تنوعت صور متابعته صلى الله عليه وسلم لأصحابه وشملت كل المجالات الهامة المؤثرة في حياة الفرد والجماعة، ابتداءً من أمورهم الدينية، فضلا عن الرعاية النفسية والاجتماعية، حتى الأمور المالية والمشاكل الخاصة كانت تجد المتابعة المناسبة منه صلى الله عليه وسلم
المتأمل في السيرة النبوية يلاحظ
أنه صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالجانب النظري في تعليم أصحابه وتزكيتهم، بل كان
يربيهم تربية تعتمد المعايشة والمشاركة وتوظيف الأحداث وتقديم القدوة، ذلك لأن التربية
الراشدة ليست عملية نظرية يتم فيها تلقين المتربين وتعليمهم القيم بعيداً عن
المعايشة والتطبيق، بل هي في أساسها وظيفة عملية، تحتاج إلى جهد كبير، وتمر بمراحل
متعددة، ويقوم المربي فيها بمجموعة من المهام المتنوعة.
كما يمكننا أن نلاحظ أيضا أنه من
أجل الحصول على الثمار المرجوة من هذه التربية؛ كان-عليه الصلاة والسلام-يقوم بدور
مهم، ووظيفة غاية في الخطورة لا تكتمل عملية التربية دُونَها، متمثلة في عملية
المتابعة الدائمة، والرعاية المستمرة لأصحابه، للتأكد من سلامة المنهج وحسن
التطبيق.
تنوعت صور متابعته صلى الله عليه وسلم لأصحابه وشملت كل المجالات الهامة المؤثرة في حياة الفرد والجماعة، ابتداءً من أمورهم الدينية، فضلا عن الرعاية النفسية والاجتماعية، حتى الأمور المالية والمشاكل الخاصة كانت تجد المتابعة المناسبة منه صلى الله عليه وسلم.
تعريف المتابعة التربوية ومفهومها
المتابعة التربوية : تعني تلك
الجهود المتواصلة والرعاية المستمرة الشاملة التي يَبذُلها المربي من أجل التأكد
من جَوْدة البناء الإنساني بكل جوانبه، خاصة القلبية والنفسية والعقلية والسلوكية،
والتزام المتربين بالمنهج التربوي بكل جوانبه وحُسن تطبيقه، وتهيئة بيئة المتربين
تهيئةً مناسبةً للنمو المطرد، بمنع أي أسباب قد تُؤدي للحَيْد عن المنهج، ومعالجة
أي خطأ أو قصور يؤدي للانحراف عنه.
فالمتابعة التربويةُ في أساسها تهدف إلى ثلاثة أمور أساسية: هدف "بنائي" يهتم بضمان حسن سير عملية البناء الإنساني بناء متميزا شاملا. وهدف "وقائي" يهتم بوضع الحواجز لمنع أي خلل أو قصور يَحْدُثُ فى أثناء عملية البناء. وهدف "علاجي" يهتم بإصلاح ما يَتسلل العَطب إليه في الكيانِ الإنساني.
ضرورة
المتابعة وأهميتها
"التربية عملية مستمرة، لا
يكفي فيها توجيه عابر من المربي .. إنما يحتاج إلى المتابعة والتوجيه المستمر..
كما أن المتلقي نفسٌ بشرية وليس آلة تَضغط على
أزرارها مرة، ثم تَتركها وتنصرف إلى غيرها، فتظل على ما تركتَها عليه، بل هي نفس
بشرية دائمةُ التقلب،..فالعجينة البشرية عجينة عصية تحتاج إلى متابعة دائمًا"([1]).
وتزداد أهمية قضية المتابعة في العمل
التربوي في واقعنا المعاصر لأسباب عدة يمكن إجمالها في الآتي:
-كثرة المهام الملقاة على عاتق المربين،
مع عدم تفرغ الكثيرين منهم، مما يصعب مهمتهم في قضية المتابعة.
-ازدياد المشاكل وكثرة المؤثرات التي
تلعب دوراً سلبيا في عملية التربية مما يعقد دور المربي، ويتطلب جهداً أكبر لرصد تلك
المؤثرات والتعامل معها.
-صعوبة توفير بيئة "آمنة"
كمحضن تربوي مناسب يوفر الحد المقبول من التربية والمتابعة الجيدة.
-قلة عدد المربين المؤهلين، مما يضطر البعض منهم للقيام بمتابعة أعداد تزيد عن طاقتهم.
صور من المتابعة
النبوية للصحابة وقت الشدائد والأزمات
شواهِدُ اهتمامه ورعايته-صلى الله
عليه وسلم-بمتابعة أصحابه أكثرُ مِن أن تُحصَى، إلا أن متابعته صلى الله عليه وسلم
لأصحابه وقت الشدائد والأزمات كانت تختلف، لما لهذه الأوقات من خصوصية، وما يلم
بالمرء أثنائها من مشاعر ضعف وألم، تحتاج معها النفوس مزيد متابعة واهتمام.
لذا كان نبينا الكريم-صلى الله
عليه وسلم- مع كثرة مشاغله يرعى أصحابه، ويتفقد أحوالهم، ويَعُودُ مريضهم، ويتبع
جنائزهم، ويتحمّل الدَّيْنَ عنهمُ، ويسارع -صلى الله عليه وسلم- إلى إزالة ما قد
يعترض أصحابه من مشكلات.
ومن نماذج متابعاته -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه وقت شدتهم:
رعايته لآل ياسر وهم يعذبون
"قال ابن إسحاق:وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر، وبأبيه وأمه، وكانوا أهل بيت إسلام، إذا حميت الظهيرة،
يعذّبونهم بِرَمْضَاء مكة، فيمر بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فيقول -فيما
بلغني-: "صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، مَوْعِدُكُمُ الْجَنَّةُ". فأما أمه
فقتلوها وهي تأبَى إلا الإسلام"([2]).
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم
ثِقل الحمل وعظيم المشقة التي يلقاها ياسر وآله وغيرُهم من الصحابة، الذين كانوا يُعذَّبون
في الله؛ بسبب إسلامهم،"فكان الرسول -صلى الله عليه وسلم-يخرج كلَّ يوم إلى أُسرة
ياسر محييا صمودهم وبطولتها، وكان قلبه الكبير يذوب؛ رحمةً وحنانا لمشهدهم وهم
يتلقّون من العذاب ما لا طاقةَ لهم به" ([3]).
هذه المتابعة الدائبة لأصحاب
القلوب المعذبة بالبشرى تارة، والدعاء تارة؛ تشعر المبتلين أن هناك من يشاركهم
آلامهم ويشعر بمعاناتهم، ويهتم لأمرهم، مما يكون له أكبر الأثر في اجتيازهم هذه
الفتن بثبات، وتعاليهم بعظيم ثقتهم بالله على كل محاولات الترهيب والتعذيب.
مواساته صلى الله عليه وسلم لمن
فقد ولده:
أخرج النسائي من طريق معاوية
بن قرة عن أبيه ؛ قال: "كَانَ
نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ
نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ
ظَهْرِهِ، فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَلَكَ، فَامْتَنَعَ الرَّجُلُ أَنْ يَحْضُرَ
الْحَلْقَةَ لِذِكْرِ ابْنِهِ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: مَا لِي لَا أَرَى فُلَانًا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
بُنَيُّهُ الَّذِي رَأَيْتَهُ هَلَكَ، فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَسَأَلَهُ عَنْ بُنَيِّهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَلَكَ فَعَزَّاهُ عَلَيْهِ،
ثُمَّ قَالَ: يَا فُلَانُ، أَيُّمَا كَانَ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمُرَكَ
أَوْ لَا تَأْتِي غَدًا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ قَدْ
سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَلْ يَسْبِقُنِي
إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُهَا لِي لَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ، قَالَ: فَذَاكَ
لَكَ"([4]).
مواساته
لجابر رضي الله عنه بعد استشهاد والده
"عَنْ طَلْحَةَ بْنَ خِرَاشٍ قَالَ:
سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: لَقِيَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فَقَالَ لِى: يَا جَابِرُ، مَا لِى أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِى، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ عِيَالاً
وَدَيْنًا. قَالَ: أَفَلاَ أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِىَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟. قَالَ:
قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ
مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِى،
تَمَنَّ عَلَىَّ أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِى فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيةً.
قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّى أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لاَ
يُرْجَعُونَ. قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: " "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"
إن النفوس البشرية تكون في أضعف
حالاتها عند المصائب، خاصة إذا كان المصاب في الولد أو الوالد، وهنا تأتي مشاعر
الرحمة على المبتلى ومواساته كماء زُلال يطفئ من نار الألم داخل النفوس، ويهدئ من
روعها.
عندما شاهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم ما ألمّ بجابر بن عبدالله من حزن جراء فقْده لأبيه، فضلا عما وُضِعَ على
كاهله من عبء رعاية إخوانه الصغار، وقضاء دَيْن أبيه وهو بعدُ لا يزال شابا، مما ضَاعف
هَمه، وزاد ألمه، أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يواسيه بحسْب هذا القَدْر
الكبير من الحزن والهم، فساق إليه بشرى فاقت بكثير كل ما خالطه من ألم.
فيا لها من بشرى عظيمة يتشرف بها كل مسلم أن يخص
أباه بنَيْل شرف كلام الله رب العالمين كفاحا دون غيره من البشر، وما يحمل هذا من
دلالة بالغة على عظيم منزلته، فعندها تجد القلوب من حلاوة الفرح بالثواب والبشرى
بالمكانة، ما يذهب بألم الفراق وهم المسئولية.
وتخبرنا السيرة النبوية أن الرسول
صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالدعم النفسي لجابر بل تابع مشكلته وسعى في تسديد دين
أبيه كإجراء عملي يلفت به نظر المربين إلى أن دورهم لا ينبغي أن يقف عند حد كلمات
المواساة، ولا يصح أن يقف عن حد أمورهم الدينية-على أهميتها-بل لابد أن يتجاوز ذلك
ليشمل الدعم المادي طالما كانت الأسباب متاحة.
وبالتأكيد لم ينس جابر بن عبدالله
رضي الله عنه هذه الحادثة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لما تركته في نفسه من
عظيم أثر، فظل جابر رضي الله عنه يحدث بحديثه هذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
عرفاناً بجميله واعترافا بفضله.
دروس
مستفادة من المنهج النبوي في المتابعة وقت والأزمات
1-الرسول صلى الله عليه وسلم كان
يُولِي اهتماماً أكبر ومتابعةً أشدَّ لِمَن يواجه أزمة، وهكذا يجب أن يكون المربي يقظاً
مع المتربين يمايز بين طريقة متابعته لهم وقت أزماتهم عنها في بقية الأوقات.
2-بدون الجانبِ العمليِّ الذي يشارك فيه المربي المتربي
همومَه ويتابع مشاكلَه،..تَفْقِدُ التربيةُ روحَها، وتقِل قيمةُ الدروس النظرية
التي تعلّمها المتربي على يد مربيه،"([5]).
3-يجب أن تكون المتابعة التربويةُ
وسيلةً لتحقيق أهداف التربية الإسلامية، وتحريراً للنفوس من الضعف؛ وعلاجا من كل
صور العجز وأسبابِ الهمومِ.
4-المتابعة للمتربين وقت أزماتهم
لا يصح أن تقف عند أمورهم الدينية بل يجب أن تتعدى ذلك للدعم والإعانة في أمور
دنياهم، فمشاكل الدنيا تؤثر ولا شك على نفس صاحبها وسلامة دينه.
5- "موقف المربي إيجابا وسلباً من المتربين
في أزماتهم من المواقف التي لا تُنسى وتترك أعمقَ الأثر في نفوس المتربين"([6]).
خاتمة
ينبغي
على كل مَن يعمل بحقل التربية أن يهتم اهتماما بالغا بالمتابعة التربوية؛ لأن
الغفلة عنها تؤدي إلى ضياع كثير من الجهود المبذولة.
ومن
المهم يقظة المربي الدائمة إلى أحوال المتربين، وملاحظة أي تغير قد يطرأ على
أحوالهم وأدائهم، والحرص على ازدياد حضوره ومتابعته لهم وقت أزماتهم، لمزيد الحاجة
إلى العناية والمساعدة في تلك الأوقات، والمسارعة إلى حل المشكلات وتداركها قبل أن
تتضخم، وتصعب السيطرة على نتائجها.
([2]) ابن
هشام، أبو محمد عبد الملك، السيرة النبوية، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، ط،
3، (بيروت: دار الجيل، 1418هـ- 1998م)، 2/162.
([3]) خالد، محمد خالد، رجال حول
الرسول صلى الله عليه وسلم، ط3، (دار ثابت، جمادى الثانى1407هـ فبراير1987م)
1/ 225.
إضافة تعليق