يعرف كل مسلم أن العفو من كريم
أفعال الخير والبر، وأنه من سمات أهل حسن الخلق ومن أوتوا الحكمة ومن يتصرفون بوعي
ورشاد.. ويتبادر مصطلح (الرفق) إلى الذهن إذا ما ذكرنا (العفو).. وتسود معاني
كثيرة ترتبط كلها بوصف نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه نبي الرحمة وأن ربنا تبارك
وتعالى هو العفو الغفور الرحيم..
لكن هل حقا ما يسود عن
(العفو) هو (العفو) الذي يرضي الله؟
هل أمة الإسلام الآن تعمل بالعفو
الذي هو على مراد الله؟
أم أننا كعادتنا سمينا
الأشياء بغير أسمائها واتبعنا سنن من كان قبلنا حذو القذة بالقذة فأفرغنا (العفو)
من معناه الشرعي السليم وحللنا محله شيئا آخر: ليس هو حقيقة العفو، وليس هو من
الدين، وضاع معنى العفو بيننا؟
إننا إذا أردنا أن نحرر
مصطلحا شرعيا ما، وندرك إدراكا صحيحا ماهيته ومعناه وتطبيقاته، فعلينا مباشرة أن
نعود على الرسم الأول.. فتعالوا نرى كيف هي حقيقة المشهد الأشهر من بين مشاهد
العفو في التاريخ الإسلام، ثم من بعد ذلك نعود لنرى كيف يتم تطبيق العفو اللآن!
ذلك المشهد.. في مكة.. بعد
تمام الفتح.. حين انكسر أهلها أخيرا تحت سيوف المسلمين وسياسة المسلمين ولم يجدوا
ملجأ إلا الإسلام ذاته أو المسجد الحرام أو بيت أبي سفيان!.. ذلك المشهد الذي وقف
فيه أعداء الماضي.. صناديد السابق.. تحت قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم عند
باب الكعبة.. وهو يقول لهم (يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟).. فإذا هم يذلون
له بعد أن كانوا يسمونه مذمما ويقاتلونه بسيوفهم ويلقون في قتاله بفلذات أكبادهم
وهو صابر في قتالهم محتسب لله حاميا للمسلمين في مسؤوليته، حتى كسر شوكتهم وفتح
عقر داره ودارهم (مكة)! ثم هم يقولون (خيرا.. أخ كريم وابن أخ كريم).. ينشدونه
أخلاقه وينشدونه الرحم! يستعطفونه بعد أن نعتوه قريبا من ذلك المكان عند جبل الصفا
يوم أن أعلن دعوته قبل قرابة الـ20 سنة.. نعتوه يومها بالكذاب! عند الصفا حين قال
(إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد) فصرخ أبو لهب (تبا لك.. أما جمعتنا إلا لهذا)..
نعم في ذات المواضع حول الكعبة تدور الأيام ليستعطفوه! ويسترحموه بما لمسوه من
أخلاقه ويستعطفوه بما بينهم من رحم!
يا الله! كم تدور الأيام
وتدور! وعلى الباغي تدور الدوائر!
الآن.. بعد أن قاتل.. بعد أن
جاهد.. بعد أن انتصر وقدر.. الآن يوم الفتح.. بعد أن أمر صباحا بقتل (عبد العزى بن
خطل) وإن تعلق بأستار الكعبة وبالفعل تسابق الصحابة أيهم يقتله لما كان يؤذي رسول
الله بأفعاله ولسانه قبل الفتح.. وقتلوه وهو بين أستار الكعبة وبين بنائها.. قتلوه!
ولا يزال أهل مكة يعترفون للرسول والمسلمين بـ(خيرا.. أخ كريم).. أقروا على أنفسهم
باستحقاقهم للعقوبة وأقروا له بالحق في أن يعاقب..
حينها يكون العفو..
نعم.. لم يأسرهم.. ولم يأسر
نساءهم ولا ذراريهم ولم يقسم مالهم! بل قال (اذهبوا فأنتم الطلقاء)..
لكن هنا وقفة لتفسير معنى
(العفو).. ذلك العفو الزائف الذي يأمرون المظلومين به حال استضعافهم!
هل عفا رسول الله عن أعدائه
يوم بدر حين قتل منهم 70 وأسر 70؟ اللهم لا..
هل عفا عنهم يوم أحد حين
قتلوا منه 70؟ اللهم لا..
هل عفا عنهم يوم صلبوا خبيب
بن عدي ومزقوه في بطن مكة وكلهم ينظرون؟ اللهم لا..
هل عفا عنهم حين نقضوا
عهدهم؟ اللهم لا.. بل سار إليهم وفتح عقر داره ودارهم..
وهكذا العفو: عند المقدرة..
بينما نحن الآن نجد شيخا على
المنبر ينادي: اعف عمن ظلمك!
وفي الحقيقة هذا جزء من حديث
ضعيف!
نعم.. يبحث ضعفاء النفوس عن
الضعيف ليلزموا الناس به، تغييرا وتبديلا وتحويلا للأصل الثابت المعروف (ولكم في
القصاص حياة يا أولى الألباب)..
متى أعفو عمن ظلمني؟ أعفو
عنه وهو لايزال يظلمني؟ أعفو عنه وسيفه فوق رقبتي ولسانه يطعن قلبي وروحي ويدمر
نفسي؟ أي عفو هذا!
نعم أعفو عمن ظلمني.. إذا
شئت مختارا الأجر العظيم.. لكن بعد أن أجاهده وأكسره ويذل لي مسترحما.. حينها..
نعم أعفو.. بل حينها أنا مخير بين العفو والعقوبة بمثل ما عاقبني ذلك الظالم (وإن
عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) ولقوله: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم
وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين.. ويذهب غيظ قلوبهم).
لكن ذلك الشيخ العجيب الغريب
المريب على المنبر أو عبر السوشيال ميديا يأمرنا بعفو ما أنزل الله به من سلطان!
يأمرنا بالمذلة وأن نترك الظلم يستشري في أمة الإسلام التي علمنا رسولنا أن نحفظها
بـ (ترده عن ظلمه) حين سألوه أكون مع أخي مظلوما فكيف أكون مع أخي ظالما؟
تجلس في مجلس تعدى فيه والدٌ
على ولده فظلمه وأكل ماله وشوّه سمعته تجبرا وعتوا.. فتجد كل من في المجلس يأمرون
الولد أن يعفو عن والده! فأين أنتم من أقوال المذاهب الأربعة بأن الوالد إذا وقع
في حق ولده بشيء له عوض جناه ظلما على ولده فإن الوالد يجازى بـ 3 أضعاف التعويض
العادي! أين ردكم الوالد عن ظلمه؟! وراجعوا في ذلك أبواب القصاص في موسوعة (التشريع
الجنائي الإسلامي مقارنة بالقانون الوضعي) للشهيد بإذن الله: عبد القادر عودة.
وإذا جلسنا بين زوج وزوجه
وكانت قد سارت خلف من يخببها على زوجها، تجد المجلس كله يأمره بالعفو بينما هي
واقفة ترغي وتزبد وتهينه أمام الناس؟ فأين هذا العفو الذي يأمر به هؤلاء من عفو
رسول الله عزيزا كريما؟ أو أين هذا العفو الزائف من إيلائه صلى الله عليه وسلم عن
نسائه وتخييرهم بين الطلاق وبين رضاهم بحياته كما اختارها خالية من الرفاهية صلى
الله عليه وسلم؟
وإذا جلسنا مجلسا آخر بين
زوج وزوجة وكان الزوج قد ضرب زوجته ضربا مبرحا كسر عظما وأظهر الأورام في اللحم
وشوه البدن، بينما الجالسون يأمرونها بالعفو دون أن يقتص منه أهلُها أو يكلفونه
تعويضا مناسبا وفق الشرع عن هذه الجراحات! فأي عفو هذا تأمرون به يغضب الله في
عليائه ويحيد عن منهج رسوله صلى الله عليه وسلم!
وإذا جلسنا مجلسا بين أخ قد أسلف
ماله لآخر.. وهذا الآخرُ قد أكل مالَ المسلِف.. تجد الجلوس يدفعون صاحب المال دفعا
ليعفو ويصفح! أين كنتم وآكل المال يسوِّف؟ أين كنتم بينما صاحب المال يحتاجه بينما
آكلُه في الحرام يسبح؟ لماذا لا تلزِمون الظالم برد الحق بدلا من إلزام المظلوم
بشيء لا يرضاه الله تسمونه أنتم العفو (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما
أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم
الهدى)!
أمة العدل.. الأمة الوسط..
صارت أمة الظلم في أغلبها.. غير مستبصرة بالحق منكرة له في العموم.. متطرفة تدعم
الظالم وتأمر المظلوم بشيء ليس عفوا على الإطلاق لكنه المهانة والمذلة!
يكون (العفو) عند المقدرة
نعم..
ولكن يضاف إلى قدرة صاحب
الحق شرطان:
الأول.. أن يقر آكل الحق بما
عليه وينكسر معتذرا.. فلا عفو عند ضعف صاحب الحق، هذا اسمه تنازل وانسحاب وسلبية
ومذلة..
الثاني.. أنه لا عفو عند
إصرار الظالم على ظلمه واستمراره فيه، هذا اسمه تعاون على الإثم والعدوان..
أما صاحب العفو قبل المقدرة
يظهر لنا علامات اضطراب نفسي من عينة (اضطراب الشخصية الاجتنابية Avoidant personality disorder) لا يريد المبادأة ولا اتخاذ القرار ولا التعامل مع الواقع كما
ينبغي..
وأما صاحب العفو عمن لايزال
يمارس الظلم فهو يظهر لنا علامات اضطراب تقمص المؤذي أو الاتحاد مع المؤذي أو ما
يعرف بـ (متلازمة استوكهولم Stockholm
Syndrome) وفيه يصبح العدو
في نظرك هو من يأمرك بمواجهة الظالم وتغفل بصيرتك عن أن عدوك هو الظالم نفسه!
وفي كلا الحالتين ليس هذا من
الإسلام في شيء! ليس هذا من أخلاق أهل الجنة.. بل هو من أخلاق أهل النار (فاستخف
قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين)! إن الإسلام لا يتحاشى استخلاص الحقوق بل
يحض على ذلك ولا يفسح للظالم المجال أبدا بل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر
ويتعاون في المعروف ويحرم التعاون على المنكر..
وإذا كان (الرفق) يتبادر إلى
الذهن عند ذكر (العفو).. فإن الرفق هو أن تضع الشدة في موضعها وأن تضع اللين في
موضعه، كما قال سفيان الثوري رحمه الله.. ويبدو أن معنى مصطلحي (العفو) و(الرفق)
قد اندثرا تماما كما اندثر مذهب الإمام الثوري نفسه! الذي كان ليصبح إمام المذهب
الخامس في الفقه لولا قلة اهتمام أصحابه بحفظ ونشر مذهبه! ليس الرفق أبدا أن تكون
لينا في كل موقف! الرفق هو التوازن في الأمور كلها.. الرفق أن تأخذ على يد الظالم
في كل موضع ولا تأمر المظلوم أن يستسلم أو يتنازل أبدا.. الرفق أن تكون مسلما
وسطا.. والوسطية ليست أن تقف بين الحق والباطل كما يفعل كثيرون الآن! بل الوسطية أن
تكون ميزانا للحق والباطل.. الرفق أن تلين للمظلوم وتشتد على الظالم.. الرفق أن
تتمسك بحقك وتستخلص من الظالم شفاء صدرك بالقصاص ولا تسامح حتى يكف عن ظلمه وينكسر
لك معترفا بحقك وفضلك كما جرى بين رسول الله وبين قريش يوم الفتح..
فأي عفو يتحدث عنه دعاة زور يريدون
الناس أن يروا الحياة بعين واحدة! فيعرضون جانبا واحدا من رسول الله هو اللين!
اللين وحده وأما القصاص فيبدونه ويخفون كثيرا! أي عفو يعرضونه على الناس إلا استسلام
يضيع حق المرء في الواقع ويضيع الإسلام من قلبه؟! أي عفو يتحدث عنه من يصدحون أن
رسول الله كان نبي الرحمة ويخفون أنه أيضا وبالتزامن مع الرحمة كان نبي الملحمة.. أن
تدعو الناس ليروا بعينين اثنتين هو أن تدعوهم ليروا عفوه عند باب الكعبة كما
تدعوهم ليروا قتله عبد العزى بن خطل وهو متعلق بأستارها.. وذلك ليكتمل المشهد
ويكتمل تصورك كمسلم عن شخصيته وسيرته صلى الله عليه وسلم..
والله الهادي سواء السبيل..
عبدالهادي
جزاك الله خيراً حبيبنا واخينا استاذ اسلام انور المهدي ووفقت بارك الله فيك وفي علمك ونفع بك فعلاً هذا المنهج السليم في مسألة العفو لان الكثير لبسوا علينا في مسألة العفو في كثير من البلدان وانحرفوا عن جادة الطريق طريق خير البرية ولا ننسى كيف أن سيدنا ورسولنا ونبينا نبي الرحمة ﷺ كيف انه تقبل اسلام وحشي ( قاتل عمه حمزة رضي الله عنه ) لان الدخول بالاسلام حق لكل إنسان وبالتالي حبيبنا لا يملك أن يرفض ذلك لكنه رفض مصافحة وحشي بعد ذلك بل امره الرسول ﷺ وقال كلمته المشهوره هل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟! ( لا تدع عيني تراك بعد هذا ) وفعلاً لم يلتقي وحشي بحبينا حتى توفي رسولنا الكريم ، فلما قبض حبيبنا صلوات ربي وسلامه عليه ادعى مسيلمة الكذاب النبوة فخرج وحشي في جيش المسلمين وقتل مسيلمة الكذاب تكفيراً عن نفسه وذنبه وطلباً للعفو من ربه ، ففعلاً مفهوم العفو عند المقدرة هو المفهوم السليم الذي اتى بها الشرع الحكيم في أهم مسائل الصحة النفسية للبشرية ، انا هنا احدثك من السعودية وقد كنت شاهداً على كثير من قصص العفو التي يتكابل الناس فيها على المظلوم ويمارسون معه انواع الظغط النفسي والمجتمعي ويضغطون عليه بقوه لاسقاط حقه طلباً للعفو الذي يدخل الجنة !! بل كثيراً من هولاء السعاه يظن انه نال من الأجر العظيم بهذا التصرف الارعن والمفهوم الاجوف للعفو ، ولعل الوضع الان تغير قليلاً ولله الحمد