المتأمل في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته، يقف مشدوهًا أمام العظمة المحمدية، التي أكرمه الله تعالى بها؛ إذ تتعدد جوانب الفائدة والقدوةحتى تكاد تنفلت من إطار الحصر، فالسياسي يجد في هديه -عليه السلام- بغيته، ومن طلب الاقتصاد حوَّل وجهه شطر سنته
إن
المتأمل في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته، يقف مشدوهًا أمام العظمة
المحمدية، التي أكرمه الله تعالى بها؛ إذ تتعدد جوانب الفائدة والقدوة حتى تكاد
تنفلت من إطار الحصر، فالسياسي يجد في هديه -عليه السلام- بغيته، ومن طلب الاقتصاد
حوَّل وجهه شطر سنته، والباحث الاجتماعي يجد في حياته -عليه السلام- مرامه وأسس
علمه، والفقهاء مازالوا يدورون في فلك توجيهه وإرشاده... وهكذا؛ فسيرته لوحة
فسيفسائية زاهية الألوان بديعة الأثر، تجذب العين بجمالها، وتنعش الروح بأشواقها.
وليس
عجبًا إذًا أن يكون للمربين والعاملين في المجال التربوي نصيب من هذا البحر الزاخر
بالعطاء والخيرات؛ ولذا كُتبت الأبحاث والدراسات التربوية متناولة زوايا مختلفة من
وحي المربي الأعظم -صلوات ربي وسلامه عليه-.
وفي
مقالتنا هذه نتناول البعد النفسي في تربيته -عليه السلام- لأصحابه الكرام، مكتفين
بالإضاءات والمقتطفات؛ حيث المقام مقام اختصار لا استيعاب، وتوجيه لا تفصيل.
بين
التربية والتزكية:
يختلف
أهل العلم في تحديد الفروق بين التربية والتزكية، سواء من حيث الفاعل والمفعول به،
أم من حيث السن الذي تقف عنده أو الفئة المستهدفة من هاتين العمليتين، إلا أن
الاتفاق حاصل على أن التزكية هي المقام الأعلى والأرقى، وهي عملية تشاركية بين
الفاعل والمفعول به، وأن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم بدور التزكية؛ فقد
قال ربنا -سبحانه وتعالى-: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ
رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)
[البقرة: 150].
ولذا
فإن بناء النفوس وتجهيزها لمهمة الإعمار والاستخلاف والعبودية الحقة، وتخريج أمة
منتجة عاملة مرضية عند ربها سبحانه؛ كانت مهمته العظمى -عليه الصلاة والسلام-.
وقد
تمتع -صلى الله عليه وسلم- بصفات عظيمة وكثيرة جعلت منه مزكيًا عظيمًا ومربيًا
عملاقًا، تقف كل مدارس التربية عند قدميه متعلمة، ومن ذلك:
1. إدراكه -عليه السلام- لبيئة المتربي وأثرها عليه،
وهذا جاء في تعامله -عليه السلام- مع الأعراب حين تعاملوا بالغلظة، ومع أهل مكة
حين واجهوه بالقسوة.
2. دقة الملاحظة والاهتمام بالحالة النفسية للصحابة،
ومن ذلك ما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: دخل الرسول -صلى
الله عليه وسلم- ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة،
فقال: يا أبا أمامة، ما لي أراك جالسًا في غير وقت الصلاة؟! قال: هموم لزمتني
وديون يا رسول الله، قال: أفلا أعلمك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله -عز وجل- همك،
وقضى عنك دينك؟! قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: (قل إذا أصبحت وإذا أمسيت:
اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن
والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال). قال: ففعلت، فأذهب الله -عز وجل-
همي، وقضى عني ديني. [سنن أبي داود: 1555].
إنها
نفسه الشفافة -عليه السلام-؛ لا يدع أحدًا من صاحبته يصارع الهم -وما أثقله- دون
أن تكون منه لمسة حانية على ذلك القلب المثقل المهموم.
3. معرفته بقدرات وطاقات المتربين: لم يكن -عليه
السلام- يدير دولته، وينشر دعوته، وهو في قصر مشيد بينه وبين الناس حجب وأبواب،
إنما كان بين أصحابه موجهًا، وفي جلساتهم مسامرًا ومؤنسًا، وفي غزواتهم قائدًا
وسندًا، وفي أعمالهم يده بيدهم بانيًا أو جامعًا للحطب، ولذا كان هذا الالتصاق بين
المزكي والمتزكين والمتربي والمتربين بوابته -عليه السلام- لمعرفة قدرات وطاقات
أصحابه، فكان يضع كل إنسان في مكانه المناسب، فالصديق صاحب ومستشار وخليل، وخالد
الشجاع هو سيف الله المسلول، وزيد بن ثابت صاحب الذكاء اللغوي الحاد هو مترجم
الرسول -عليه السلام- الخاص، وحسان بن ثابت لا يجيد القتال بالسيف لكن شعره أشد
على المشركين من وقع النبل، فكان شاعره -عليه السلام-.
محطات
نبوية في البناء النفسي:
1. تباشير الأمل رغم مناشير الباطل:
حرص
النبي -عليه السلام- أن يبني جيلًا لا يعرف الانكسار؛ إذ هو المعوَّل عليه في حمل
الرسالة، وتبليغ الدين في الآفاق؛ ولذا ما لبث في العهد المكي ينفك من تذكير
الصحابة بالنصر، وأن هذا الدين ظاهر لا محالة، فالمسلم عليه بالصبر والحلم والتربص
للحظة التمكين، ومن هذا حديث خباب بن الأرت -رضي الله عنه- الشهير، المروي في صحيح
البخاري؛ إذ قال -رضي الله عنه-: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو
متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنجد لنا، ألا تدعو لنا؟! قال -صلى
الله عليه وسلم-: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء
بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشطه بأمشاط
الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمنَّ الله هذا
الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه،
ولكنكم تستعجلون) [البخاري: 6943].
إنها
التباشير رغم المناشير، فاثبتوا فإن الدين منصور، بهذا وغيره كان يزكي -صلى الله
عليه وسلم- أصحابه في سبيل بناء نفسي محكم.
2. البرمجة الإيجابية:
تعالَ
وعش معي في هذا النص النبوي المفعم بمعاني التربية الإيجابية، الفياض بالود،
المرسوم بالتقدير، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياءً
عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال
والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وإن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة
أبو عبيدة بن الجراح) [السلسلة الصحيحة: 4/441].
أي
حياة عاشها الصحابة الكرام، حين سمعوا هذا الوصف من مربيهم، وهو يختار أجمل ما فيهم
ويعلنه على الملأ؟! مدح وتقدير، وإشارة من خبير إلى هؤلاء الأفذاذ أن تمسكوا
بجواهر الصفات التي عندكم فلا تفرطوا فيها، إنها برمجة نفسية إلى يوم القيامة،
مازالت الأمة تدرس رأفة الصديق، وحياء ذي النورين وشدة الفاروق... وكذا علينا -معاشر
المربين- أن نكتشف الجميل فننشره ونبرمج أبناءنا عليه، حتى تغدو صفات ملاصقة،
وخلالاً كريمة لا تنفك عنهم أبدًا .
3. الرفق بالجاهل حتى يتعلم:
بال
الأعرابي في المسجد، فوجد من الصحابة الكرام نفرة وشدة، ولك أن تتخيل الحرج الذي
هو فيه، والارتباك الذي أصابه، والفزع الذي ألم به، وبين كل هذه الخلجات النفسية،
يسمع صوتًا حانيًا، وقويًا هادئًا، يعلم جهالات الناس فيسدها بالعلم، ويزكي النفوس
الثائرة بالحلم، ويرشد المربين على أثر البيئة في الشخصية، غادر الأعرابي وفي نفسه
حبًا، وفي عقله علمًا، وفي ذوقه أثرًا، إنه أبو القاسم -عليه السلام-، حين يتعامل
مع النفوس فيزيل ما فيها من وهن، ويظهر ما فيها من عبق.
ختامًا..
السنة النبوية مليئة بمثل هذه الكنوز، ألفت فيها كتب ومراجع وأبحاث ومقالات، حري
بنا أن نستزيد منها في كل حين، فلن نجد نبعًا صافيًا كنبعه -عليه السلام-؛ يروي
الظمآن، ويزيل العطش، نبعًا يبني نفسًا سوية، شفافة، قوية، ومنتجة.
إضافة تعليق