من خلال اختلاطي مع المراهقين والفتيان بحكم عملي مشرفًا تربويًا ومهتمًا كذلك بالعمل الدعوي وممارسًا له طوال السنوات العشر الأخيرة؛ ألاحظ أن كثيرًا من المراهقين لديهم نزعة قوية للعنف، سواء العنف اللفظي واستخدام الألفاظ والردود الوقحة مع أقرانهم
السؤال:
من خلال اختلاطي مع
المراهقين والفتيان بحكم عملي مشرفًا تربويًا ومهتمًا كذلك بالعمل الدعوي وممارسًا
له طوال السنوات العشر الأخيرة؛ ألاحظ أن كثيرًا من المراهقين لديهم نزعة قوية
للعنف، سواء العنف اللفظي واستخدام الألفاظ والردود الوقحة مع أقرانهم وممارسة التنمر،
أو العنف الجسدي تجاههم، والذي تسبب فيه ربما الظروف المحيطة بهم، أو استغراقهم في
الألعاب العنيفة على الجوالات وأجهزة الحاسب الآلي، أو ربما أسباب أخرى لا
أعرفها..
لذلك كان يراودني
دائمًا تساؤل: هل النشأة العنيفة للدعاة الصغار تؤثر في تعامل الداعية أو المربي
مع المدعوين في المستقبل؟! بمعنى آخر: هل الطفل الذي يُعدُّ ليكون مشروع داعية
ينبغي أن يتم اختياره بعيدًا عن هذه الفئة العنيفة أم يمكن اختيار أحدهم وتهذيب
سلوكه؟! وما الذي ينبغي على المربين لكي يتمكنوا من محو هذه الرواسب العنيفة من
نفوس دعاة ومربي المستقبل؟!
الجواب:
الحمد
لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحابته ومن والاه..
قال
الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ) [النحل:125]،
فالرفق واللين من هدي رسوله الأمين، والرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء
إلا شانه، وقد قال الله لنبيه وقد بعثه -عليه صلاة الله وسلامه- رحمة وهداية
للعالمين؛ حيث قال له: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا
غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159]، فلابد للدعاة في تدريبهم لأنفسهم ولغيرهم
من السير على هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان أرحم الناس بالناس.
بدايةً
هذه بعض النقاط المهمة التي نريد أن نضعها بين أيدينا قبل أن نعرض لتفاصيل الإجابة:
أولاً:
الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- تخصص دقيق، وعمل كبير، بل هي أرفع مقامات الدين،
وهي مهمه رسولنا -عليه الصلاة والسلام- والأنبياء ومن سار على دربهم من الهداة
المصلحين.
ثانيًا:
لابد أن يكون الداعي بعيدًا كل البعد عما ينفر الناس عنه؛ فالداعية الناجح يقصده
الناس ويجدون عنده الرفق والخير والهداية، فهو من المحسنين.
ثالثًا:
المهام الكبيرة تحتاج إلى إعداد كبير، ومن المهم حسن اختيار من سوف يرشَّح للعمل
الدعوي، ثم نكثف البرامج وننوعها في سبيل إعداد هذه الأجيال التي ستحمل هم الأمانة
والرسالة التي تركها النبي -صلى الله عليه وسلم- في أعناقنا.
رابعًا:
تربية الدعاة لابد فيها من تحلية وتخلية، لابد من تخلية من النقائص وإحلال الفضائل
والمكارم، وهذا من المعاني المهمة، فلا يصلح أن نأتي بالفضائل دون أن ننزع الرذائل
والنقائص التي علقت بالنفوس بفعل هذه المجتمعات التي ابتعدت كثيرًا عن هدايات
الشرع.
خامسًا:
للداعية مؤهلات فطرية وأخرى مكتسبة، ومن المهم معرفة من يصلح للدعوة، بل يمكن أن
نذهب إلى تخصص أكثر لنعرف في أي ميدان من ميادين الدعوة يمكن أن يصلح هذا الشاب أو
ذاك.
سادسًا:
قد يصعب علينا في هذا الزمان الحصول على من لا نقص فيه؛ فنحن بشر والنقص يطاردنا، والإشكالات
تحيط بنا، ولذلك الأصوب وضع معايير للاختيار أولاً، ثم وضع قاعدة بيانات لكل من
يتقدم لعمل الأنبياء وأشرف الأعمال: الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، ثم نسعى بعد
ذلك في تنمية الإيجابيات ومعالجة النقائص والسلبيات، وصولًا إلى جليل الغايات،
ودورنا هنا هو تهذيب السلوكيات وتصويب الاتجاهات لدعاة المستقبل حتى تثمر الدعوة وتنجح
في هذا العمل العظيم.
إن
دور العاملين في حقل الدعوة كبير في تخليص دعاة المستقبل من آثار تلك الألعاب
العنيفة، أو التي نتجت بفعل سلبيات النشأة الأولى في مجتمعاتنا، وأرجو ألا ينزعج الدعاة
من وجود تلك النزعة عند بعض شبابنا؛ إذ لابد لدعاة المستقبل من معرفة علل عصرهم؛
فهذا العنف -إذا كنا نخافه ونمنع وجوده في الدعاة- فهو موجود في المدعوين، ولن
يحسن عرض الإسلام وفهم قضايا الناس من لا يعرف الجاهلية، وسوف يستفيد من يتعافى
على أيدي الدعاة والتربويين الربانيين من آثار العنف ويكتسب مناعة لنفسه وبصيرة في
علاجه لغيره من إخوانه ممن وقعوا في هذا الإشكال.
ودورنا
-معشر الدعاة العاملين والمربيين- كبير في تغيير السلوكيات السلبية، فإن عجزنا عن
التغيير الكامل فعلينا أن نغير مجاريها، هذا أيضًا ما يقوله علماء التربية؛ بأن
نجعل الغضب لله وفي الأمور التي تستحق، ونجعل الغلظة في القول لمن يستحقها، وكل
ذلك من الحكمة المطلوبة، ولذلك هذه من الأمور المهمة التي لابد أن نراعيها ونحن
نسعى في التصحيح وتغيير تلك السلوكيات التي علقت بالنفوس في أيام غفلتنا وبُعدنا.
وهنا
أحب أن أنبه أيضًا إلى أن ميادين الدعوة واسعة، ومن خلال إعداد الدعاة سوف نعرف من
هو الأصلح لخطاب الناس، ومن هو الأقدر في مجال التأليف، ومن هو الأعمق فائدةً في
ميادين التخطيط وإدارة الأعمال الدعوية، فالدعوة اليوم بحاجة إلى صحفيين وإعلامين
ومصورين ومغردين وشعراء وأدباء ومخططين يضعون الاستراتيجيات ويحددون الأولويات، وكل
ميسَّر لما خلق له؛ فالدعوة إذًا تحتاج إلى إعداد عظيم، والبدايات المحرقة هي التي
توصل إلى نهايات مشرقه بإذن الله -تبارك وتعالى-.
نأتي
إلى السؤال المهم: كيف ننجح في محو آثار العنف من نفوس دعاة الغد؟! ونختصر ذلك في
النقاط التالية:
أولاً:
علينا الاستعانة بالله والتوكل عليه واللجوء إليه؛ فإن قلوب الصغار والكبار بين أصابع
الرحمن يقلبها ويصرفها، وهداية التوفيق منه وحده سبحانه.
ثانيًا:
علينا أن نجتهد في معرفة أسباب العنف، ونجري الدراسات المعمقة عن ذلك؛ فإن معرفه
السبب أكبر ما يساعدنا في إصلاح الخلل والعطب.
ثالثًا:
علينا أن نقوم بدراسات متأنية لشجرة عائلة كل داعية، ونعرف ترتيبه بين إخوانه
وظروف نشأته ومعرفة تاريخ وخلفية مظاهر العنف التي عنده، سلبية كانت أو إيجابية،
فقد يكون تنمَّر على آخرين أو كان هو ضحية للتنمر، فأثر ذلك سلبًا في سلوكه.
ثالثًا:
علينا أن نحرص على إدارة حوارات مع دعاة المستقبل من أجل تصحيح المفاهيم حول مسائل
مثل الشجاعة والرجولة والشدة؛ ففي ديننا ليس الشديد بالصرعة الذي يصرع الرجال،
ولكن الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب؛ فتصحيح المفاهيم له أثر كبير لأنه يؤثر
على القناعات الموجودة في داخل النفوس.
رابعًا:
إحياء قيم الحب والتعاون، وتنميه قيمة العفو والحلم تأسيًا بأنبياء الله الذين لم
يكونوا يغضبون لأنفسهم.
خامسًا:
علينا أن نسعى في استيعاب طاقات الشباب لنشغلهم قبل أن يشغلونا، ثم نوجه هذه
الطاقات في الاتجاه الصحيح، وندربهم على إدارة غضبهم والتحكم في مشاعرهم وضبطها
بقواعد الشرع.
سادسًا:
لابد من حرص المربى الداعية الذي يربي الدعاة -دعاة المستقبل- على أن يكون قدوة في
تعامله مع طلابه، فلا شك أن تجنبه لأي مظهر من مظاهر العنف هو أقصر طريق لنزع
الخلل في نفوسهم، ونحن نؤثر بأفعالنا أكثر من أقوالنا، والأخذ بالقدوة أخذ متكامل،
ولذلك ينبغي أن نوجد لهم هذه القدوات ممن تسلحوا بالصبر والحلم والعفو وحسن إدارة
انفعالاتهم وغضبهم.
سابعًا:
الحرص على محو آثار العنف الغائرة في نفوس الشباب بمناقشة مظاهر العنف الأسري،
وعرض المنهج الشرعي الصحيح حتى يكون الاحتكام للشرع وليس للعادات والتقاليد، فإن
من الناس من يظن أن الضرب ينفعه والعلم يرفعه؛ (لنا العظم ولكم اللحم) كما يقول
البعض، ولذلك لابد من تصحيح هذه المفاهيم؛ فآثار القسوة هذه آثار خطيرة، وهي التي
تقتل عندهم روح المبادرة، وهي التي تولّد عندهم رغبة في الانتقام من آخرين كما أوذوا
في صغرهم.
ثامنًا:
التأكيد على العدل بين الأبناء والطلاب والزملاء والمرؤوسين؛ فالعدل أولاً مطلب
شرعي، وهو من أهم أسباب سد الأبواب للسلوكيات السلبية، ومنها العنف الذي نتحدث عنه.
تاسعًا:
علينا أن نحرص على تنمية القدرات العلمية والمهارات الحياتية، ونسعى في اكتشاف
المواهب؛ فإنه لا يلجأ للسلوكيات السلبية مثل العنف إلا من فشل في اكتشاف نفسه وقصّر
من حوله من الدعاة والمربين في اكتشافه؛ فقد يكون العنف بسبب الإحباط والإحساس
بالفشل، وكأنه يريد أن يلفت النظر، وأن يظهر بهذا الجانب السلبي بكل أسف.
عاشرًا:
علينا أن نحرص على برامج التعايش والمشاركة مع دعاة المستقبل، فلا نكتفي بالتدريب
النظري للدعاة، ولكن لابد من المعايشة والمشاركة لهم حتى نخلصهم أولاً من ضعف
التكيف الاجتماعي، وأيضًا ننمي عندهم الروح الجماعية، فالمؤمن الذي يخالط ويصبر
خير من الذي لا يخالط ولا يصبر، كما أن وجود المربى مع الدعاة -دعاة المستقبل-
يساعده في اكتشاف صور الخلل ومعالجتها في البداية، والعلاج في البدايات سهل.
حادي
عشر: وضع قواعد واضحة للتعامل مع النفس ومع الغير، انطلاقًا من قواعد الشرع الحنيف،
وتدريب الشباب على العادات الحسنة مثل فنون الاحترام والذوق الرفيع.
ثاني
عشر: حزم المربي وصرامته عند حصول تجاوز تجاه الآخرين من طلابه الدعاة، كما حصل
لرسولنا مع أبي ذر -رضي الله عنه- عندما عيَّر رجلاً بأمه فقال له النبي –صلى الله
عليه وسلم-: (إنك امرؤ فيك جاهلية) [متفق عليه]. وكان ذلك أيام تنزل الوحي وبدايات
التربية.
ثالث
عشر: تربية دعاة المستقبل على ثقافه الاعتذار، وتدريبهم على جبر الخواطر؛ لكونها
سبب النجاح وفيها الوقاية -بحول الله وقوته- من المخاطر، وتدريبهم على حسن الظن
بالناس.
رابع
عشر: الدراسة المتأنية لمناهج الأنبياء وقصصهم مع أقوامهم، مع نماذج من سير دعاة
الحق عبر تاريخ المصلحين الربانيين.
أخيرًا:
التسلح بالصبر، مع الاستمرار في التربية والمتابعة الواعية، والتقييم المستمر،
والتوجيه الرشيد. ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد.
حسام الدين
اكيد هذا سيحدث لان الطفل العنيف سيصبح رجل عنيف ومهما كانت وظيفته لذا يجب ان يعالج المربين العنف عند الاولاد المؤهلين ليكونوا دعاة منذ الصغر