فَهْم الدعاة والمربين لمقصد النبي بندرة (الرواحل) في الناس هو فهم صحيح بلا شك، ولكن البعض يضيق دائرة فهمه بالتركيز على الرواحل فقط دون الاستفادة من البقية متعددة التخصصات، فهذا يحتاج إلى توسيع دائرة فهمه بإجادة غير (الرواحل) لمهمات أخرى.
عن عبد الله بن
عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما
الناس كالإبل المائة؛ لا تكاد تجد فيها راحلة"[1].
الكثير من الناس يفهم هذا الحديث على وجه ندرة وجود الأشخاص المُخلصين الأوفياء
ذوي القدرات الفذة، الذين يحملون هم الأمانة مثلهم مثل الناقة الراحلة، في كل مائة
لا توجد إلا راحلة تصلح للركوب؛ لأن الذي يصلح للركوب ينبغي أن يكون وطيئًا سهل
الانقياد، وقد قال ابن الأثير في شرح كلمة الراحلة: (أَنَّ المَرْضِيَّ
الْمُنتَجَب مِنَ النَّاسِ، فِي عِزَّةِ وُجُودِهِ: كالنّجِيبِ مِنَ الإبِلِ،
الْقَوِيِّ عَلَى الْأَحْمَالِ وَالْأَسْفَارِ، الَّذِي لَا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ
مِنَ الْإِبِلِ). كما يشرح ابن قتيبة: الراحلة: (النجيبة المختارة من الإبل
للركوب وغيره، فهي كاملة الأوصاف، ويقال: راحلة، للذكر والأنثى).
ضرب النبي -صلى الله
عليه وسلم- المثال بالراحلة بقصد شدة التحمل والقدرة على تحمل الأمانة، ولكن بعد
البحث في أنواع الإبل تكتشف أن (الراحلة) نوع من ضمن أنواع كثيرة، وتعد هي الناقة
الصالحة للسفر، أما باقي الأنواع فهي تجيد مهامًا أخرى مثل الإبل الخاصة بالحمل
والرضاع، مثل نوع (المجاهيم) التي تتميز بحجمها الكبير ولبنها الوفير ولكنها لا
تصلح للسفر كالراحلة، وهناك (المعاويد) ذكور الإبل التي ترفع الماء من الآبار، أيضًا
هناك نوع يسمى (القعود)، وهي التي تستخدم في الركوب وحمل الزاد للرعاة[2]،
هذا على سبيل المثال لا الحصر.
فَهْم الدعاة والمربين
لمقصد النبي بندرة (الرواحل) في الناس هو فهم صحيح بلا شك، ولكن البعض يضيق دائرة
فهمه بالتركيز على الرواحل فقط دون الاستفادة من البقية متعددة التخصصات، فهذا
يحتاج إلى توسيع دائرة فهمه بإجادة غير (الرواحل) لمهمات أخرى مثل الإبل وتخصصاتها
التي أسلفنا ذكرها، لقد كان تعبير النبي -صلى الله عليه وسلم- دقيقًا وذا بعد
بلاغي في اختياره الإبل على وجه الخصوص؛ لما فيه من لفت النظر إلى أنه كما تمت
الاستفادة من الرواحل في تحمل الأمانة والاعتماد عليها في المسؤوليات الصعبة،
فهناك غيرها من الأصناف يمكن الاستفادة منه أيضًا كل بتخصصه الذي يجيده.
فكما خلق الله تعالى
تلك الإبل وكل منها له تخصص معين ومهارة معينة تختص بها، فالبشر خُلقوا كذلك، كل
منهم له مهارة يجيدها وميول تستهويه، ومهمة الداعية والمربي توظيف تلك المهارة في
مكانها الصحيح ووضعها على الثغر المناسب، وهكذا كان هدي النبي -صلى الله عليه
وسلم- مع أصحابه الكرام -رضوان الله عليهم-، فيما رواه أنس بن مالك قال: قال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ،
وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ،
وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ
زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيٌّ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ،
وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ)[3].
فبمعرفة النبي -صلى الله عليه وسلم- لمواهب وميول أصحابه استطاع توظيف كل منهم في
مكانه الصحيح، ووضعه على الثغر الذي يناسب تخصصه، حتى كان كل منهم لبنة قوية في
صرح الأمة.
فالنبي -صلى الله عليه
وسلم- لم يختر الرواحل فحسب وترك الآخرين دون الاستفادة منهم، بل وظّف كل شخص فيما
يجيده، فكما وُظِّف معاذ بن جبل في العلم، ومصعب بن عمير في الدعوة، وأبو موسى
الأشعري في تلاوة القرآن، واختير بلال للأذان لنداوة صوته، وثابت بن قيس خطيبًا؛
لأنه جهـوري الصـوت بليـغ العبارة، ودحية الكلبي وعبد الله بن حذافة السهمي وعمرو
بن العاص وعمرو بن أمية الضمـري وحـاطب بن أبي بلتعـة -رضي الله عنهم- سفراء
للملوك لما فيهم من وجاهة وبلاغة وبداهة، وخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل
وأسامة بن زيد -رضي الله عنهم- للقتال لأنهم كانوا الأقدر على فنون القتال = فكما
وظف هؤلاء في كل هذه المهام الجسيمة فإنه وظّف غيرهم في سقاية الجيوش وإطعامها وأعمال
المراقبة والحراسة وغير ذلك من المهام التي لا تتطلب قدرات ومهارات متقدمة... لم
يكن أحد في مجتمع النبوة الأول بلا وظيفة أو مهمة يقوم عليها ويحسنها ويؤديها على
وجهها الأكمل.
فلو كان النبي -صلى
الله عليه وسلم- يختار الرواحل فقط لاختار عشرات من الصحابة فحسب ولم يعر اهتمامًا
لبقيتهم، ولكنه المربي الأعظم والداعية البصير؛ كان يستفيد بكل طاقة فرد مسلم حوله
ويوظفها في بناء صرح الإسلام، دون محاباة أو مجاملة لأحد، ولقد رد الرسول -صلى
الله عليه وسلم- بعض طلبات الصحابة التي لا تناسب ميولهم أو قدراتهم، فقد ورد في
كتب الحـديث أن أبا ذر -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله، ألا تستعملني؟! فضرب
الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيده على منكبه، وقال: "يَا أَبَا ذَرٍّ،
إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ
وَنَدَامَةٌ إِلا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا"[4].
فالاستفادة بقدرات المتربين لا تتم بشكل عشوائي أو فوضوي، بل يتم تسكين قدرات كل
شخص في مكانها الصحيح.
اتسع فهم النبي -صلى
الله عليه وسلم- في الاستفادة من أفكار وخبرات الحضارات الأخرى غير المسلمة، مثل
استجابته لفكرة حفر الخندق حول المدينة المنورة كوسيلة دفاعية في غزوة الأحزاب
بمشورة سلمان الفارسي، وهي فكرة فارسية من الأساس، كذلك استجابته للخبرة الرومية
في النجارة حين عرض عليه صهيب الرومي صناعة منبر له ليخطب فوقه، واعتمد النبي -صلى
الله عليه وسلم- العديد من الأفكار المستمدة من الحضارات الأخرى غير المسلمة مادامت
لا تتصادم مع العقيدة والخصوصية الإسلامية.
وأخيرًا.. النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما أشار إلى الرواحل، كان يشير لنوعية معينة من الناس تتميز بشدة التحمل وعظم التفاني والتضحية، ولم يقصد أبدًا التركيز عليها دون التركيز على قدرات ومواهب غير الرواحل، فالعلاقة بين الرواحل وغيرهم هي علاقة تكاملية، فلو اعتبرنا الرواحل عماد الكيان؛ فغيرهم يكتمل بهم البناء، وتتزين بهم أدق تفاصيله، فلا كيان يقوم دون عماد، ولا كيان يستمر دون اكتمال.
إضافة تعليق