مغروسٌ في أذهاننا منذ الطفولة أن الصبر من أساسات الإيمان.. ويدندنُ في آذان طفلنا الداخلي -الذي لا يزال يعيش في داخل كل منا منذ الطفولة إلى الآن- يدندنُ ترتيل سورة العصر وهي تختم دوما كل صلاة حاولنا أن ننتظم ونصليها خلف الإمام بينما كنا صغارًا، يدندن: أن المؤمنين من صفاتهم (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)!

فلماذا يتذكر طفلُنا الداخلي: (الحق) ويتذكر كذلك (الصبر).. ثم ننسى ونحن كبار! فننكر (الحق) ولا نتذكر إلا (الصبر)؟

هذا لأن دعاة الإرجاء عمدوا إلى معاني القرآن ومقتضياته فـ (يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَها ويُخْفُونَ كَثِيرا).. ولأن القاعدة النفسية هي أن (ما تكرَّر تقرر) فيمحو دعاةُ الخضوع هؤلاء بخزعبلاتهم رويدا رويدا: مفهوم التواصي بالحق من ضمائرنا ثم يشوهون مفهوم الصبر ليلقنوا أذهاننا مفهوما مبتدعا لا علاقة له بمنهج الله تبارك وتعالى ولا يتصل من قريب أو بعيد بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجعلوا مفهومهم المبتدع ذلك هو (الصبر) الذي ينبغي علينا أن نتواصى به! ولا يتحدثون عن (صبر) غيره على الإطلاق!

يجيئون بروايات لا أصل لها: مثل أن الله صبر على فرعون سنوات طويلة ولم يعذبه لأن فرعون كان بارا بأمه ويصبر عليها! (خزعبلات المضطربين نفسيا باضطراب الشخصية المازوخية).. أو يتعمدون نشر زيادات ضعيفة يلصقونها بأحاديث صحيحة، مثل زيادة (وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك) وهي زيادة لا تصح يلصقونها بحديث صحيح عن طاعة الأمراء!  فيضعون السم في العسل ليوهموا الناس أن الخضوع وانتظار المعجزات هو الإسلام بل هو حق الإيمان.. بينما الإسلام في حقيقته ومن بعده مرتبة الإيمان في حقيقتها لا يتحققان ولا يثبتان إلا بالتواصي بالحق وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودفع الصائل.. وبالتالي يكون (الصبر) الحقيقي هو في الكفاح والنضال والجهاد من أجل إحقاق الحق لا في السكوت على واقع مزرٍ أليمٍ بحجة أنه قدرنا وينبغي علينا الرضا به.. ومن اعترض على مفهوم هؤلاء الدعاة عن الصبر فقد -من جنتهم- انطرد!

في الحقيقة هؤلاء الدعاة يدلسون.. ليس فقط مفهوم الصبر.. بل تدليسهم جذري عميق.. تدليسهم عقدي في ركن من أركان الإيمان.. لأنهم بالأساس يدلسون مفهوم (الرضا بالقدر).. لأن الله تعالى له قدران أو هما قضاءان: قضاء كوني، وقضاء شرعي..

القضاء الكوني لا حيلة لنا فيه: كموعد ولادتنا، عرقنا، طبيعة أجسامنا، وطول حياتنا، وغير ذلك.. هذه القضاءات والأقدار لا حيلة لنا فيها ولا يستطيع إنسان تغييرها مهما كان إذ ليس له اختيار فيها ولا يصلح أي كسب لدفعها.. فكيف تغير موعد ميلادك أو الجيل الذي نشأت فيه أو لون بشرتك؟

