هل يكون وضوح الشيء سببًا في الغفلة عنه؟! هل تتذكر يومًا أنك تناولت كتابًا لتقرأه، فإذا بك تنظر في غلافه لتجد عنوانًا مباشرًا، فتركته، وزهدتَ فيه؛ لظنك أنك غالبًا تعلم ما فيه؟!
هل يكون وضوح الشيء سببًا في الغفلة عنه؟!
هل تتذكر يومًا أنك تناولت كتابًا لتقرأه،
فإذا بك تنظر في غلافه لتجد عنوانًا مباشرًا، فتركته، وزهدتَ فيه؛ لظنك أنك غالبًا
تعلم ما فيه؟!
الحقيقة أن تلك الأسئلة تهاجم ذهني بين الفَينة والأخرى، وتنال مني، لا سيّما عندما أقف على تفسير آيةٍ، أو معنى حديثٍ نبويٍّ، بغير ما كان يتبادر لذهني منه.
وفـي هذه المرة؛
كنتُ أبحث عن التربية في النص القرآني، ومدى احتفائه بها؛ فكانت المفاجأة، فلم
أتجاوز البسملة لأجد بُغيتي ماثلة أمامي: {الحمد لله ربِّ العالمين}!
كيف غابت عني تلك الحقيقة؟!
كيف لم أنتبه لها، وهي في أم الكتاب؟!
هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يُرشد
لهذا، حينما قال لأبي سعيد -رضي الله عنه-: (لأعلمنَّك سورةً
هي أعظم سورةٍ في القرآن، {الحمد لله رب العالمين})([1])؟!
يقول الراغب في "مفرداته": (الرَّبُّ في الأصل: التربية، وهو إنشاء الشيء حالًا فحالًا
إلى حدّ التمام، ... ولا يقال الرّبّ مطلقًا إلا للّه تعالى، المتكفّل بمصلحة
الموجودات)([2]).
هكذا بكل وضوحٍ، ليس معنى غائبًا كنت أبحث
عنه، بل هو ظاهرٌ جليٌّ غفلنا عن تدبره، والتفكر فيه، إنه: الرَّب الذي يربي!.
نعم؛ (هو المربِّي
جميع عباده بالتدبير، وأصناف النعم)([3])،
(المربِّي جميع العالمين -وهم من سوى الله- بخلقه إياهم، وإعداده لهم الآلات،
وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة، التي لو فقدوها، لم يمكن لهم البقاء)([4]).
هذا المعنى ألحّ عليه الشيخ السعدي -رحمه الله- كثيرًا
في تفسيره، وأكثر من إيراده بألفاظٍ مختلفةٍ؛ لجلالته، وأثره في نفوس العباد
المربوبين، إذا تفطّنوا إليه، وعملوا بمقتضاه، بل وأوضح أن تلك التربية الإلهية عامة،
وخاصة، فقال: (وتربيته
تعالى لخلقه نوعان: عامة، وخاصة.
فالعامة: هي خلقه للمخلوقين، ورزقهم، وهدايتهم
لما فيه مصالحهم، التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة: تربيته لأوليائه، فيربيهم
بالإيمان، ويوفقهم له، ويكمله لهم، ويدفع عنهم الصوارف، والعوائق الحائلة بينهم
وبينه)([5]).
ولله المثل الأعلى: فكما تبدأ التربية
العامة من خلقه سبحانه للمخلوقين، ورزقهم، فكذلك
تبدأ في حق المخلوقين بالولادة.
وانظر لهذا المعنى أيضًا في سيّد الاستغفار حين قال
النبي صلى الله عليه وسلم لشدّاد بن أوس -رضي الله عنه-: ((ألا أدلك على سيد الاستغفار؟! اللهم أنت ربي، لا إله
إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ..))([6]).
نعم، هكذا يكون التأدُّب مع المربـِّي، حين
يستشعر المرء عظم جرمه، وخطئه، يعترف بين يدي مربِّيه بتلك التربية، وآثارها عليه،
ولله المثلى الأعلى، يقف الإنسان بين يدي ربه، يستغفره من ذنوبه التي اجتمعت عليه،
فيقول: اللهم أنت ربي، أنا أعترف أولًا أني مربوبٌ لك، وأول التربية أنك
"خلقتني"، ثم يعدِّد النعم، ويُقِرّ بالعبودية، ويطلب العفو، والغفران
من ربِّه الذي لا يغفر الذنوب إلا هو.
هل استشعرت ذلك الحثّ النبوي على هذا المعنى
الذي يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ حثّه على تعلّم "أعظم سورةٍ
في القرآن: الحمد لله رب العالمين"؟
هذه أعظم سورةٍ، وهذا سيِّد الاستغفار،
فماذا نحتاج أيضًا لنتنبه إلى عظيم معنى التربية الإلهية؟!
وفي لفتةٍ بديعةٍ يقول السعدي -رحمه الله-
في سر ارتباط الدعاء بمعنى الربّ: (ولعل هذا (المعنى) هو السر في كون أكثر أدعية
الأنبياء بلفظ الربّ، فإن مطالبهم كلها داخلةٌ تحت ربوبيته الخاصة)([7]).
ومن
طبيعة الإنسان أنه يحتاج أن يكون المربِّي معه في غالب أحواله، قريبًا منه يتابعه،
ويوجّهه؛ لذلك جاءت تربيته سبحانه وفق المثلى الأعلى، فجاءت (ربوبيته للعالم تتضمن تصرّفه فيه، وتدبيره له، ونفاذ أمره كل وقت فيه،
وكونه معه كل ساعة في شأن، يخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويخفض ويرفع، ويعطي ويمنع،
ويعز ويذل، ويصرف الأمور بمشيئته، وإرادته)([8]).
فهذا كله يدلك على عظيم أمر
"التربية"، واحتفاء النص القرآني بها؛ حتى ورد الاسم الدال عليها
"الربّ" في القرآن (900) مرة؛ مما يدل على عظيم شأنه، وحتى جعل الله لها
نصيبًا من اسمه تعالى، ومعاني ربوبيته للعالمين، وأثبت ذلك في أعظم سورةٍ في كتابه
المهيمن إلى قيام الساعة.
وتجدر الإشارة إلى اقتران هذا الاسم الجليل
بخمسة أسماء ترجع إلى ثلاث صفاتٍ أساسيةٍ، فجاء الرَّبّ مقترنًا بـ"الرحمن،
الرحيم، الغفور، الغفّار، العزيز" وهي تتركز في ثلاث صفاتٍ أساسيةٍ: الرحمة -
المغفرة - العزة، وهي عند التأمل فيها تجدها أخص صفات المربِّي([9]).
والمقصود
من تلك الإلماحة هو حثّ المربّين والقائمين على المؤسسات التربوية، والعاملين في
حقولها على الاهتمام بتدبر النصوص القرآنية، وأسماء الله تعالى، وتأمّلها، واستخلاص
تلك المعاني السامقة، التي يمكن صبّها في قوالب تربويةٍ منهجيةٍ، واستخدامها ضمن
أفكارٍ مبتكرةٍ لربط المناهج التربوية بالنصوص السماوية، التي توصل لإنتاجٍ متجددٍ
من خير أُمّةٍ أخرجت للناس.
والحمد لله ربِّ العالمين.
([2]) الراغب الأصفاني، الحسين بن
محمد، المفردات في غريب القرآن، تحقيق: صفوان داودي، دار العلم – الدار الشامية، (1412هـ)،
(ص: 336).
([3]) تفسير السعدي، تحقيق: عبد
الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، (1420هـ-2000م)، (ص:945).
إضافة تعليق