فإن عملك كـمُرَبٍّ لمجموعة من الأفراد، أو كوالد لمجموعة من الأبناء؛ يجعلك دائمًا أمام معضلة التنوع؛ حيث اختلاف الطبائع والنفوس والأحلام والتوجهات، وتزداد مسؤولية المربي عندما يتعامل مع أعراف مختلفة وتنوعات أكثر من الناحية الاجتماعية أو العلمية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..


فإن عملك كـمُرَبٍّ لمجموعة من الأفراد، أو كوالد لمجموعة من الأبناء؛ يجعلك دائمًا أمام معضلة التنوع؛ حيث اختلاف الطبائع والنفوس والأحلام والتوجهات، وتزداد مسؤولية المربي عندما يتعامل مع أعراف مختلفة وتنوعات أكثر من الناحية الاجتماعية أو العلمية أو التَّديُّنيَّة.


وهنا تظهر أهمية مراعاة تنوع الأفراد واختلافهم عن بعضهم، وتتجلى تلك المراعاة في سيرة المربي الأول في هذه الأُمَّة ﷺ، حيث كان يتعامل مع كل شخص كـ «حالة خاصة»، لها ظروفها ومتطلباتها وطريقتها في التعامل والتوجيه والإصلاح.


وقد اخترت هنا ثلاث شخصيات من أصحابه -رضي الله عنهم- لنتلمس الفعل النبوي مع كل واحد منهم؛ ليتضح لنا هذا التنوع الذي نتحدث عنه، أحدهم مشهور، والثاني قليل من يعرفه، والأخير لا نعلم عنه إلا موقفه هذا.


أما المشهور فهو الصحابي الجليل والفارس الصادق النبيل كعب بن مالك الذي سطر القرآن الكريم توبته، بعد قصة تخلفه عن غزوة تبوك.


والثاني: هو الصحابي الشجاع المهيب: خوَّاتُ بن جبير -رضي الله عنه-. والخوَّات في اللغة: الجريء، والرجل الذي لا يُبالي ما ركب من الأمور. والناظر في حياة خوَّات -رضي الله عنه- يرى أنه قد انطبق فيه هذا الوصف تمامًا في جاهليته وإسلامه.


يكفي أن تمر على قصة «ذات النِّحيين» التي اشتهرت في كتب الأمثال، لتعلم صِدق هذا الوصف: جريء، لا يبالي ما ركب من الأمور، حتى جعلته هذه الجراءة في الجاهلية مضرب المثل في «الغُلمة» فيقال: «أغلم من خوّات».


فلما خلعَ عباءة الجاهلية وأشرقت شمس الإسلام على قلبه، واستقامت تلك الصفات على ميزان الإسلام = صارت هذه الجرأة في الحق، واستحالت إلى استخفاف بالصعاب في سبيل الله، وإذا بتلك الجرأة وعدم الاكتراث بالمخاطر، تتجلى في خوَّات الذي تذكره المراجع كـ «أحد الشجعان المذكورين»، و«أحد الأبطال المشهورين»، و«أحد فرسان رسول الله ﷺ».


والمشكلة التي حدثت هنا يلخصها خوات بقوله:


«نزلنا مع رسول الله ﷺ مَرَّ الظهران، قال: فخرجتُ من خبائي فإذا أنا بنسوةٍ يتحدثن، فأعجبنني، فرجعتُ فاستخرجتُ عيبتي، فاستخرجتُ منها حُلّة فلبستها، وجئتُ فجلستُ معهن، وخرج رسول الله ﷺ من قُبّته فقال: «أبا عبد الله! ما يجلسك معهن؟»، فلما رأيتُ رسول الله ﷺ هِبته واختلطتُ، قلتُ: يا رسول الله! جمل لي شَرَد، فأنا أبتغي له قيدًا. [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (4/203)].


أما الثالث، فهو الشاب الذي جاء استأذن النبي ﷺ في الزنا، وهو مشهور بهذه الحادثة.


هنا باختصار نُسلِّط الضوء على جانب واحد، وهو كيفية تعامل النبي ﷺ معهم، على اختلاف أحوالهم ودرجاتهم، ومشكلاتهم التي استعملها النبي ﷺ في تربيتهم من خلالها، وكذلك تربيتنا نحن على مراعاة تنوع الأفراد.


إذن، عندنا هنا ثلاث شخصيات بثلاث مراتب:


الأولى: يسعى فيها المربي لإصلاح الخلل من أقرب طريق وأيسره، وينصب المجهود على تعليم «المدعو- الابن- المربَّى»، خطأ ما يسعى إليه وأثر ذلك على قلبه وحياته، وتجد ذلك في تعامل النبي ﷺ مع الشاب الذي جاء يستأذنه في الزِّنا.


تأمّل:


يقول: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مَهْ. مَهْ! يريدون منه أن يسكت؛ إجلالاً لرسول الله ﷺ، واستنكارًا أن يأتي يستأذن في أمرٍ كهذا. فيقول له النبي ﷺ: «اُدْنه». اقترب مني.. وهذا أوَّل بذل الحُب! فدنا منه قريبًا، ثم قال: «أتُحِبّهُ لأُمّكَ؟». قال: لا والله! جعلني الله فداءك. قال: «ولا الناسُ يُحبُّونه لأُمّهاتهم». قال: «أفتُحِبُّهُ لابْنتك؟» قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: «ولا الناس يُحبونَهُ لبِنَاتهم». قال: «أفتُحبهُ لأُختِكَ؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: «ولا الناسُ يُحبّونه لأخَوَاتهم». قال: «أفتُحبّهُ لعَمّتِكَ؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: «ولا الناسُ يُحبونَهُ لعمَّاتِهم». قال: «أفتحِبّهُ لخالتِكَ؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم». [السلسلة الصحيحة (1/712)].


هذا التكرار والطَّرْق المستمر على غلاف القلب للتبصير بالعواقب هو المطلوب في تلك الحال. نعم؛ «بذل الحب» في أوضح صوره، وكذلك «تبصير بالعواقب» في وضوح تام لا يترك له أي تأويل. ثم يختم بالحب فيضع يده الشريفة عليه، ويقول: «اللهم اغفِر ذنبهُ وطهّر قلبهُ، وحصّن فرْجَهُ». فاستجاب الله للنبي ﷺ وصلح حاله ببركة دعائه له، وأيضًا ببركة «دعوته» له بالطريقة الصحيحة التي تُصلِحه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.


هذه هي المرتبة الأولى.


أما المرتبة المقابلة؛ فتتميز بإلقاء كثير من مهمة اكتشاف الخطأ والتصحيح على المدعو نفسه أكثر من المربي، فربما عمد المربي إلى بذل الحب بسَحْب مَظَاهِرِه وكتمانه، وشرع في التبصير بالعواقب بتفويضها للمخطئ لمراجعتها بنفسه ومعايشة ما جناه على نفسه!


وهذا ما حدثَ في قصة كعب بن مالك وصاحبيه -رضي الله عنهم-، لما تخلّفوا عن غزوة تبوك، وكان النبي ﷺ إذا قدم من سَفَر، بدأ بالمسجد، فيركع فيه ركعتين، ثم يجلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلَّفون، فطفِقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقَبِل منهم رسول الله ﷺ علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ثم يدخل «كعب».


انتبه!


يقول: فجئته، فلما سلَّمتُ عليه تبسَّم تبسُّم المغضب، ثم قال: «تَعَالَ»! فجئت أمشي حتى جلست بين يديه. فقال لي: «ما خَلّفَك، ألم تكن قد ابتعتَ ظهرك؟!».


بكل هذا الحسم! «بذل وتبصير» بوضع مخصوص..


يقول كعب -رضي الله عنه-: «بلى، إنِّي والله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيتُ أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطِيتُ جدلاً؛ ولكني -والله- لقد علمتُ لئن حدثتك اليوم حديث كذبٍ ترضى به عني، ليوشكن الله أن يُسخِطك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صِدق، تجد عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله!


لا والله، ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى، ولا أيسر مني حين تخلفتُ عنك..


فيقول ﷺ: «أمّا هذَا فقَدْ صَدَق؛ فقُم حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيكَ». [متفق عليه].


هل لاحظت ما بين الحالتين؟!


هناك يقول له: «اُدنه».. اقترب، وهنا يقول له: «تعال»!


هناك يبصره بالعواقب ثم يدعو له.. وينتهي الأمر في جلسة واحدة.


أما هنا.. فالأمر يحتاج إلى تربية من نوع خاص ووقت تحدث فيه التخلية وإصلاح الخطأ: «قُم حتى يقضي الله فيك»!


ثم تأتي المرتبة الثالثة، وهي الوسطى بين تلك الحالتين.. هنا حادثة خوَّات -رضي الله عنه-؛ بيْنَ بيْنَ .. لا هو بالذي أصبح راسخًا ككعب بن مالك -رضي الله عنه-، الذي أسلم قديمًا وشهد العقبة وهو شاعر الإسلام المفوَّه، ولا هو كالشاب الجاهل الذي جاء يستأذن في الزنا.


يقول ﷺ: «أبا عبد اللهِ! ما فَعلَ شِرَادُ جملِكَ؟»، «يا خوَّات! أَمَا آنَ لذلكَ البعِيرُ أن يَرجِعَ عن شُرُودِهِ؟!».


إن هذا الإنكار يأتي بين هذا وذاك؛ بذلٌ للحُبِّ: «أبا عبد الله»! يُكنيه، يتلطف معه في العبارة، وهو بين قوله: «اُدْنُه»، وبين قوله «تعال!».


«ما فعل شراد جملك؟». أيضًا هنا بينَ بينَ؛ بين «أترضاه لأمَّك، لأختك، لعمَّتك، لخالتك؟!». وبين الوضوح في قوله: «ما خَلَّفَك؟ ألم تكن قد ابتعتَ ظهرك؟!». وفيه إنكار وتبصير وتَذكير بما مرَّ في جاهليته، وتحذير أن يعود لما كان منه أيام الجاهلية، فيقول: «أما آنَ لهذا البعير أن يرجع عن شروده!».


هل لاحظت أن التبصير في الحالات الثلاث كانت وسيلته «الاستفهام» لا الإقرار؟!


هكذا ينبغي أن يكون «التبصير» بإحياء الفطرة واستخراج الخيرية التي أودعها الله فيها؛ لتكون إرادة التغيير ذاتية نابعة من القلب، قائمة على الاختيار لا مجرد التبعية والانخراط بلا وعي.


أما الإقرار فيأتي سلسًا مبذولاً ممّن انجلت عن بصيرته عوامل الحَجْب وشواغل النفس وهمزات الشيطان.


هكذا -أيها المربي-: «السؤال منك والإقرار منه».


يقول خوَّات -رضي الله عنه-: «ثم ارتحلنا فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال: «السلام عليك أبا عبد الله! ما فعل شراد ذلك الجمل؟!».


أراد أن يُذَكِّره.. لن تمر هذه الفعلة كأختها.. هناك ثُلم ينبغي أن نُصلحه وإلا اتسع.. نعم يُذكِّر كل مرَّة بحُب وتبصير.. يُعلِمه أنك في دائرة اهتمامي، وليس معنى أني رأيتك ولم أعنِّفك أن الأمر مرَّ.. لا؛ أنت شخص مهم عندي، ولا يمكن أن أتركك بشيء أعلم أنه يُهلكك واسكت!


يقول خوَّات -رضي الله عنه-: «فلما رأيتُ ذلك تعجلتُ إلى المدينة، واجتنبتُ المسجد والمجالسة إلى النبي ﷺ، فلما طال ذلك تحيَّنتُ ساعة خلوة المسجد، فأتيت المسجد فقمتُ أصلي».


هكذا.. بدأ التذكير المستمر يأتي ثماره، الإحساس بالذنب أول التوبة. 


تأمَّل الآن هذا المشهد الذي يحكيه كعب -رضي الله عنه-: «وتنكَّرَت لنا الحيطان التي نعرف حتى ما هي الحيطان، وتنكرَت لنا الأرض حتى ما هي الأرض التي نعرف، وكنتُ أقوى أصحابي، فكنتُ أخرج، فأطوف بالأسواق، وآتِي المسجد»!


هل لاحظت التشابه بين الحالين؟!


أليس يشبه ما يذكره خوَّات هنا: « فلما طال ذلك تحيّنتُ ساعة خلوة المسجد، فأتيت المسجد فقمتُ أصلي»، هل انتبهت أن العامل الجوهري المشترك هنا هو: «المسجد»!


يقول خوات -رضي الله عنه-: «وخرج رسول الله ﷺ من بعض حُجَره فجأة، فصلى ركعتين خفيفتين، وطولتُ رجاء أن يذهب ويدعني».


لقد بلغ الحياء بخوَّات كل مبلغ حتى ما عاد يقوى أن يُقابل حبيبه ﷺ، ولكن المربي القائد الذي علم الخير في أصوله وأعماله، وقد حان وقت أن يُطَبِّب الجرح ويزيل الألم، قال ﷺ: «طوِّل -أبا عبد الله- ما شئتَ أن تطوِّل، فلستُ قائمًا حتى تنصرف»!


وهو مزاح لطيف ممزوج بحبٍّ وحَسْم وعاطفة أخوة جياشة، وكأنه يقول له: لن أدعك هذه المرة حتى يلتئم الجرح!


ويقول خوَّات -رضي الله عنه-: «فقلتُ في نفسي: والله لأعتذرن إلى رسول الله ﷺ ولأبرئن صدرَه. فلما قال ﷺ: «السلام عليك أبا عبد الله! ما فعل شراد ذلك الجمل؟!».


فقلتُ: والذي بعثك بالحق! ما شردَ ذلك الجمل منذ أَسلَم! فقال ﷺ: «رحمك الله.. رحمك الله.. رحمك الله!». ثلاثًا. ثم لم يعد النبي ﷺ لشيء مما كان.


هكذا كان النبي ﷺ يراعى تنوع الأفراد، وهكذا كان يعامل كل إنسان بما يصلحه، لا قوالب ثابتة، لا ضغوط نفسية ليكون مثل فلان أو فلان، لا قلق من تصنيفات، لا تدمير للطاقات والقدرات تحت ضغط التنميط، لا جمود على هيئة واحدة، ولا إهدار لتطورات الأعمار والقدرات، هذا هو منهج التربية الإسلامية.


وصلي اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة