لدينا في مركزنا خمسة فصول دراسية، في كل فصل منها 10 طلاب، وبصفتي مشرفًا تربويًا بالمركز فملاحظاتي على مدار السنوات الخمس الأخيرة أنه دائمًا ما يوجد في كل فصل طالب أو طالبان منعزلان تمامًا عن بقية الطلبة، وهذا لفت نظري وأثار دهشتي
السؤال:
لدينا في مركزنا خمسة فصول دراسية، في كل
فصل منها 10 طلاب، وبصفتي مشرفًا تربويًا بالمركز فملاحظاتي على مدار السنوات الخمس
الأخيرة أنه دائمًا ما يوجد في كل فصل طالب أو طالبان منعزلان تمامًا عن بقية الطلبة،
وهذا لفت نظري وأثار دهشتي؛ حيث إنهم لا يشاركون أقرانهم في أية أنشطة، خاصة الأنشطة
الدعوية التي يقوم المعلمون بتكليفهم بها، كإلقاء الكلمات أو التدريب عليها، أو التحدث
بصورة فردية مع المدعوين الجدد، أو حتى الأنشطة الرياضية وما شابهها، فيما يبدو لي
أنها الأنشطة التي لها صبغة اجتماعية إلى حد ما. فكيف يمكننا معالجة هذه الإشكالية
ودمج هؤلاء الطلبة مع أقرانهم؟! علمًا بأنهم قد يكون منهم من هو متميز في الجوانب العلمية
أو الحفظ.
الجواب:
ظاهرة الانطواء
والعزلة مشكلة حقيقية قد
تواجه بعض الأطفال ولا يجب إهمالها على الإطلاق؛ لأنها ببساطة مشكلة نفسية سلوكية قابلة
للتطور، ويمكن أن ترافق صاحبها إلى مراحل عمرية متقدمة.
ومما
لا شك فيه أن كل حالة تختلف عن قريناتها في الحال والمآل والأسباب؛ فقد تكون من أساس
طبيعة الطفل وتكوينه النفسي، أو تعود إلى أسباب تربوية من قبل الأسرة أو المدرسة، كما
يمكن لمرحلة المراهقة التي يمر بها البعض وما يعتريها من تطورات فيزيولوجية ونفسية
أن تلعب دورًا بارزًا في الرغبة بالعزلة والانطواء .
لذا ومع
اختلاف هذه الأسباب وجب قبل كل إجراء إخضاع كل حالة إلى دراسة مستفيضة من مرشد أو اختصاصي
نفسي لتشخيص الحالة بدقة ولمعرفة الأسباب الحقيقية لما يعاني منه هذا الطفل، ومن
ثم الطريقة المثلى للتعامل مع كل حالة على حدة، ليأتي بعدها دور المعلم والمربي
وأولياء الأمور في مساعدة أطفالهم على التخلص من مشكلاتهم، والاندماج مع أقرانهم، والمشاركة
في الأنشطة الجماعية.
وهنا يجب أن نميّز بين أمرين وَرَدَا في
سؤالكم: الأمر الأول هو ظاهرة الانطواء والعزلة لدى بعض الأطفال، والثاني: هو ظاهرة
الخجل وعدم المشاركة في الأنشطة الجماعية لدى البعض الآخر، وهو ما يسمى بـ(الرهاب الاجتماعي)،
وهي ظاهرة طبيعية تنتاب حتى بعض الكبار في مواجهة الجمهور والتحدث أمام الآخرين.
وبالنسبة
لمشكلة الانطواء والعزلة فيمكن أن نعزوها إلى أسباب عدة؛ منها:
1- أسباب شخصية وأسرية:
تعود لطبيعة الطفل وتكوينه الشخصي،
وبالتالي ضعف ثقته بنفسه، والتي تعود في الأصل إلى طريقة التربية التي تلقاها في
بيته، والتي تعود في الغالب إلى ما يلي:
- الشعور بالنقص بسبب معاناته من نقص معين أو إعاقة
معينة، وافتقاد الشعور بالأمن لفقده الثقة في الغير وخوفه منهم.
- التدليل الزائد والاهتمام والمتابعة الزائدة من
الأبوين أو أحدهما، والنابعة من الخوف وزيادة الحرص عليه.
- الخلافات الأسرية بشكل عام، وتنازع الأبوين حول
طرق التربية والمتابعة، وما ينجم عنها من عقد نفسية يطول أثرها مع الأطفال.
- الشعور بالحرمان العاطفي نتيجة الفقد أو الانفصال
أو قلة الاهتمام من الأبوين بالطفل، وهذا ما نجده كثيرًا في المناطق المنكوبة
وحالات اليتم والنزوح واللجوء.
- المشكلات المادية التي تعاني منها الأسرة والتي
تعكس على أفرادها جميعًا ضغوطًا نفسية لها ما لها من آثار سلبية لا يسلم منها حتى
الأطفال؛ وذلك لحرمانهم من اقتناء الكثير من الأشياء التي يحبونها.
- العنف الأسري المادي والمعنوي، وما يتسبب فيه من تكرار
توجيه الرسائل السلبية من الأبوين أو أحدهما للطفل.
- تكرار مقارنة الطفل من ذويه بأحد أفراد أسرته أو
أبناء أقاربه المتميزين.
- التمييز في المعاملة بين الأطفال في الأسرة الواحدة
أو المدرسة؛ ما يولد شعورًا بعدم الأهمية أو المحبة داخل الأسرة أو الفصل.
- التفاوت المادي والاجتماعي بين الأطفال في الفصل
أو البيئة الواحدة.
- ضعف الخبرات الحياتية لدى بعض الأطفال في مهارات
التواصل والتعامل مع الآخرين بسبب ضعف التوجيه الأسري.
- مرور الطفل بمرحلة المراهقة وما يرافقها من
تبدلات فيزيولوجية، وما يخالطها من مشاعر تدعو إلى العزلة.
2- أسباب تعود للبيئة المحيطة وأثرها في التكوين
العام للأطفال مثل:
- عدم الاستقرار وتكرار النزوح وتغيير البيئات لدى
الأطفال في مناطق الكوارث والأزمات.
- تعرض
الطفل لبعض التجارب الفاشلة في التعامل مع الآخرين أو تنمر
بعض الأقران عليهم؛ ما يولد لديهم الخوف من الآخرين ومن التعامل معهم.
- تدخل باقي الأهل في التوجيه والتربية، خصوصًا في
الظروف الحالية التي ألجأت الكثير من الأسر للسكن مع بعض، أو اضطرار البعض للسكن
مع أقاربهم بسبب اليتم.
- الفتور
العاطفي والاجتماعي بين أفراد الأسرة، وأيضًا بين الأسرة ككل، والمجتمع المحيط بها
يساهم بشكل مباشر في ظهور الانطواء عند الطفل.
- الانشغال
بالتكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي لفترات طويلة، والاستغناء عن
التواصل المباشر.
3- أسباب تعود إلى المدرسة والمحاضن التربوية ومنها:
- اتباع الأساليب التقليدية في التعليم، والابتعاد
عن الطرق الحديثة التي تحث على العمل الجماعي.
- ضعف خبرة المعلم في التعامل مع الحالات الخاصة
للمتعلمين.
- التفرقة في المعاملة بين الطلبة من قبل المعلم؛ ما
يولد شعورًا بعدم الأهمية أو المحبة داخل الصف.
- غياب الاختصاصيين والمرشدين التربويين والنفسيين
عن المحاضن التربوية.
- زيادة
التنوع الديمغرافي -نسبة إلى الجغرافيا- بسبب النزوح المتكرر، ومن ثم تقوقع أبناء
كل منطقة أو قرية على بعض وعدم الاندماج.
أما أسباب
الرهاب الاجتماعي:
فقد
تعود إلى ضعف الثقة بالنفس وضعف مهارات التواصل والتعامل مع الآخرين في المواقف
المختلفة وما يعرف بـ(الإتيكيت).
ولإبعاد
الطفل عن الانطواء والعزلة وإدماجه مع الآخرين والتخلص من الرهاب الاجتماعي ننصح
بما يلي:
1- ينبغي
أن ندرك أن الطفل الانطوائي لديه حساسية مفرطة، وفي حاجة شديدة لتعزيز ثقته بنفسه
وقبول ما لديه من نقص قبولًا يكون حافزًا لتغييره أو تجاوزه أو التأقلم معه، وإشعاره
بأنه شخص محبوب ومميز، فيجب التركيز على ذلك.
2- تنمية شخصية الطفل وقدراته، وتعزيز المهارات
الحياتية لديه، وأهمها مهارات التعامل مع الآخرين في المواقف المختلفة (الإتيكيت)
ومهارات التواصل الفعال مع الآخرين.
3- التربية
الاستقلالية عن الآخرين وخصوصًا الوالدين، والحرص على العدل
والمساواة في التعامل بين الأطفال داخل الأسرة أو المدرسة.
4- الحرص من الأبوين على حصر وحل المشكلات الزوجية داخل
غرفة النوم، والنأي بالأطفال عنها أو الشعور بها.
5- الحرص على تقوية الروابط الأسرية داخل الأسرة
والروابط الاجتماعية في المجتمع، وتعليم الأطفال الانفتاح الاجتماعي على الآخرين، وتشجيعهم
على التواصل وتكوين صداقات مع أقرانهم.
6- عدم
تحميل الطفل ما لا يطيق وما لا يناسب قدراته وعمره الزمني.
7- إن
أفضل أنواع التربية هي التربية بالقدوة، وأفضل قدوة للطفل هم الوالدان والمعلمون؛
فليحرصوا على ألا يرى الأطفال من تصرفات الآباء والمعلمين أي قبيح، وليركزوا على
أن يروا منهم كل مليح.
8- الابتعاد
عن توجيه الملاحظات للأطفال أو التعنيف أمام الآخرين أو دعوتهم أو إكراههم على فعل
ما لا يحبون؛ كأن يطلب منهم أن يسلموا على الضيوف أو ينشدوا، أو الإشارة إليه على
أنه خجول؛ فهذا يعزز هذا السلوك لديه.
9- تشجيع
الطفل بالحرص على المدح والثناء عليه، وتوجيه الرسائل الإيجابية له
باستمرار، وتجنب إرسال الرسائل السلبية له؛ كأن يقال له: أنت خجول، أنت لا تستطيع
فعل هذا، أنت فاشل، أنت غبي.
10- إشراك التلاميذ الانطوائيين في الأنشطة
والأعمال الجماعية، والإذاعة المدرسية.
11- تطبيق أساليب التعليم الحديثة
واستراتيجيات التعلم النشط في التعليم، ومنها التعليم التعاوني والعمل في مجموعات،
واستراتيجيات التعلم عن طريق اللعب والمسرح والمحاكاة وتبادل الأدوار، مع
الحرص على وضعه
في مجموعة تتقبله عند تطبيق نمط العمل في مجموعات.
12- تعزيز ثقة الطفل المنطوي بتعليمه معلومة
خاصة لا يعرفها أقرانه، وسؤاله عنها في الفصل أمام الجميع ليكون هو المجيب.
13- سؤاله أسئلة سهلة ومساعدته في حلها.
14- تغيير مكانه إلى الصفوف الأمامية إن
كان منزويًا في الصفوف الخلفية.
15- تكليف الطفل الانطوائي بأنشطة بسيطة وسهلة
التنفيذ للتمرن عليها في البيت، ومدحه وتعزيزه على تنفيذها أمام
أقرانه.
16- إدماجه في أنشطة ترفيهية وألعاب جماعية.
17- تجنب المعلم تعنيف التلميذ أمام أقرانه
أو تسخيف جوابه أو مشاركته؛ لأن هذا سيؤثر حتى على مشاركة الطلبة المشاركين بالأصل.
18- عدم الطلب من التلميذ الإجابة على
السؤال، وإنما طرحه على المجموع مع النظر المحفز والحاني للطالب المقصود، وتشجيعه
بابتسامة على المشاركة والإجابة، وشكره على مشاركته وإجابته مهما كانت، والانتقال
لآخر بقول: أحسنت، أريد إجابة أخرى.
ختامًا:
يجب أن يعلم كل معلم ومربٍّ أن نسبة كبيرة من أبناء الأمة أصبحوا
أيتامًا مع وجود الأبوين لنسبة كبيرة منهم، خصوصًا مع ما تمر به الأمة في كل بقاع
الدنيا من محن؛ وذلك لانشغال ذويهم عنهم، إما بهموم المعيشة، أو بالملهيات من
وسائل التواصل الاجتماعي التي قربت البعيد وأبعدت القريب الذي سنُسأل عنه يوم
القيامة وهم أبناؤنا ومن استرعانا الله إياهم.
وعليه
فإن رسالتي الأخيرة لكل أب وأم: الله الله فيمن استرعاكم الله إياهم؛ فتمثلوا قول
النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت) [مسلم: 996].
واعلموا أن حاجات أطفالكم هي أكبر من الطعام والشراب، فتبينوها بالعلم والمعرفة
ومراجعة ما فاتكم في تربيتهم، وأعطوا كل ذي حق حقه، ومن نعم الله عليكم أن كتب
المعرفة في جميع التخصصات أصبحت مبذولة مجانًا الآن مع توفر الوقت الكبير المتاح،
ولكن يحتاج فقط إدارة واعية تستثمره.
ورسالتي
لكل معلم ومربٍّ أنك خليفة النبي -صلى الله عليه وسلم- في رسالته، وهذا رغم أنه
تشريف فهو تكليف سيسألك الله عنه يوم القيامة، فتمثل ذلك وأنت تؤدي عملك العظيم،
واجبر تقصير أولياء الأمور فيمن تربي، وتحرَّ في تعاملك معهم أرقى الأساليب
التربوية، ولا تركن إلى ما معك من علم ومهارة، واحرص على تعلم كل جديد، ولا يؤثر
على ذلك ما تمر به من ظروف وضغوط مادية ونفسية جمة نقدرها لك، وسيحفظ الله لك ذلك
كله. وأبشر بموعود الله في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ
وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي
جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ)
[صحيح الجامع: 1838].
إضافة تعليق