتربين، لابد سيقابلها ظلم أو بخس لمتربٍ آخر، وللإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- موقف عجيب في تقييمه لمن يحمل عنه مذهبه على أساس قوة الدين والورع، وليس قوة الصلة والمودة الشخصية بينهما؛ فقد آخى الشافعي -رضي الله عنه- محمد بن عبد الحكم وكان يقربه ويقبل عليه ويقول: ما يقيمني بمصر غيره. فاعتلّ محمد فعاده الشافعي -رحمه الله تعالى-، فظن الناس -لصدق مودتهما- أنه يفوض أمر حلقته إليه بعد وفاته، فقيل للشافعي في علته التي مات فيها: إلى من نجلس بعدك يا أبا عبد الله؟! فاستشرف له محمد بن عبد الحكم وهو عند رأسه ليومئ إليه؛ فقال الشافعي: سبحان الله أيُشك في هذا؟ أبو يعقوب البويطي. فانكسر لها محمد، ومال أصحابه إلى البويطي مع أن محمدًا كان قد حمل عنه مذهبه كله، لكن كان البويطي أفضل وأقرب إلى الزهد والورع، فنصح الشافعي لله وللمسلمين، وترك المداهنة ولم يؤثر رضا الخلق على رضا الله تعالى.

وأخيرًا.. يظل استشعار المربي لعبوديته لله تعالى أقوى أسباب نجاح التربية، وطيب ثمرتها، وعظيم أجرها عند الله تعالى، قال تعالى: (فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور 21]. فلا يغيب عنه مشاهدة منة الله عليه وتوفيقه له، وأنه بالله تعالى لا بنفسه.

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة