كان ولا يزال السبق واضحًا جليًا في أسلوب المربي الأول نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وطريقته الفريدة في التعليم والتربية واكتشاف الموهوبين والمبدعين من أصحابه، وصولًا بالمتربين إلى نتائج تربوية هي أقرب للكمال الإنساني

كان ولا يزال السبق واضحًا جليًا في أسلوب المربي الأول نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وطريقته الفريدة في التعليم والتربية واكتشاف الموهوبين والمبدعين من أصحابه، وصولًا بالمتربين إلى نتائج تربوية هي أقرب للكمال الإنساني، فلم يؤسس فيهم قواعد الإيمان والأخلاق فقط، بل ربّاهم على التميز، وشجعهم على الابتكار والتجديد، واشتدت عنايته -صلى الله عليه وسلم- بالمبدعين من أصحابه.  

تقرير التفاوت بين الأفراد وبروز المتميزين في القرآن والسنة:

يؤكد لنا القرآن الكريم بوضوح نظرية الفروق الفردية بين البشر، وأنهم متفاوتون في القدرات والمواهب، قال تعالى: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) [النحل:71]، فيتفاضلون في خِلقتهم، وطبائعهم، وقدراتهم العقلية والبدنية، وتلك هي حكمة الله تعالى أن يخلق الخلق على هذا التفاوت والتمايز، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبيّ، ولكل أمة أمين؛ وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح). [أخرجه الترمذي برقم (3790)، وصححه الألباني].

ويعرف الإبداع بأنه: القدرة على الإتيان بجديد. بينما تعرّف التربية الإبداعية بأنها: تنشئة الناشئين وإعدادهم على نحو يتمكنون فيه من الإيجاد والابتكار والإتقان والتحسين في مجالات تخصصاتهم. [مقداد يالجن، جوانب التربية الإسلامية، ص 488].

وأول من يلاحظ ملكات التجديد وقدرات الإبداع في الطفل هو المربي، أبًا كان أو أمًّا أو معلمًا، وهو المعنيّ بتنمية هذه الملكات وتلك القدرات، وضبطها وتوجيهها بحيث تتناسب مع معايير القبول الدينية والاجتماعية.
ولقد كان لسلفنا الصالح -خاصة المعلمين- عناية خاصة في التقاط المبدعين رجاء انتفاع الأمة بهم وامتداد الأجر للمربي من وراء ذلك؛ قال ابن جماعة: (كان علماء السلف الناصحون لله ولدينه يُلقون شَبَكَ الاجتهادِ لصيدِ طالبٍ ينتفع الناس به في حياتهم ومن بعدهم، ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينتفع الناس بعلمه وعمله وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى؛ فإنه لا يتصل شيء من عمله إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر، كما جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتَفع به، أو ولد صالح يدعو له). [تذكرة السامع والمتكلم، ص81].

والمتأمل للأسلوب النبوي الفريد في التربية يجد أنه كان يوفر لهم البيئة الآمنة، والميدان الحُرّ الفسيح لبروز إبداعاتهم؛ حيث تتوفر عناصر الإبداع الرئيسة التي يقررها التربويون اليوم، مثل:

- الطلاقة: وهي القدرة على إنتاج أفكار وحلول بديلة بسهولة.

– المرونة: وهي القدرة على توليد وعرض الأفكار من زوايا متعددة وغير تقليدية.

– الأصالة: وهي تقديم أفكار وحلول فريدة في نوعها وعالية في مستواها. [نادية سرور: مقدمة في الإبداع، ص51].

فأنتج المبدعون من الصحابة -في رحاب تربيته صلى الله عليه وسلم- أفكارًا متطورة، ونفذوا مشاريع عظيمة امتد نفعها إلى يومنا هذا؛ وكان من أبرز هذه النماذج التي أكدت تربية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه على التجديد والإبداع:

سلمان الفارسيّ.. صاحب التكنيك الجديد في غزوة الأحزاب:

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يستدعي رأي الشباب، ويرحب باقتراحاتهم، طلبًا لحدة عقولهم وما يكون لديهم من حلول إبداعية للمشكلات، وفي غزوة الأحزاب، لما تجمع أصحاب الأحزاب لقتال المسلمين بالمدينة، جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه ليستشيرهم في كيفية الدفاع عن المدينة وصد الأعداء عنها، فأشار الصحابي سلمان الفارسي -رضي الله عنه- بحفر الخندق، حيث قال: يا رسول الله: إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فوافق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام على هذه الخطة الحكيمة التي لم تكن معروفة لدى العرب، فكانت -بحمد الله تعالى- من أسباب صد الأحزاب وفشلهم.

أسماء بنت عُمَيس.. هدمت عادةً سيئةً بفكرة إبداعية جديدة:

ما كان لأسماء بنت عُمَيْس -رضي الله عنها- أن تدخر قريحتها المتقدة، وذكاءها الإبداعي، بعدما ساءها ما اعتاده الناس من إخراج جنازة المرأة على لوحٍ مثل الرجل؛ فتتجسم بعض معالم جسدها، وقد علمت أن الأصل في دين الإسلام هو ستر المرأة وصيانتها، فقدمت هذا الحل المبدع بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأقرّه وأمر بتنفيذه على الفور، عن أسماء بنت عميس -رضي الله عنها- أن ابنة رسول الله -صلى الله عليهما وسلم- توفيت، وكانوا يحملون الرجال والنساء على الأسرّة سواء، فقلت: يا رسول الله، إني كنت بالحبشة وهم نصارى أهل الكتاب، وإنهم يجعلون للمرأة نعشًا فوقه أضلاع يكرهون أن يوصف شيء من خَلقها، أفلا أجعل لابنتك نعشًا مثله؟! فقال مؤيدًا لفكرتها المبدعة: «اجعليه». فهي أول من جُعِلَ لها النعش في الإسلام لرقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. [الطبراني في الأوسط (2/111)].

وكلا الموقفين يعدُّ أصلًا يضعه النبي -صلى الله عليه وسلم- للمربين في ضبط التربية على التجديد، كوْنها تجمع بين إمكانية الاقتباس والنقل عن غير المسلمين في أبواب المصالح والعادات التي تتفق مع شريعتنا، ولا تتعارض مع ثوابتنا أو تسْلِبُ هويتنا الإسلامية الأصيلة؛ فالفكرتان جمعتا بين الجِدَةِ والأصالة، فلقيتا قبولًا واستحسانًا وتنفيذًا فوريًا من النبي -صلى الله عليه وسلم-.

زيد بن ثابت.. نموذج فريد للناشئ المبدع:

لقد أحسن الأنصار إذ لاحظوا تفرّد الطفل اليتيم زيدَ بن ثابت -رضي الله عنه- وسبقه لأقرانه في ملكات الحفظ واللغة، فقدموه للنبي -صلى الله عليه وسلم- فوْر قدومه إلى المدينة، وهم بذلك ينقلون زيدًا إلى مستوى رفيع من العناية الخاصة الواجبة للمبدعين من أفراد المجتمع، حيث سترعاه يد النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرعاية والتوجيه المباشر. يقول زيد: أُتِيَ بي النبي مقدمَه المدينة، فقالوا: يارسول الله: هذا غلام معلَّم من بني النجار، وقد قرأ مما أنزل عليك سبع عشرة سورة. فقرأت على رسول الله؛ فأعجبه ذلك، وقال: (يا زيد: تعلّم لي كتاب يهود؛ فإني والله ما آمنهم على كتابي). قال: فتعلمته، فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته، وكنت أكتب لرسول الله إذا كتب إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له. [سير أعلام النبلاء (2/428)].

ثم طلب منه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتعلم السريانية، فتعلمها في سبعة عشر يومًا! ثم تتجلى القوة الإبداعية لشخصية زيد في تعلمه للغات، واستثماره الرائع للفرص المتاحة لذلك، (فقد تعلم اللغة الفارسية من رسول كسْرَى في ثمانية عشر يومًا، وتعلم الحبشية والرومية والقبطية من خُدّام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.) [البداية والنهاية (8/28)].

ولم تتوقف هنا قصة الذكاء اللفظي عند زيدٍ -رضي الله عنه-؛ فقد منحه الله تعالى نوعًا آخر من الذكاءات، وهو الذكاء المنطقي الرياضي، فكان من نتائج تعاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الناشئ متعدد الإبداعات أن برع في ثلاثة أمور لا ينافسه فيها أحد: حفظ القرآن وضبطه، وتعلّم اللغات، وإتقان علم الفرائض (المواريث).

وفي هذا النموذج يظهر لنا جليًا كيف سبقت مدرسة النبوة في التربية أحدث النظريات التربوية الحديثة في اكتشاف المبدعين ورعايتهم وتوجيههم بالشكل الذي يستثمر هذه الإبداعات لصالح الفرد والمجتمع؛ فإن الفرد المبدع كنز من كنوز الأمة، وعلى المربي أن يتعرف عليه ويفرح به، ومن ثمّ يضع أقدامه على المسار الصحيح، لينطلق في أمان ونجاح.

الإبداع الفني والتربية النبوية:

تعهّد النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه المبدعين تربية وتوجيهًا واستثمارًا لإبداعاتهم، على تنوع جوانب الإبداع لديهم وشمولها لكل جوانب التميز الإنساني، ومن أروع الأمثلة لذلك حفاوته بالصحابي حّسان بن ثابت الأنصاري، والملقّب بـ(شاعر الرسول)، فقد كان صاحب موهبة فنية متميزة في نظم الشعر،  وبعد إسلامه سخّر شعره لخدمة دينه، فأصبح يمثل وزارة إعلام كاملة، يمدح الإسلام ورسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم-، ويدافع عن الله ورسوله، ويهجو المشركين إذا لزم الأمر؛ عن البراء بن عازبٍ -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لحسان بن ثابت: (اهْجُهُم أو هَاجِهم، وجبريل معك) [متفق عليه]. وعن عائشة قالت: فسمعت رسول الله يقول لحسّان بن ثابت: (إن روح القُدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله). [مسلم: 2490].

وعن سعيد بن المسيّب قال: مرّ عمر -رضي الله عنه- في المسجد وحسّان ينشد -وكأنما أنكر عليه- فقال: كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك بالله، أسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (أجب عني، اللهم أيده بروح القدس)؟! قال: نعم. [متفق عليه].

وفي تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع إبداعات حسّان بن ثابت أكثر من ملمح تربوي خاص:

- أكثر هذه المواقف التي تجلّى فيها إبداع حسّان بن ثابت كانت تقع في رحاب المسجد (المحضن التربوي)، وبحضور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (المربي)؛ ما يعكس معنى وكيفية التعاهد التربوي للمبدعين.

- لم يطرح النبي -صلى الله عليه وسلم- جوانب الإبداع الفني، أو يرفضها أو يطالب أصحابها بكبتها، ولكن كان يربيهم على تنميتها والانطلاق بها وتوجيه صاحبها لينفع بها نفسه ويخدم بها دينه وأمته، مادامت هذه الإبداعات الفنية راقية ومنضبطة بضوابط الشرع الحكيم، بعيدة عن الانحراف والمخالفة له.

- ربط المبدع بالله -عز وجلّ-، وهذه من أعظم جوانب التربية الإيمانية اللازمة للمبدعين، فيعرف أن قدراته ومواهبه التي يتقدم بها على أقرانه إنما هي محض رزق وفضل وتوفيق من الله تعالى؛ فيقوم بحقها من الشكر وحسن التوظيف لها، ويتعلم أيضًا أن يطلب التأييد من الله عزّ وجلّ في مهاراته تلك، فيظل موصولًا بالله -عزّ وجلّ- مباركًا كهؤلاء الصحابة الكرام الذين سُعدوا بتربية النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم على التميز والإبداع.

وأخيرًا.. فإن نوعية الإنتاج الذي يقدمه المتربون في سبيل خدمة دينهم ومجتمعهم تدلُّ على مستوى العناية التربوية التي تلقّوْها، وثلة المبدعين في كل جيل هي بمثابة القوة الدافعة للأمام، ولذلك يتعين على المربين أن يعتنوا بهم، معرفةً ورعايةً وضبطًا وتوجيهًا، اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في تربيته لجيل الصحابة -رضي الله عنهم- على التطور المنضبط والتجديد والإبداع.

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة