تصاحب المحنُ الدعواتِ التي تحاول بعث الفعالية في المسلمين و"عودة الإسلام من جديد" وهي مؤشر واضح إلى أن الطريق الذي تسلكه تلك الدعوات هو طريق التغيير

تصاحب المحنُ الدعواتِ التي تحاول بعث الفعالية في المسلمين و"عودة الإسلام من جديد" وهي مؤشر واضح إلى أن الطريق الذي تسلكه تلك الدعوات هو طريق التغيير، لأن الدعوة إلى تغيير الموجود أمر يقابل بالمقاومة التي تزيد قوتها كلما زاد عمق التغيير المنشود. وأي عمل لا يقوم بالتغيير الاجتماعي البطئ، القائم على تغيير ما بالنفوس، فهو عمل في فراغ، وسقف لغرفة بدون جدران أو أرض وأساس.

 وفي هذه المقالة نحاول أن "نفقه" المحنة من خلال سنن الله في الكون والحياة؛ فندرك "القانون" الذي يحكم المحنة؛ ليكون تجاوبنا معها واعيًا، يتجاوز آلامها إلى ما تحمله من عبرة وما تمنحه لنا من تطور في حركتنا في هذه الحياة..

ومن ثم.. نمتلك القدرة على إرساء قواعد الحياة لمجتمع جديد، يعيش عصره ويشارك فيه، أو بالتعبير القرآني "يشهد" على الناس، ويقوم بدوره في تبليغ هذا الدين لكافة البشر بعد أن تجاوز "تحدي" المحنة، وهضم مرحلة "الشهادة"، وعرف ماذا يدب في العالم؛ فكان ممن زكاهم الله بقوله: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}  [البقرة:143]

— حتمية المحنة!:

قرر القرآن أن المحنة سنة ثابتة، والـ "سنة" حسب التعبير القرآني لها سمتان تكرارها الدائم، وثباتها بعد تكرارها، وهو ما عبر عنه القرآن بـقوله تعالى {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 142]، ولذلك أشار القرآن أن المحنة تتكرر مع جميع الرسل في قوله عز وجل: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِين } [الأنعام:34].

وخبر الرسل هذا ذُكر حتى يطمئن قلب محمد ﷺ  إلى أن هذا الطريق الذي يسلكه ليس شيئاً جديداً، بل هو الطريق الذي سلكه كل رسول في موكب الرسل الكرام. {كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى للمؤمنين} [هود:120]

وهكذا.. أكد القرآن "سنة الابتلاء"، كما أخبرت أحاديث رسول الله ﷺ عن فتنة الذين من قبل: "كان الرجل فيمن كان قبلكم يؤخذ فيحفر له في الأرض؛ فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق اثنين ما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، ما يصده ذلك عن دينه." [رواه البخاري].

نعم يا صديقي..

لن يتركك شيطانك ولا أولياؤه من الإنس، كذلك لن تتركك نفسك وأهواؤها لتسير في مسيرة الصلاح والحياة الكريمة(1)؛ فالله سبحانه وتعالى يبتلي عباده المؤمنين، وأشد الناس ابتلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل كما جاء في الحديث: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة". [رواه البخاري في صحيحه والترمذي وابن ماجه]

لا بد من بلاء، ولا بد من امتحان، لأن النصر الرخيص لا يبقى، ولأن النصر السهل لا يعيش، فالدعوة الهينة يتبناها كل ضعيف، أما الدعوة القوية الشديدة فلا يتبناها إلا الأقوياء، ولا يقدر عليها إلا الأشداء {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّـهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ}  [البقرة: 214]

ألا إن نصر الله قريب؟ ولكن ممن؟ ممن احتملوا البأساء والضراء، وجاهدوا وبذلوا و لم يُبقوا في طاقتهم قوة..

عندما يبذل الإنسان أقصى ما في طوقه، عندما يصل إلى نهاية الشوط، عندما يلقي بهمه كله إلى الله، بعد أن لم يبقَ في طوقه ذرة؛ عندئذٍ يتحقق وعد الله {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ}.

إن المحن في طريق أصحاب الدعوات حتمية الحدوث، وكل مآلاتها خير  للمؤمنين، وصدق النبي الأكرم حين قال: "عجباً لأمر المسلم إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".

ولذلك ينظر صاحب الرسالة إلى المحنة فيرى فيها عطايا ربانية داعمة له على المسير، مثبتة لعقله وقلبه على الاستمرار، معينة لروحه على السمو والرقي في محراب ربها.

نعم قد يعتريه الضعف البشري، لكنه يخرج من محنته ـ بفضل من الله ـ أقوى وأشد عودًا وثباتًا وإصرارًا على المسير في الطريق مع تقدير دقيق لطاقاته، فالله لا يكلف نفسًا إلا ما آتاها، لكن في الوقت نفسه لا يتعجل صاحب المحنة الجزع أو يتسرب اليأس إلى قلبه.

يا صديقي ..

قد تحملك المحن إلى أماكن من نفسك لم تزرها قط؛  فتكتشف ذاتك التي لم تتعرف عليها من قبل، وتتذوق مُر الحياة قبل حلوها؛ لتدرك أن "الحياة تيار من الألم لا ينتهي أبدًا، والنضج هو الغوص في ذلك التيار واستكشاف الطريق في أعماقه، لا أن تتجنب هذا التيار.. أن تعيش الحياة وألمها وأن تتقبل المعاناة لكن تحاول أن تعاني لأجل ما يستحق فحسب".(2)

وأنا أعلم أن لديك "القدرة" على مواجهة الحياة، ولن تنقصك "الإرادة" حين تدرك أي وجهة تقصد، وحول أي مركز ترسم دائرة حياتك؟

سوف تطور من نفسك لأنها وسيلتك إلى تحقيق مراد الله منك بعد أن طلبت العمل عنده، وقبل بفضل منه ورحمة؛ فأذن لك بالعمل؛ فتغيرت حياتك وأصبحَت تلقائيًا حياة كبيرة..

ومهما كان العمل الذي تقوم به صغيراً، ستظل أنت كبيراً، فالأمر ليس متعلقًا بك، وإنما بـ "لِمَنْ؟  تعمل، فطالما تعمل عند الله –الأكبر- فستبقى أنت كبيراً ..

— لماذا المحنة؟

لم يخلقنا الله لكي نحيا حياة طيبة، وفي أثناء هذه الحياة الطيبة نعبده سبحانه وتعالى، بل خلقنا لنعبده، ونحيا وفق مراده منا، وفي أثناء ذلك نحاول القيام بتغيير واقع الحياة إلى الأفضل لنحيا حياة طيبة!

من هنا كانت المحنة شرطًا لا فرار منه لأن أي حركة تريد التغيير سوف تتعرض لمواجهات وسوف تقع في أخطاء لا بد لها أن تراجعها وتعمل على تصويبها، لتصبح أفكار التغيير أكثر تحديدًا ووضوحًا، فنحن ـ مثلًا ـ نتحدث عن المنافقين كثيرًا، ولكن معاناة هذا في الواقع العملي هو الذي يعرفنا بوضوح على الوجوه المنافقة وعلى الأخرى الكافرة، وكذلك على المؤمنة، بل وعلى طبقات إيمانها من خلال "هضم" الأفكار النظرية وتحويلها إلى ممارسات عملية صائبة.

وأزيدك الفكرة وضوحاً..

هناك علاقة عضوية بين الفكرة والممارسة، فالطبيب لا يصبح طبيباً لمجرد قراءة كتب السنوات الدراسية بل عندما يربط بين الممارسة وما قرأ، ويبقى مستمراً في ربط القراءة بالممارسة.

وكذلك المهندس، وهكذا كل مهني لا بد له من علاقة حيّة بين الأفكار وممارستها.

وهذا يعني أن هناك علاقة عضوية بين الفكرة والممارسة، فالقراءة تمدنا بالفكرة التي تدفعنا إلى تصحيح الممارسة، والممارسة تخلق الدافعية نحو القراءة، أي أن الأفكار تنمي وتدفع الممارسة، والممارسة بدورها تخصب الأفكار وتعدلها وتعطيها معناها.

فحركة التطور إلى الأفضل تبدأ إذن بالفكرة وتتخصب بالحركة والممارسة، لذا كانت "المحنة" أمراً لا بد منه لأنها تعبير عن الممارسة التي تترك بصماتها ظاهرة على الجميع؛ فتكتشف الحركة نفسها، وتعرف نوعية عناصرها، {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:2]، ويكتشف أفراد الحركة ساحة التغيير، وأين يضعون أقدامهم، بينما يغرسون أفكارهم في القلوب فلا تنسى، لأن كل كلمة تصبح ذكرى ومعنى، وليست مجرد كلمة، لأن الكلمة تنسى، أما الذكرى الحية فتبقى خالدة لا تموت.

كما أن "المحنة" تنبئنا عن طول نفس الأفراد في الممارسة العملية لأفكار التغيير؛ فيظهر الصادق، و يفتضح المنافق، ويتميز الخبيث من الطيب: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ }[آل عمران : 179]؛ فتلتحم العناصر الصادقة مع بعضها في كتلة عضوية هي "مجتمع الصادقين" الذي ينفع الناس ويمكث في الأرض كما جاء في المثل الناري في سورة الرعد: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد:17]. ففي "نار المحنة" يذهب الخبث، ويبقى الطيب لينصهر مع غيره ويخرج معدناً مصقولاً جميلاً متماسكاً إلى أبعد الحدود.

يا صديقي ..

إن المحنة يمكن أن تكون فرصتك الأفضل لـ

أن تزيد مخزونك من التعلُّم..

وأن تزيد محتواك من الحكمة..

وأن تزيد مددك من الله..

وهكذا يمكنك تحويل "المحنة" إلى "منحة" ربانية من خلال الصبر والفهم وحسن البصيرة، والإلمام بمنهجية النبي الأكرم القدوة، فقد تعرض للاغتيال والمطاردة من وطنه لكنه سعى في إحداث تمكين للدين بكل السبل، وهذا ما نتمنى أن تدركه القلة الواعية التي لا تشوِّش على وعيها صعوبةُ ظروف الحياة، والاحتياج المستمر ماديًا ومعنويًّا، وتمتلك القدرة على ..

— تَحَدِي المحنة:

تمثل " المحنة" لونًا من ألوان التحدي لكل حركة تغيير اجتماعي، فإذا استطاعت الحركة تجاوز المحنة من خلال رفع جهدها فوق طاقة أعدائها؛ فقد تدربت إلى الحد الذي تستطيع معه بوعي إقامة نظام حياة جديد ..ن أن أن أن

وإذن، فقد كان دور المحنة هنا هو إيقاظ أفراد الحركة واستنفار قواهم لمواجهة "التحدي"؛ فأخرج كل فرد منهم ما لديه من قدرات عاملة واحتياطية ، وتحولت المحنة إلى حافز تنمية وتخصيب للعمل وخطوة إلى الأمام..

ولمزيد من التوضيح لهذه الفكرة أقول:

إن ولادة الإنسان تتم في ظروف "محنة" ـ إن صح التعبيرـ يعبر عنها بالمخاض من خلال تقلصات الرحم وارتخائه التي تسبب آلام المخاض ..

وما بين الارتخاء والتقلص المنتظم تحدث الولادة، فمع أنه مع كل تقلص رحم نوبة ألم، إلا أنه يصاحبها تقدم بخطوة جديدة إلى الولادة ، ولولا تقلص الرحم هذا وما يرافقه من ألم، ما تمت الولادة وما خرج الجنين إلى الحياة.

فإذا افترضنا أن الرحم لم يتقلص؛ فإن النتيجة الحتمية هي تعسر الولادة، كما أن انقباض الرحم دون فواصل ارتخاء وراحة على الإطلاق؛ فإن هذا يعني موت الجنين لانحباس مرور الدم إليه عبر المشيمة.

فإذا حاولنا تطبيق هذا القانون على حركات التغيير قلنا:

إن كل حركة تستهدف تغير الواقع دون أن تعيش صراعاً أو تعاني آلام المخاض؛ لن تخرج إلى الحياة كياناً اجتماعياً، لأن ميلاد هذا الكيان لا بد له من تضحيات على الطريق..(3) فليس قتل أصحاب الدعوات هو إجهاض لحركتهم بقدر ما هو بعث لفكرتهم وجذب لأنصارها الحقيقيين، بل إن شرط انتشار الدعوة أن تفقد بين الحين والآخر بعضًا من عناصرها، وإلا ما سرت في المجتمع وغيرت تياره وأصبحت موضع إعجاب، و كما يحرك "النزيف" مصانع الدم في الإنسان لتصنيع الدم من جديد، فإن الشهداء يحركون ضمير طلائع الأمة المخلصة؛ فتنصهر في أتون نيران الشدة، ويذوب الغث ليظهر الأصيل من المعدن.

هل يعني هذا أن يطلب الإنسان المحنة؟

لا بالطبع.. بل الواجب منه سؤال الله العافية، لأن المحنة ليست بالأمر السهل إطلاقاً، بل ترافقها التضحيات التي قد لا يتحملها الفرد فتنتج سحقًا وتحطيمًا لذاته، ولذا قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}. (آل عمران:143).

والنبي ﷺ يوصينا: "لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا".. هنا يجب الثبات وعدم التنحي عن مواجهة المحنة..

وأختم هنا بأمر مهم: وهو أن العافية والسراء هي ذاتها ابتلاء، وكثير ممن يحسن التعامل مع بلاء الضراء بالصبر لا يحسن التعامل مع بلاء السراء بالشكر.

وتأمل موقف نبي الله سليمان لما عرض عليه من نعم ربه فقال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[النمل:40]. فتلك الإمكانيات التي وضعت بين يديه رأي فيها امتحاناً من الله أكثر من مسببات للبطر والكفر.

ومن ذلك نعلم أن المحنة قد تكون بسيطة سهلة في أجواء الضيق والشدة، وقد تكون أصعب منها في أجواء الرخاء واللين وصدق ربنا القائل: {]وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء:35].، فليس "إذا ما ابتلى الله الإنسان فأكرمه ونعمه يكون ذلك إكرامًا مطلقًا وليس إذا ما قدر عليه رزقه يكون ذلك إهانة بل هو ابتلاء في الموضعين، وهو الاختبار والامتحان.

 فإن شكر الله على الرخاء وصبر على الشدة؛ كان كل واحد من الحالين خيرا له، وإن لم يشكر ولم يصبر؛ كان كل واحد من الحالين شراً له.

ثم تلك السراء التي هي من ثواب طاعته إذا عصي الله فيها؛ كانت سببًا لعذابه.

 والمكاره التي هي عقوبة معصيته إذا أطاع الله فيها؛ كانت سبباً لسعادته." [ راجع إن شئت ـ قاعدة في المحبة ـ ابن تيمية]

— المحنة و صواب الفكرة..

قد تأتي المحنة في صورة اضطهاد للتخلي عن الفكرة، ودفع صاحبها للتنازل عن مبدئه، ترغيباً أو ترهيباً، وواجب صاحبها هنا هو الاستمرار في تحمل الأذى.. وقد تأتي بسبب خطأ في ممارسة صاحب الفكرة، وهنا يجب على صاحب الفكرة الصبر مضافاً إليه تعديل خطأ الممارسة كدرس لن يتكرر في المستقبل.

وحتى يمكن إدراك ما حدث لحركة التغيير من محن محن هل هو يرجع إلى الصنف الأول(4)أم يرجع إلى الصنف الثاني(5)؛ فإننا في حاجة إلى مراجعات مبصرة تطرح علينا أسئلة من مثل: هل كنا على صواب أم على خطأ؟ ، هل المسار الذي سلكناه كان متاحاً في وقته، أم تعجلنا السير فيه؟، لنبدأ في مراجعة الأفكار وتقييم المواقف حتى لا نبقى على بصيرة بعجز كل من حولنا، بينما نحن في غفلة كاملة عن عجزنا نحن لافتقادنا عقلية المراجعة أو "النقد الذاتي" التي تؤكد لنا أن المحنة ـ مهما اشتدت ـ ليست دليلاً على صواب الفكرة، فنار المحنة قد تكون شهادة على صدق المكافح في سبيلها ومدى تعلقه بها، ولكنه قد يكون في الحقيقة متعلقاً بفكرة خاطئة أو متعلقاً بـ "وهم"؛ فالفكرة الشيوعية قد مات في سبيلها الكثيرون، ومع هذا فالعقيدة الشيوعية باطلة بطلاناً أصلياً.

وهذا يعني أن الفرد مهما قدم من تضحيات فهذا لا يعني بحال أكثر من حرصه على ما يحمل من أفكار ومباديء بغض النظر عن صوابه وخطئه!! وإذا سقط مفكر ما شهيداً من أجل فكرته فهذا لا يعني بأية حال شهادة بـ "صواب" ما يطرح من أفكار وما يحمل من مبادئ(6)، وإن كان يشهد على  إخلاصه لهذه الأفكار التي طرحها، وهذا "الإخلاص" لا يمنع مناقشة الفكرة لإثرائها وتخصيبها لتؤتي ثمارها كل حين بإذن ربها من خلال المراجعة التي تؤمن "أن تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج ، وأنه من الخير للأمة المسلمة أن تبقى مبادئ منهجها سليمة ناصعة قاطعة، وأن يوصف المخطئون بالوصف الذي يستحقونه _ أيا كانوا _ وألا تُبررَ أخطاؤُهم وانحرافاتهم أبداً بتحريف المنهج وتبديل قِيمهِ وموازينه ، فهذا التحريف والتبديل أَخطرُ على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ"(7)، من خلال المراجعة والنقد الذاتي..(8)

لقد كانت محنة معركة أحد ـ مثلاً ـ خطأ، وبينما الجماعة المسلمة الأولى في هذه المحنة كانت المعالجة القرآنية تتناول هذه المحنة القاسية بالتحليل وتصويب الأخطاء، فلم يسكت القرآن عنها ولم يقل بارك الله فيكم كانت محنة لكم وليس عليكم إلا الصبر والتضرع إلى الله، بل قام بعمل تحليلي لما حدث وأشار إلى نقاط الخطأ.

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152].

فهل من الغريب ـ على عقليتنا ـ أن يشير القرآن إلى أنه كان من بين المؤمنين ـ بقوا مؤمنين عفا الله عنهم مع تقصيرهم ـ من يريد الدنيا؟

ومع أن ما حدث كان بإذن الله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:166]. حتى يعرف المؤمنين من المنافقين: {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا }[آل عمران:166ـ167].

مع كل هذا قال أن المصيبة كانت من عند أنفسهم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165].

إن منهج الله ثابت وقيمه وموازينه ثابتة. والبشر يبعدون أو يقربون من هذا المنهج، ويخطئون ويصيبون في قواعد التصور وقواعد التطبيق والسلوك، ولكن ليس شيء من أخطائهم محسوباً على المنهج، ولا مغيراً لقيمه وموازينه الثابتة.

 —صور المحن..

كانت محن الجماعة المسلمة الأولى من صحابة رسول الله صورًا منوعة، سواء في التعذيب البدني لأفرادها، أم في التجويع، أم السجن، أم مصادرة الأموال، وحتى القتل..

وكان القرآن يتنزل في مثل هذه الظروف فيشرح قصص الأنبياء السابقين في محاولة منه لطمأنتهم على أنهم يسلكون الطريق الطبيعي الذي سلكه الأنبياء قبلهم:{ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ..} [الأنعام:34].

ولقد فصلت الآية من سورة الأنفال صور المحن التي تةاجه أصحاب الرسالات، وهي السجن، والقتل، والنفي {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}. [الأنفال: 30].

ـ ليثبتوك (التقييد أو السجن):

 وهي صورة يتقنها الطغاة، و يلجؤون إليها كثيراً، ففي النقاش الحاد بين موسى وفرعون والذي ذكرته سورة الشعراء: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } [الشعراء: 29].

ذلك أن السجن تقييد لحرية الإنسان وعزله عن وسطه العائلي "زوجة وأبناء وأهل"، وعزله عن وسطه الفكري "صحبته الصالحة"، ليعاني رطوبة السجن، وقلة التهوية، وضعف أشعة الشمس، في أقبية تحت الأرض مع ألوان من الإيذاء البدني والنفسي الذي تفتقت عنه عبقرية الظالمين.

ـ أو يقتلوك (التصفية الجسدية):

هو أقصى صورة ممكنة، وإن كانت أحيانا أهون من التعذسي الذي يمارسه الطغاة في صورة قتل متكرر أشد من القتل في لحظة واحدة.

ـ أو يخرجوك (النفي):

 وهو قطع علاقات الإنسان- على الأقل المباشرة- مع وسطه الذي يستمد منه ثقله وفعاليته، فهذه الصورة من المحن تعمل على الجانب النفسي..

ونظرا لخطورة أمر السجن وأنه الأسلوب المتبع، نحاول معالجة فكرته بشكل من التفصيل:

فأمّا هضم الفكرة والامتزاج بها؛ فيسعى الطغاة من خلال السجن إلى أن يستولي على حامل الرسالة الشعور بأن هذه الفكرة التي يحملها ما هي إلا مصدر شقاء كمن يحمل في جيبه أفعى سامة، ليلقيها عنها تخلصاً من هذا الشقاء!! ويكأنهم يريدون أن يغفل عن قوله تعالى: { مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى } [طه: 2].

هناك صلة بين الرسالي وما يحمله من رسالة، وتكمن خطورته بالنسبة للطغاة في مدى هضمه وتمكنه من الفكرة، وفي قوة امتزاجه بمن حوله من خلال علاقاته اليومية الممتزجة بما يحمله من رسالة "سواء كان خطيبًا، أو مدرسًا، أو طبيبًا أو كاتبًا".

وأمّا التواصل بالفكرة مع من حوله؛ فيهدف السجن إلى كسر حلقة الاتصال ليتوقف الرسالى عن متابعة سعيه في سبيل تبليغ رسالته. وكنوع من إذلال المعتقل؛ يسعى الطغاة إلى أخذ تهدات كتابية قاسية على المعتقل محققة لشروط التوبة النصوح!! من الندم على ما حدث، والإقلاع عما اعتاده من نشاط، والعزم على عدم العودة لهذا في المستقبل؟!!، ثم يستخدمونها في التشهير بالقائد بين أتباعه لصرفهم عن الرسالة التي يحملها، ولا تؤتي هذه الطريقة ثمارها إلا حين تكون نظرة الأتباع لصاحب الرسالة على أنه إما طاهر مقدس أو دنس حقير؛ فتكفي سقطة واحدة في إلغاء تاريخ كامل من العمل والصراع مع الطغاة.

وبذلك ينجح الطغاة في قطع العلاقة بين الرأس والجسد في كل نشاط يعمل بشكل تنظيمي لأن هذا النوع من النشاط ـ غالباً ـ يقوم على التلقين وليس الحوار، أي أن القائد وحده يدرس الأفراد، فإذا غاب توقف العمل!!(9)

أمّا حين تكون طبيعة العمل تأخذ شكل "ورشة العمل"؛ فإنها تتابع نشاطها حتى لو غاب قائدها لأن نشاطها ينبع من تكوينها الأساسي أكثر من وجود فرد فيها، بحيث تفرز الورشة من يصبح قائداً جديداً وهكذا، ولن يجد الطغاة كبير جدوى في اعتقال القائد.

— المحنة ومعادن الناس..

الناس حسب تعبير الحديث النبوي يشبهون المعادن "تجدون الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا".، وكما أن هناك العنصر شديد الفعالية مثل الصوديوم، وهناك الصلب الثابت مثل النحاس والحديد، وهناك الأصيل الذي لا يصدأ مثل الذهب والفضة، وهناك المشع مثل الراديوم والبلوتونيوم النادر!!

 فإن معادن الرجال تمائلها ـ وصدق رسول الله ـ فمنها الخفيف الذي يحترق مع أدنى حرارة، ويحدث الحرائق إذا كلف بالمهمات، فهو من الطراز الذي يحترق ويحرق من حوله في الملمات.

ومنها ما هو شبه الرجل على غرار شبه المعادن "الكبريت" الهش المتقلب، لأن شبه المعدن يمتاز بالذبذبة فهو تارة يتصرف كمعدن وأخرى يكون طياراً ولذا فهو شبه معدن، وكذلك بعض أصناف البشر كما جاء في الآية {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ}. [النساء: 143].

ومنها البشر العظماء المشعون كما تشع عناصر الراديوم والأكتينيوم، كما أن العناصر المشعة نادرة في الكون كذلك ندرة هؤلاء الناس: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]. وكذلك هي العناصر القيادية، فهي دومًا نسبة صغيرة.

 

وهذه العناصر من الناس ومعادنهم تبقى أشبه بالسر حتى تجيء المحنة فتكشف نوع المعدن(10) كما جاء في سورة الرعد: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ( [الرعد: 17]. أو كما جاء في سورة الأحزاب وهي تفرز المنافقين كما في الآية: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب: 19]. لذا كانت المحنة لا مفر منها، ولا بد منها لكشف نوعية المعدن وتطهيره. فإذا رأينا بعض العناصر فلابد أن نعلم

أن هذا هو الأمر الطبيعي، فلا يؤثر فينا تساقط هذه العناصر فيكون مصيرنا السقوط؛ بل نحاول التواصل مع هذه العناصر مرة أخرى، لإيقاظ الحماس فيها حتى تتابع الطريق.

وإن شئت فراجع قصة طالوت وجالوت في القرآن العظيم، فإنك تشعر أن كثافة الجموع الأولى قد غربلت فلم يبق منها إلا القلة، وهذه القلة أخبر عنها القرآن: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا} [البقرة: 246]، ثم جاءت غربلة أخرى عند عبور النهر في قوله تعالى: {فشربوا منه إلا قليلا منهم} [البقرة: 249]. لنصل إلى نقطة الامتحان الثالثة: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]. وهذه النسبة الأقل من القلة هي المبتغى وهي التي كتب على يدها النصر..

— الخروج إلى العافية..

في أثناء مشوار الحياة، قد نتعرَّض لمواقف تسبِّب لنا ألمًا، وإذا لم ننتبه وتركنا أنفسنا تتحكَّم بنا، قد تبعدنا عن المصدر الرئيسي والوحيد لتخفيف ذلك الألم وإزالته، عن المصدر الرئيسي للتطبيب ومداواة الجراح، قد تجعلنا نبتعد عن الله.

تجرجرنا النفس لأن "نفر من الله"، بدلًا من أن "نفر من الله"؛ فترتبك حركتنا، ونقف حائرين من شدة التعب لا نجد لنا طاقة ولا ندرك أين نقف؟!

وهنا يصبح لدينا فرصة نادرة للتواصل مع الله من خلال التقليل من الضوضاء القلبية التي تعمل على تشويش تواصلنا معه سبحانه. ةلا شك أن هذا "التواصل"معه سبحانه يسمو بأرواحنا لتتولى قيادة منظومة وجودنا من نفسٍ وجسدٍ وعقلٍ وقلب؛ فربك من الله هو الضمان الوحيد للتعافي الصحي من الخوف والألم، وضمان قربك من الله هو وعيك وإدراكك الدائم ومراقبة النفس وألاعيبها.

الله دائمًا قريب منك، لكن عليك أنت أن تكون واعيًا ومدركًا، حتى تكون أنت قريبًا منه، عندك فرصة فريدة للاستعانة بالله على أقدار الله؛ واستحضارك لمعنى أن الله ـ بيده الخير- يساعدك على استشعار حضور الله.

فإذا سُدًدَّت "كل" الطرق في وجهك في مكانٍ ما، فلربَّما كانت هذه إشارة من الله لك، إلى أن مراده منك إنما يتحقق في مكان آخر؛ فانتقل إلى مكان آخر، واجعل قدوتك في هذا الرسل الكرام، فلم يتوقف أحدٌ منهم عن تحقيق مراد الله منه –الدعوة إلى الله- منذ لحظة تكليفه بحملها، وحتى انتقاله إلى جوار الله، لراحة أو عطلة، بل كان الاستمرار الدائم في الزمان هو السمة المشتركة، والاستراتيجية الدائمة لكل أنبياء الله ورسله، صلى الله عليه وسلم أجمعين.

لكن تعاملهم مع المكان يختلف..

البعض من أنبياء الله حملوا رسالة لمكان معين، وبقوا في ذلك المكان إلى النهاية، والبعض الآخر حملوا رسالة الله إلى مكان معين، فلمَّا استُحكمت ضدهم التحديات انتقلوا بدعوتهم إلى مكان آخر، ومنهم من رجع إلى المكان الذي بُعث فيه أولًا بعد فترة من الزمن، ومنهم من لم يرجع.

بلغة اليوم..

تعاماهم مع المكان كان اختيارًا تكتيكيًّا.. لكن تعاملهم مع الزمان كان شيئًا آخر، كان اختيارًا استراتيجيًّا..

لذا، أظن أن عليك، منذ بدء سعيك للدعوة إلى الله ألَّا تتوقَّف ولو لثانية واحدة –حتى انتهاء زمنك على ظهر هذا الكوكب - عن تحقيق ذلك المراد؛ فنصيبك من الزمان هو عمرك، وأنت لا تدري متى ينتهي عمرك.

فإذا واجهتك تحديات ما، تعامل معها تكتيكيًّا، كما فعل أنبياء الله.

واعلم أن الزمان.. كل الزمان، زمان الله.

المكان.. كل المكان، مكان الله.

المكان ممتد ومتسع..

لكن زمانك خاصٌ بك..

فإيَّاك أن تسمحَ لمحدوديَّةِ مكانِكَ أن تُعطِّلَ زمانكَ.

ولا شك أن هذا كله لا بد فيه من "الصبر"، هذه القيمة المركزية جدًّا في مسألة الإيمان، والتي يتوقّف عليها مصير المؤمنين {ولمّا يعلمِ الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}. فعدم التحلّي بالصبر وفقدان الأمل خيانة وجدانية لذواتنا وللآخرين(11) ولذلك فلا بد لنا من أن نخوض..

 —معركة التمسك بالأمل:

يتحرك الإنسان في الحياة بدءاً من أبسط التصرفات إلى أعقدها بين الخوف والرجاء

فإذا كان مطارداً، وشعر أن هناك أمل في الإفلات؛ ركض بكل قوته، بينما إذا ملأه اليأس من النجاة؛ توقف عن الحركة واستسلم!!

ولذلك يؤكد القرآن على عدم اليأس: {وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87]، وينهى عن القنوط: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ( [الحجر:56].

والدعوة إلى الله يحكمها نفس القانون؛ فهي تسير مدفوعة بـ "الرجاء" في نجاحها والوصول إلى أهدافها، و"الخوف" من الفشل، وتضبط حركتها من خلال وعي بتاريخ هذه الدعوة ومبررات انتشارها، ورؤية واضحة لصعوبات طريقها، ومصير من يحملها.

فإذا استولى الشعور بعدم جدوى انتشار الفكرة على أفراد الحركة؛ أبطأت حركتهم أو ربما توقفت، بينما امتلاك العقلية التي تربط مقدمات الأشياء بنتائجها؛ يحفز الأفراد إلى التحرك بفعالية من خلال سنن الله في الكون والحياة مع المراجعة والنقد الذاتي والتقييم الموضوعي لكل خطوة في الطريق لأنهم يدركون أن "المَعرَكة طويلة وقد لا نُمتّع ناظرنا بثمارها الفورية، والأمل في التحرّر، لا يعني التحرّر الآن وعلى الفور، فلا بُدّ أن نُناضل من أجل الحُرّية في إطار الظروف التاريخية المُواتية، فإذا لَم تتهيّأ الظروف، فعلينا أن نُواصل العمل مُتسلّحين بالأمل من أجل الحصول على مطالبنا. فالتحرّر إمكانية وليس قدرًا أو مصيرًا أو عَبَثًا".(12)..

إن الذين اختفوا من التاريخ هم الذين ظلوا يشتكون ويتأوهون ويتمنون، ويمضون حياتهم على في انتظار الموت.

أمّا من قام من كبوته فهو من حلل وشخَّص، ثم بدأ في البحث عن حلول للقيام من هذه الكبوة، لكي يكون فاعلًا مبادرًا في هذا العالم، من قام من كبوته هو من يعلم أن العالم ليس فيه مكان لمن يشتكي ويئن، وإنما لمن يجد حلًا لشكواه ينفذه بيده.

من قام من كبوته هو من أدرك أن العالم يقوم على التنافس .. منافسي يبحث عن مصلحته غير عابئ بمصلحتي ما دمت أنا لا أبحث عنها ولا أدافع عنها.

من قام من كبوته هو من يعرف أنه لا مكان للضعفاء في هذا العالم، وأننا يجب أن نبحث عن مكان لنا، علينا أن ندفع بأكتافنا، ليترك الآخرون مكانًا لنا، ساعتها يمكن أن نراعي نحن بقية الضعفاء مراعاةً لقيمنا.