وأما القضاء الشرعي فهو قضاء لنا فيه كل الحيلة: كمن اخترناهم أصدقاء أو شركاء، أو ما اخترناه من بلاد للسكنى، أو ما تخصصاتنا فيه دراسيا ومن ثم وظائفنا، وكذلك ننجب أم لا؟ نقاوم أم لا؟ نسكت عن حق أم لا؟.. وهذه القضاءات والأقدار كتبها الله علينا نعم.. وعلمها تبارك وتعالى قبل أن يخلقنا نعم.. وهي محفوظة في اللوح المحفوظ نعم.. لكن للإنسان اختيارٌ فيها وإرادةٌ وله كسبٌ في قبولها أو دفعها.. بل ونستطيع تغييرها بالفعل والكفاح وأضعف الفعل الدعاء.. والله قد فتح لنا باب ذلك إذا أريت الله من نفسك خيرا.. فقال تعالى (يَـمْـحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ)..

وعندما كانت الأمة على رسمها الأول.. تعمل بكتابها وتسير خلف نبيها كان المسلمون يفهمون ذلك تمام الفهم.. أن القدر الكوني لا حيلة لنا فيه.. فالصبر معه هو الصبر عليه ذاته تجلدا ورضا.. وأن القدر الشرعي لنا حيلة فيه.. فالصبر معه هو الصبر في مدافعته لو كان ضارا وفي إنشائه وتنفيذه وصيانته لو كان نافعا..

فأمام المرض مثلا.. يأمرنا القضاء الشرعي بالتداوي (تداووا عبادَ اللهِ فإنَّ الذي أنزل الداءَ أنزل الدواءَ).. فإذا عجز الطب وانتهت الحيل من أيدينا سلمنا لقضاء الله الكوني بالتعايش مع مرض مزمن أو حتى بالتسليم باقتراب الموت والاستعداد له.

وبقيت الأمة على هذا الصبر الواضح.. تصبر على ما لا حيلة فيه وتصبر في مكافحة ما أمرنا بالإعداد للحيلة عليه.. حتى ظهر (الجهم بن صفوان) وهو شيخ الجبرية.. الذين قالوا إن الإنسان مسير دائما لا مخير أبدا وأن كل أعماله لا حيلة له فيها.. استورد الجهم بدعته تلك من فلاسفة هنود كان يجالسهم ثم صار يحدث بها المسلمين! ولأن الناس حينها كانوا حقا لايزالون بالإسلام مستمسكين فإنهم لفظوه ولأن ما قاله خارج عن الملة فإن علماء محلته وعصره كفروه ولذلك قتله أمير بلدته (سَلَمُ بن أحوز) حينها حدا شرعيا واجبا لا رحمة فيه!

ونحن في الحقيقة إذا وجدنا شعبا الآن يشتكي الإبادة الجماعية مثل شعب غزة فقلنا لهم: اصبرو وصابروا ورفضنا دعم المقاومة بالقوة والحراك السياسي الدولي والنشر الإعلامي والمال فإننا نقول لهم قولة الجهم بن صفوان..

وإذا جاءنا رجل يشتكي أباه أنه لم يربِّه على الإسلام ولم يعلمه ما ينفعه في دنياه وأنه دائم الأذية له بدنيا ونفسيا ثم نقول له: اصبر إنه أبوك وإن البر واجب، من دون أن نأخذ على يد هذا الأب ونلزمه أن يبر ولده.. فإننا نقول لهذا الولد مقولة الجهم بن صفوان..

وإذا جاءنا رجل يشتكي تغول أنسبائه عليه ونشوز امرأته عن أمره وتشويههم سمعتَه: فقلنا له اصبر ولك الأجر هي نشأت على ذلك فسامحها، من دون أن نشهر أنسباءه بالفجور في الخصومة ونلزمهم الحق والعدل.. فإننا نقول لهذا الرجل مقولة الجهم بن صفوان..

وإذا جاءتنا امرأة تشتكي استئساد زوجها عليها دون ذنب أذنبته ولا طاعة خلعتها من رقبتها، دون أن نلزم هذا الزوج حدَّه ونتوعده ونهدده.. فإننا نقول لهذه المرأة مقولة الجهم بن صفوان..

وإذا جاءنا موظف يشتكي ظلم رؤسائه.. وجار يشتكي جور جيرانه.. وشريك يشتكي خيانة شريكه.. وكل مظلوم يشتكي ظلم ظالمه.. فنقول له: اصبر، دون أن نحق الحق ونبطل الباطل.. فنحن نقول في عقيدتنا بمقولة الجهم بن صفوان.. ونكون كلنا في هذه الحالة جبريين نستحق ما استحقه الجهم بن صفوان!

نعم.. الجبرية جذر من جذور الإرجاء.. سواء الإرجاء العقدي أو العملي.. يؤمن الإنسان من الجبرية أنه غير مسؤول عن جرائمه ويرى كذلك أن كل مجرم معذور فهو بذلك يرى الله ظالما حين يحاسب كل إنسان عما جناه، وإن لم يصرح بذلك! وهذا عين الإرجاء وعين الخروج عن عقيدة أهل السنة والجماعة التي توجب أن يعبد الإنسان ربه: بالخوف والحب والرجاء معا لا بأحدها وحده ولا باثنتين منها دون الثالثة.. وبالتأكيد لا يتعبد بالرجاء وحده في رحمة الله مهما جنى وأجرم في حق الله وفي حقوق الناس!

وكلما نسى المسلمون أصل عقيدتهم وانحرفوا عنها.. بعث الله عبادا (ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ).. فيعلمون الناس الدين عمليا.. ويضربون النموذج الواضح عن هذا الدين.. فها هم الفلسطينيون في غزة.. يعلموننا أن (الصبر) ليس في الرضا بالاحتلال.. لكنه (الصبر) الطويل في مقاومة الاحتلال.. طول فهم لواقعهم، وطول إعداد لملاقاة عدوهم، وطول مجالدة بعزم يهد الجبال..

هؤلاء يعيدون لنا الدين غضا كما نزل.. يظهرون لنا الدين القويم: دين إبراهيم الذي يصبر في الكفاح والمجالدة لا يصبر على الخضوع والمذلة.. دين إسماعيل وإسحق ويعقوب وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد.. عليهم الصلاة والسلام..

دين الثبات على الحق حتى الممات.. دين يكبد العدو خسائرا فادحة ويرتضي تقديم ذات الخسائر عالما أنه ثمن مقبول الدفع )وَلا تَهِنوا فِي ابتِغاءِ القَومِ إِن تَكونوا تَألَمونَ فَإِنَّهُم يَألَمونَ كَما تَألَمونَ وَتَرجونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرجونَ وَكانَ اللَّهُ عَليمًا حَكيمًا(.. (إنْ يَمسَسكُم قَرحٌ فَقَد مَسَّ القَومَ قَرحٌ مِثلُهُ وَتِلكَ الأَيّامُ نُداوِلُها بَينَ النّاسِ وَلِيَعلَمَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا وَيَتَّخِذَ مِنكُم شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمينَ).. دين لا تضيع فيه تضحيات الثابتين لأنهم يرجون ما لا يرجو عدوهم الأثيم (لا سَواءَ، قَتلانا في الجنَّةِ وقتلاكُم في النَّارِ).. دين يكافح رافعا رأسه ولا يحنيها أبدا (وَلا تَهِنوا وَلا تَحزَنوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُؤمِنينَ).. هذا هو الدين.. وهذا هو الصبر.. وهذا هو الإيمان بالقدر خيره وشره.. لا إرجاف المرجفين ولا تخذيل المخذلين من مرجئة العصر أعداء الله ورسوله والمؤمنين.. فأما صبر المؤمنين فبأخذك إلى الجنة وتوفَّى أجرك بغير حساب.. وأما صبر الجبرية فيأخذك إلى النار وتحاسب على النقير والقطمير.. فاختر لنفسك!

والله من وراء القصد.

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة