جاءتني باكية صارخة: "أنا لا أصلح مربية، أولادي يستحقون أمًا أفضل مني.. أحيانًا أفكر أن الأفضل لي ولهم أن أموت ويتزوج أبوهم بأم صالحة تصلح أن تكون قدوة لهم،
جاءتني
باكية صارخة: "أنا لا أصلح مربية، أولادي يستحقون أمًا أفضل مني.. أحيانًا
أفكر أن الأفضل لي ولهم أن أموت ويتزوج أبوهم بأم صالحة تصلح أن تكون قدوة لهم،
ستتولى مسؤولية تربيتهم أفضل مني بلا شك؛ فأنا لست قدوة صالحة".
مسحتُ
الدموع عن عينيها وربتُ على كتفها قائلة: "استعيذي بالله من الشيطان الرجيم،
الأفضل لك ولهم هو ما قضاه الله -عز وجل-، تقترحين على الله أن يدبر الأمور كما
تهوى نفسك؟! من أخبرك أن هذا هو الأفضل لك ولهم؟!".
مدت
يدها تمسح وجهها الذي احمرت وجنتاه وتمتمت بصوت خفيض: "أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم.. ولكن لا أرى نفسي قدوة؛ أغضب وأرفع صوتي عليهم ثم أطلب منهم أن يخفضوا أصواتهم..
ينفلت لساني بكلمات قبيحة ثم أطلب منهم أن يتوقفوا عن السباب واللعن.. أزجرهم
ليصلّوا فور سماع الأذان وأتأخر.. لا أستطيع تعديل سلوكي وعبادتي لأكون أمًا صالحة
وقدوة حسنة، ولا أرى نفسي سوى كاذبة تدعي الصلاح".
انتظرتها
تفرغ من شكواها ثم قلت لها: "أعرف أن القدوة من أهم أساليب التربية وأعظمها
أثرًا، ولكن ليس بالقدوة وحدها يتربى الأولاد. كان الأنبياء -عليهم صلوات الله
وسلامه- خير قدوة لأقوامهم، ولكن هذا لم يمنع ألا يستجيب لهم قومهم، ولم ينتفع
هؤلاء بالصورة البشرية المثالية المتمثلة في أنبيائهم.
كما
أنه ليس هناك تلازم بين فساد الآباء وفساد الأبناء؛ نعم صلاح الآباء يسهل عملية
التربية، ولكن كفر آزر لم يحرم إبراهيم -عليه السلام- من مطالعة عظمة الله وجلاله
وقدرته، ودأب نوح -عليه السلام- في دعوة قومه لم ينفع ولده ولم يعصمه من أمر الله.
● معنى القدوة وأهميتها:
تنبع
أهمية القدوة من فكرة وجود النموذج التطبيقي العملي، التي تجعل الوصول لثمرة
التربية أسهل وأيسر؛ فالخطابات التربوية الرنانة، والنصائح والتوجيهات المتتابعة،
لا يسهل تمثلها في حال عدم وجود نموذج للمحاكاة.
والقدوة
هي "اتباع الغير على الحالة التي يكون عليها حسنة أو قبيحة"(1). وهي
بذلك قائمة على التقليد والمحاكاة، وهذا ما شكل أزمة عند صاحبتنا؛ لأن الطفل يقتدي
بما يرى، حسنًا كان أم قبيحًا، ولا يملك القدرة على التفريق بين الاقتداء
والتقليد. وصاحبتنا -كغيرها من الأمهات- لا ترى نفسها نموذجًا مثاليًا يحتذى، وتخشى
أن تكون توجيهاتها مخالفة لواقع فعلها، فيتشوش الطفل ويحاكي الفعل بدلاً من القول.
وتشعر
بعض المربيات أنها ليست مستعدة لتكون قدوة صالحة؛ حيث تتسارع الأحداث في حياتها
بعد أن كانت طفلة مدللة في بيت أبيها، لتصبح فجأة مسؤولة عن تشكيل وعي طفل وبناء
عقيدته وتقويم سلوكه، وتشكل المسؤولية الجدية ضغطًا عليها، فترى الحل في طريقين:
إما التخلي عن التربية بجملتها، وإما تسليم المسؤولية لغيرها.
والأمران
أحلاهما مر؛ فالتخلي عن التربية لا يعني عدم التربية؛ فالطفل سيتربى ويحاكي ويقلد،
سيربيه الإعلام والمجتمع والمدرسة والأصدقاء. وتسليم مسؤولية التربية للغير ممن
نثق فيه لا يعفي الأم من مسؤوليتها؛ فهي المحضن الأول، ومعها يقضي الطفل جل وقته،
وعبر حديثها يشكل قناعاته خاصة في مرحلة ما قبل المراهقة.
● ما هي إذًا سمات المربي الذي يستحق أن يكون
قدوة؟! وهل يمكن للإنسان تحصيلها وهي ليست أصيلة عنده؟!
هناك
سمات ثلاث أساسية تشكل شخصية المربي القدوة:
أهم
هذه السمات: الإخلاص:
تربية
الأولاد عبادة واستجابة لأمر الله -عز وجل- في سورة التحريم: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم:6]، والعبادة
لا تصح بلا إخلاص.
والإخلاص
عدة المربي وذخيرته في التربية؛ إذ (لا يمكن للقدوة أن يؤثر في الناس ما لم يكن
مخلصًا لله -عز وجل-، وذلك مرده إلى وضع القبول له في الأرض)(2).
كما
أن إخلاص المربي يعينه أن يكون عمله مطابقًا لقوله، ولا يكون ممن لامهم الله -عز
وجل-: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [البقرة: 44].
حينها
يجهد المربي أن يربي نفسه قبل أن يربي ولده، فيلزم نفسه بالطاعات ويجنبها المعاصي،
ويضبط لسانه وفعله طاعة لله -عز وجل-، وإذا لم يجد المربي نفسه مخلصًا، فالحل في
تحصيل الإخلاص وتحسين النيات لا في ترك العمل بالكلية والتخلي عن التربية.
و
مما يعيننا على تحصيل الإخلاص في التربية: وضوح الغاية والهدف منها، الهدف أن نقي
أنفسنا وأولادنا من النار، وأن نعبّد ذريتنا لله -عز وجل-، الهدف أن يكون طفلك
نسمة مؤمنة تعبد الله وتعز دينه، ليس هدفنا أن يقول الناس: ربت ولدها فأحسنت، ليس
الهدف من التربية أن نزهو بهم في تجمعات العائلة، ولا أن نفخر برطانة ألسنتهم على
أقرانهم، ولا أن يشير الناس إليهم بالبنان ثناءً على تربيتهم وأخلاقهم، فالإخلاص
هو تصفية العمل عن نظر الخلق: «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا،
وابتُغِيَ به وجهه»(3).
ثاني
سمات المربي القدوة: العلم:
لا
يستقيم أن يكون القدوة جاهلًا، أنتِ مصدره الأول في التعرف إلى الله -عز وجل-
ورسله وكتابه، ولا يليق أن تجهلي ما تريدين أن يقتدي بك فيه؛ كان عمر بن الخطاب -رضي
الله عنه- يقول: "تفقهوا قبل أن تسودوا".
تعلمي
دينك لتنقذي نفسك من النار قبل أن يكون همك أن تنقذي ولدك، وهكذا هو نسق الآية
الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)
[التحريم:6]؛ فوقاية النفس من النار سبقت وقاية الولد.
وأنت
حين تتعرفين إلى الله -عز وجل- وأسمائه وصفاته سيجري هذا العلم على قلبك ولسانك،
ويكون تطبيق ما تعلمتيه يسيرًا غير متكلف،
سيتشربه طفلك دون جهد يذكر. واعلمي أنه لن يفيض وعاؤك من العلم حتى يمتلئ.
سيعينك
العلم على اتباع منهج صحيح في التربية، ويحميك ويحمي طفلك من دوامات الانفتاح
المعرفي.
وثالث
السمات: حسن الخلق:
حسن الخلق عنوان عريض يشمل الحكمة وإسداء النصح
والصدق في القول والعمل والأمانة والعدل، وكل ما يهم المربي أن يتخلق به المتربي،
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة في خلقه وسمته كما قالت عنه أم
المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "كان خلقه القرآن"(4).
وجميع
هذه السمات -الإخلاص والعلم وحسن الخلق- يمكن أن يكتسبها المرء، ويجاهد لاكتسابه،
ويؤجر على جهاده لتحصيلها.
وقفة:
هل
لاحظتِ أنه ليس من سمات المربي القدوة أن يكون معصومًا؟! بل هو إنسان يعتريه ما
يعتري الناس جميعًا من لحظات ضعف بشري واقتراف لذنوب ومعاصٍ، وهمة بين شرة وقترة، والرسل
-صلوات الله عليهم جميعًا- على كمالهم البشري بشر، وفي مشهد الحساب سيتذكر كل منهم
ذنبًا يستحيي فيه من الله، فيتأخر ولا يشفع لبدء الحساب، ويقول: "لست
لها"(5).
لذا
فلا تتوقعي في نفسك العصمة؛ فالله لم يشرع الاستغفار والعفو إلا لأننا نذنب ونخطئ:
«والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله
فيغفر لهم»(6).
ولا
بأس أن تتذكري أنك قدوة لهم في لحظات ضعفك، لا تجزعي إن ضبطك طفلك متلبسة بمعصية،
بل سارعي بالاستغفار والاستعاذة بالله من الشيطان أمامه ليعرف ماذا يفعل إذا أخطأ.
لا بأس إن اعتذرت لهم على تفلت أعصابك وإهانتهم أمام الجيران مثلًا، ليتعلموا
الاعتذار، ويتعلموا كيف يقبلون العذر من الخلق، ولا يتعرضون لصدمة تساقط القدوات
وسقوط النخب، فتحتار قلوبهم لأن الشيخ أخطأ، أو المعلم يدخن، وذلك يساعده على وضع
الأمور في نصابها ووزنها بميزان الحق.
وتقبل
الخطأ من النفس ومن الغير لا يعني الرضا به، بل هو تفهم لضعف النفس البشرية
وحاجتها إلى الهداية واجتهاد لتكميل نقصها، وهذا ما شكّل البيئة الصحية التي عاش
فيها صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكم سمعوا منه (دعوه - دعه - لعلك
فعلت كذا)، فأقام الصحابة مجتمعًا مثاليًا يُعرف فيه لصاحب الإحسان قدره، ويعاقب
المخطئ ليعينه لا ليشهر به، ويفرح أحدهم بتوبة صاحبه تمامًا كما يفرح بتوبته.
ولكن
هل من وسيلة يمكن أن يتحول بها المربي إلى قدوة صالحة؟!
1. أن يضع هدفه دائمًا نصب عينيه، ويتذكر إخلاص نيته
لله -عز وجل-؛ فهذا يساعده على تذكر أنه عبد يصيب ويخطئ، وإذا وقع في الخطأ تدارك
أمره وسارع لإرضاء ربه.
2. أن يبدأ بنفسه دائمًا، ويجعل من رحلة التربية
فرصة ليربي نفسه ويلزمها بالخير لئلا يكون ممن يقولون ما لا يفعلون.
3. التعلم عن الله -عز وجل- وعن شرعه ومنهاجه،
فيتعلم ما يحتاجه من أمور دينه وعقيدته، ويتعلم ما يلزمه لإقامة صلاته وطهارته،
ويحفظ شيئًا من القرآن وينضر وجهه بحفظ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولا
ينس التعلم عن طرق التربية النبوية ومسالك النفس البشرية؛ ليعرف كيف يلجم زمام
نفسه كما يعرف كيف يعين أبناءه على ذلك.
4. التدرج في ترقي درجات الخير، فلا يكلف نفسه بعمل
شاق كبير ثم ينكص على عقبيه، بل يتفهم أن التدرج من سمات دعوة الإسلام.
5. تدبر آيات القرآن، لا سيما تلك التي تروي قصص
الأنبياء وكيف تعاملوا مع أقوامهم وكيف واجهوا الرفض والخذلان، مع التأكيد على أن
أقوام الأنبياء بشر مثلنا.
6. الاطلاع على سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-
والتأسي به في خلقه وسمته ودعوته وحاله مع صحابته -رضوان الله عليهم-.
7. الدعاء دائمًا، وطلب الهداية من الله؛ فيقول:
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سببًا لمن اهتدى، اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكها أنت
خير من زكاها، والاعتراف في ذلك بنقصه وضعفه وفقره وحاجته لله، ويتذكر أنه ليس
كاملًا معصومًا، بل إنه يلهج بطلب الاستعانة في كل صلاة: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
أخيرًا..
ليس
بالقدوة وحدها يتربى الأبناء، الهداية بيد الله وحده، ومهما امتلكت ناصية أدوات
التربية جميعها -بما فيها القدوة الحسنة-، فجميعها أسباب سخرها الله لك، إن شاء
أمضاها وإن شاء منعها. وقد عالج الخطاب القرآني هذا الضيق والكرب في صدر المربي
الناشئ عن عدم طاعة المتربين له، مذكرًا رسوله في كل مرة أنه ليس له (مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ) [آل عمران:128].
تأملي
قول الله تعالى: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ
صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ
ۚ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [هود: 12].
وتأملي
وصف القرآن الكريم لضيق صدر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم سؤاله: (وهل سيحملك
هذا الضيق على أن تترك بعض ما أنزل إليك فلا تبلغه لهم، كي لا يقابلوه بما اعتادوا
أن يقابلوا به نظائره فيما أخبرتهم من قبل؟)(7). وتعود الآية لتجيب كلا: (إِنَّمَا
أَنتَ نَذِيرٌ)، لست إلا نذيرًا، ولست موكلًا بكفرهم أو إيمانهم، بل الله -عز وجل-
(عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ).
يشبه
هذا كثيرًا إحساسك بالضيق وعدم الكفاءة، لتذكرك الآيات بمعرفة قدر نفسك ومعرفة
حدود دورك، ما عليك إلا البلاغ، والأخذ بالأسباب التي يسرها الله لك، والله -عز
وجل- وكيل، وبكل جميل كفيل.
ولأن
الهداية بيد الله وحده، والمربي هو ربي -عز وجل-، فاجمعي همك وهمتك في الدعاء وطلب
الهداية من الله لك ولأولادك، فاللهم رحمتَك نرجو، فلا تَكِلْنا إلى أنفسنا
طَرْفَةَ عين، وأَصلِح لنا شَأننا كلَّه، لا إله إلا أنت، اللهم اهدنا لأَحْسَنِ
الأخْلَاقِ، لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّا سَيِّئَهَا،
لا يَصْرِفُ عَنِّا سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ.
---------------------------
1. أحلام رضوان، (2019)، المجلة الدولية للدراسات
التربوية والنفسية.
2. السابق.
3. أخرجه النسائي (3140)، وصححه الألباني.
4. أخرجه أحمد (25813)، وصححه الألباني.
5. رواه البخاري 4712.
6. رواه مسلم عن أبي هريرة.
7. في ظلال القرآن، سيد قطب.
شيريهان عبدالله
مقال رائع جزاكم الله خيرا