يا صديقي..

عتد محاولتك الوقوف ثانيةً بعد مرورك بالمحنة، لا بد لك أن تواجه الخوف والألم والارتباك والمرارة واهتزاز الثقة بالنفس وأشياء كثيرة أخرى.

فإذا شعرت أن قواك مستهلّكة، وإرادتك منهّكة، وهمتك متعبة؛ فحاول أن:

أن تزيد إيمانك بالله، و أن تزيد اعتمادك على الله، و أن تزيد مددك من الله..

حاول أن تفر إلى الله، وليس من الله..

تفكر وتأمل طويلًا، كيف كان شعور الرسل الكرام، وكيف كيف كانت درجة قربهم وثقتهم وأنسهم بالله..

نعم هم رسل الله استخلصهم وخصَّهم بهذا المقام، لكنه لم يمنعنا نحن –عموم البشر- أن نتلمَّس سيرتهم وأن نعمل من خلالها.

— وختاماً يا صديقي..

كُلّما أصبح الحاضر أكثر ظلامًا، وكُلّما أخذت شمس المُستقبل في المَغيب. ويتوارى أمل المقهورين، كُلّما نَعم القاهرون بالأمن والسلام؛ فإذا حاصرتك المحن، فلا تترك نفسك للتيار، ولا تتبادل مع من حولك أسباب اليأس، أو تؤكد لنفسك برؤية المحبَطين أن لك الحق في أن تيأس!!

لا أحب لك أن تحبس نفسك فى هذه الدائرة اليائسة، بل أحب لك أن تقف وتتأمل أنّ ما حدث لك هو الخير، ثم تبدأ فى البحث عن هذا الخير ..

لا تصدق عينيك لو لم تر غير العسر في المحنة، فالقرآن أكد وكرر..

{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5-6]، فتأمل جيداً وستراهما

معاً، مهما كان العسر أظهر!​

تمسّك بالأمل مهما بدا الواقع مخالفًا لذلك..

إن كان لا بُدّ من أن يفقد أحدٌ ما الأمل، فليكن المجرمون والمُستبدّون كلّ أولئك الذين تسبّبوا بقهر الناس وقتل أحلامهم.

تمالك نفسك وتغلب على ألمك وخوفك، ثم تقدم خطوة لتقوم بدورك فى تهدئة من حولك، وزرع الأمل فى أرواحهم المضطربة ..

ثم تقدم خطوة أخرى لتعلمهم أننا:

بين الماضي والمستقبل نحتار .. لكن في النهاية علينا المتابعة .. علينا أن نعمل ونجتهد ونزرع .. وعلى الله الإنبات ...


 

الهوامش

 

(1) كم من أشخاص تحولت بوصلة قلوبهم؛ فسقطوا في بئر سحيق من الكذب والتجمل، بينما بقيت حياة الصادقين ترجمة حقيقية لصدقهم مع ربهم ويقينهم برسالتهم..

(2) راجع إن شئت كتاب "فن اللا مبالاة" ـ مارك مانسون.

(3) رحم الله سيداً القائل: " إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح و كتبت لها الحياة.

(4) بغض أعداء الحركة لما تحمله من أفكار واضهادهم لمن يحملونها.

(5) أخطاء الممارسة والتحرك بالفكرة.

(6) قد يتشنج البعض هنا فلا يقبل المراجعة؛ ويستمرون في الخطأ، ولكنهم سيكررون دفع الثمن حتى ينتبهوا إلى الأخطاء فيتفادوها.

(7) راجع إن شئت في ظلال القرآن ـ سيد قطب ـ ج 4، وهذه الكلمات لسيد قطب تؤكد على مبدأ المراجعة.

(8) لا شك أن نشر روح المراجعة والنقد الذاتي هي ظاهرة صحية، لأنها توجد جواً من الشورى وتبادل وجهات النظر ..

(9) يعتقل الطغاة آحاداً؛ فيرتكس الباقون ارتكاسات مختلفة، فمنهم من يفر إلى خارج البلد" ينفي نفسه"، ومنهم من يختفي تحت الأرض "يسجن نفسه بنفسه"، ومنهم من يحدد نشاطه، حرصا على الاستمرار " وهو ما يريده الطغاة" !!

(10) راجع إن شئت كتاب "ظاهرة المحنة" ـ د/ خالص جلبي ـ ص 120 بتصرف.

(11) أنصح هنا بكُتُب من مثل: الفرج بعد الشدة – ابن أبي الدُنيا، تربية الأمل – باولو فرايري ـ التنوير في إسقاط التدبير، الحكم العطائية، الفرج بعد الشدّة، عدّة الصابرين.

(12) راجع إن شئت "تربية القلب في مواجهة الّليبرالية الجديدة" ـ باولو فريري

 

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة