من الآفات التي نالت نصيبًا وافرًا من التحذيرات النبوية: آفة الغلو، وهذه الآفة مبعثها تجاوز الحد الشرعي في الحرص على الطاعة والعبادة والإفراط في ذلك، ولذلك عاب الله على أهل الكتاب من قبلنا هذه الآفة
من
الآفات التي نالت نصيبًا وافرًا من التحذيرات النبوية: آفة الغلو، وهذه الآفة
مبعثها تجاوز الحد الشرعي في الحرص على الطاعة والعبادة والإفراط في ذلك، ولذلك
عاب الله على أهل الكتاب من قبلنا هذه الآفة؛ فقال -جل في علاه-: (قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا
أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن
سَوَاءِ السَّبِيلِ) [النساء: 171]. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (أي: لا
تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تطروا من أُمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه، حتى
تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية، كما صنعتم في المسيح وهو نبي من الأنبياء،
فجعلتموه إلهًا من دون الله، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخ الضلال، الذين هم سلفكم
ممن ضل قديمًا).
فالذي أوقع أهل الكتاب في الكفر والضلال هو الغلو، وهذا الغلو دافعه تجاوز الحد، من التعظيم إلى الإطراء المبالغ فيه، حتى نقلوا الأنبياء من مقام النبوة إلى مقام الألوهية.
هذه الآفة مبعثها تجاوز الحد الشرعي في الحرص على الطاعة والعبادة والإفراط في ذلك،
والمتأمل
في حال هذه الأمة، سيجد أنّ هذا الغلو المنهي عنه قد تغلل في أوصال كثير من الفِرق
والتجمعات، ولك أن تتأمل في حال الرافضة على سبيل المثال، فدعوى حبّهم لآل البيت
جعلتهم ينزلونهم منزلة الربوبية والألوهية عياذًا بالله، وكذلك فعل أتباع الطرق
الصوفية مع مشايخهم وعلمائهم، وكذلك صنع الخوارج قديمًا وحديثًا حينما غلّبوا جانب
الوعيد والخوف فكفروا الأمة واستحلوا دماءها... وغير ذلك من الأمثلة، وهذا مصداقًا
لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: (لتتبعن سنن من قبلكم؛ شبرًا بشبر،
وذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه)، فقلنا: يا رسول الله: اليهود
والنصارى؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فمن!!). [متفق عليه]. وقوله -عليه
الصلاة والسلام-: (فمن!) أي فمن غير اليهود والنصارى.
وقد
وقعت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض الحوادث التي كان مبعثها حرص الصحابة
على الخير والطاعة، ولكن لكون هذا الحرص تجاوزًا لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-،
فقد أنكره -عليه الصلاة والسلام- وردّه على أصحابه، فكانت له توجيهات صارمة وطريقة
واضحة في معالجة هذه الحالات.
ثبت
في صحيح البخاري أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- آخى بين سلمان وأبي الدرداء، فزار
سلمانُ أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذِّلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو
الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع طعامًا، فقال له: كل، قال:
فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء
يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان آخر الليل، قال سلمان: قم
الآن. فصَلّيَا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك
حقًا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له، فقال له
النبي -صلى الله عليه وسلم-: (صدق سلمان).
فأبو
الدرداء -رضي الله عنه- كان حريصًا على الطاعة، لكنّ حرصه هذا جعله يتجاوز الحدّ
في ضياع حق زوجته -رضي الله عنها-، فجاء سلمان -رضي الله عنه- فصحح له هذا السلوك،
وبين له أنّ الاقتصاد في الصوم والصلاة والقيام على السّنة يحفظ الحقوق، للزوجة
والأبناء والعمل والوظيفة والضيف، ولنفسه قبل ذلك، وإقرار النبي -صلى الله عليه
وسلم- لتصرف سلمان دلّ على أنه هدي نبوي مرْضي.
وثبت
في صحيح البخاري أيضًا عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: جاء ثلاثة رهط إلى
بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-،
فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- قد
غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر!! قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا،
وقال آخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا.
فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما
والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء،
فمن رغب عن سنتي فليس مني).
يقول
الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري: قوله: (فمن رغب عن سنتي فليس مني): المراد من
ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية؛ فإنهم الذين
ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى، وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه.
والمواقف
والأحداث التي وقعت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذا المعنى كثيرة جدًا،
فأمر النبي -عليه السلام- مرةً صحابيًا حينما نذر أن لا يتكلم ولا يستظل ولا يقعد
بأن يتكلم، ويستظل، ويقعد، ويتم صومه. [رواه البخاري]. وأخرى نذرت أن تمشي إلى بيت
الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لتمش ولتركب). [متفق عليه]. وأمر زينب
-رضي الله عنها- أن تحل حبلاً ممدودًا بين ساريتين كانت -رضي الله عنها- تتعلق به
إذا أعياها قيام الليل، وأمرها أن تنام، وتصلي ما تطيق فقط. [متفق عليه].
وقال
ابن عباس: أتيت لرسول الله بحصيات -هن حصى الخذف-، فلما وضعتهن في يده، قال: (بأمثال
هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من قبلكم الغلو في الدين). [صححه
الألباني في صحيح سنن النسائي]. ونهى معاذًا -رضي الله عنه- أن يطيل بالناس في
الصلاة حينما يكون إمامًا وأمره بالتخفيف؛ خشية التنفير. [متفق عليه]... وغير ذلك
من الأحاديث كثير.
وذكر
الإمام ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان: (وقال أنس -رضي الله عنه-: قال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم؛ فإن قومًا شددوا
على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: رهبانية ابتدعوها
ما كتبناها عليهم). [رواه أبو داود وضعفه الألباني]. فنهى النبي -صلى الله عليه
وسلم- عن التشديد في الدين، وذلك بالزيادة على المشروع، وأخبر أن تشديد العبد على نفسه
هو السبب لتشديد الله عليه إما بالقدر وإما بالشرع، فالتشديد بالشرع: كما يشدد على
نفسه بالنذر الثقيل فيلزمه الوفاء به، وبالقدر كفعل أهل الوسواس؛ فإنهم شددوا على
أنفسهم فشدد عليهم القدر حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة لهم).
هذا، ونسأل
الله أن يهدينا إلى سواء الصراط، وأن يجنبنا الغلو في الدين.
إضافة تعليق