سأجعل من سفير الإسلام الأوَّل (مصعب بن عمير) محلَّ بحثٍ وتأمَّل نستجلي بعض ملامح تكوين تلك الشخصية، وطبيعة المهمة الموكلة إليه مقارنة بما يحمله من سماتٍ، ونختم بأبرز مآثر التمكين التي تحقَّقت على يديه في تلك المهمة التي أوكلها له رسول الله.
تستوقفني البعثات التعليمية والدعوية التي كان صلى الله عليه وسلم ينتدب لها أصحابه رضي الله عنهم، معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري إلى اليمن، مصعب إلى المدينة، وجعفر يرأس وفد الحبشة، قائمة لا تنتهي من مهامَّ أوكلها عليه الصلاة والسلام لبعض صحابته؛ فأتساءل: لِمَ وقع الاختيار على صحابيٍّ بعينه دون غيره؟ وما السمات التي جعلت منه محلَّ اختيار أداء تلك المهمَّة؟ ثمَّ ما حجم الثقة والصلاحيات التي منحها له رسول صلى الله عليه وسلم وهو يقوم مقامه في مهمة عظيمةٍ كالتعليم والتربية والدعوة.
ولأجيب على هذه التساؤلات؛ سأجعل من سفير الإسلام الأوَّل (مصعب بن عمير) محلَّ بحثٍ وتأمَّل نستجلي بعض ملامح تكوين تلك الشخصية، وطبيعة المهمة الموكلة إليه مقارنة بما يحمله من سماتٍ، ونختم بأبرز مآثر التمكين التي تحقَّقت على يديه في تلك المهمة التي أوكلها له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
البدايات:
عُمِّر مصعب بن عمير في الإسلام قليلًا، فقد قتل في أُحُد عن أربعين سنة، ولم تدوِّن كتب التاريخ حظًّا وافرًا من ترجمته، إلا أن الصفحة الناصعة في سيرته تلك التي تروي أخبار بعثِهِ له صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَة بَعْد أَنْ بَايَع الْأَنْصَارُ الْبَيْعَةَ الْأُولَى، لِيُعَلِّمَهُمُ الْقُرْآنَ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ تعالى وَدِينِهِ، تصدَّر لإقراء القرآن الكريم وتعليمه، فلقِّب بالْمُقْرِئَ، وأسلم على يديه كبار الأنصار، مهام جليلة اختصرها التوصيف الذي لم يشتهر عن أحد غيره بأنه: (أول سفير في الإسلام)، ولا شكَّ أنَّ مهمة (السفارة) مهمَّة عظيمة تصنف في عصرنا الحاضر ضمن العلاقات الدولية ووزارات الخارجية التي هي ممثلة عن الدول، وربَّما كان السفير في غالب الأحيان الناطق الرسمي عن الدولة، والممثل لها في المحافل، بل ويشترط في اختياره مجموعة من السمات والمؤهلات التي تجعله بلغة العصر (دبلوماسيًّا) يجيد التعامل مع مختلف المواقف والأشخاص.
ولِنفهم طبيعة ما أُوكِلَ بهِ (سفير الإسلام مصعب)؛ نعيش معه في محطَّتين: الأولى: (ركائز التكوين) في شخصيته، ثم (مآثر التمكين) والإنجازات التي تحقَّقت على يديه، لعلَّ إضاءةً تُبرِق للعاملين في ميدان التربية، وإشارةً تعيد ترتيب أولويات المنشغلين بالدعوة والتزكية، أو ملحظًا يوسِّع نظرَ القائمين على صناعة الرواحل.
ركائز التكوين:
مصعب بن عمير سيِّدٌ من سادات قومهِ، معِدٌن ينضحُ بالدُّرِّ، ويفوح عبقاً وثراءً في مكة، هو مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، بيته بيت شرف وسيادة، كانت فيهم مناصب الندوة واللواء والحجابة، عاشَ ثراءً جعل منه بعرفنا الحالي (ابن نعمةٍ)، يقول ابن سعد: "كان مصعب بن عمير فتى مكة شباباً وجمالاً وسبيباً، وكان أبواه يحبَّانه، وكانت أمه مليئةً كثيرة المال، تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقّه، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرمي من النعال"([1]).
هذا المشهد من الثراء والترف الذي كان يعيشه مصعب في وقتٍ كان غالب أهل مكة يقاسون شظف العيش ولأْوَاء المشقَّة، لك أن تستحضره فتعقد مقارنة بينه وبين المشهد الختامي الذي أُسدِل عليه سيرته، وطويت به صفحته، يوم أن لم يتمالك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام دموعهم حين كفَّنوه بثوب إن غطُّوا رأسه؛ بدت رجلاه، وإن غطوا رجليه؛ بدا رأسه([2])، أو ذلك المشهد الذي كان عليه غالب أيامه، كما عند الحاكم عن الزبير رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً بقُباء ومعه نفر، فقام مصعب بن عمير عليه بردة ما تكاد تواريه، ونكَّس القوم، فجاء فسلم فردوا عليه، فقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم خيراً وأثنى عليه، ثم قال: «لقد رأيت هذا عند أبويه بمكة يكرمانه وينعمانه، وما فتى من فتيان قريش مثله؛ ثم خرج من ذلك ابتغاءَ مرضاة الله ونصرة رسوله"([3])، "لقد ترك الشاب مصعب حياة الترف، وهجر كنف أبويه الكافرين، وكانا غنيَّين يعتنيان برفاهيته، وقبل شظف العيش مع ثلةِ الشباب المؤمن في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فعانى معاناة شديدة بعد هذا الانقلاب الكلي في حياته؛ فبعد الجِدَة فقر، وبعد الترف والنعومة حرمان وخشونة، وبعد الشِّبَع جوع، وبعد الأمن خوف، ولكن مصعبًا وهب جسده لقلبه، وضحَّى بدنياه لآخرته، وتحمَّل في ذات الله تعالى ما يلقى"([4]).
تُرى كيف للمربي الأول صلى الله عليه وسلم أن أحدث ذلك التأثير في مصعب في ظلِّ بيئةٍ مترَفةٍ، ودلالٍ مُتَنعَّمٍ يغدو فيه ويروح؟ بنظرة إجمالية لتكوين شخصية مصعب رضي الله عنه نجمل ثلاث ركائز أساسيَّة:
1) بغير الإيمان لا وقود ولا زاد:
قطب الرحى في أيِّ تغييرٍ ينشُدُهُ الإنسانُ هي قناعتهُ بأنَّ انتقاله خيرٌ له وأبقى مِمَّا هو عليه الآن، ولا وقود يدفع لذلك التحوُّل مثل الإيمان، الإيمان ذلك الخطاب الذي حظِيَ باهتمامه صلى الله عليه وسلم مع من تحت يديه في (دار الأرقم)، فقد كانت الدَّار محضناً يُشع إيماناً يؤكد فيه صلى الله عليه وسلم على قضايا التزكية، ويترقَّى بالمتربِّين، يجمع شتاتهم على الله، ويبعث في نفوسهم الثقة بالله، يبشِّر وينذر، يعظ ويذكِّر، ذلك الخطاب رأينا أثره في حياة الصحابة يوم أن اشتدت بهم البلاءات؛ فظهر معدنهم، وبرز ما صُقِلوا عليهِ من إيمانٍ يدفعهم للصبر واليقين.
تلقَّى مصعب بن عمير هذا الزاد من مجموع جلساته معه صلى الله عليه وسلم، ومن تردُّدِه الدائم عليه في دار الأرقم، فإنه رضي الله عنه من السابقين الأولين، أسلم فكتم إسلامه، وكان يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًّا، حتى بَصُرَ به عثمان بن طلحة يصلِّي فأخبر أمه وقومه، فأخذوه فحبسوه فلم يزل محبوساً حتى خرج مهاجرًا الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة([5]).
إنَّ الفترة الذي قضَّاها مصعب مصاحبًا بدايات الدعوة، معايشًا أوائل التنزيل؛ صقلت معدنه، ومنحته اليقين والثقة بموعود الله تعالى، كما أنَّ ما منحه رسول صلى الله عليه وسلم لمصعب وأمثاله مِمَّن كانوا معه في هذه المرحلة من القرب والاعتناء والمعايشة ما لا يُفسَّر أثرهُ إلا بالحوادث والمشاهد المذهلة التي نقرؤها عنهم حين نطالع كتب التراجم؛ فندرك حقًّا ذلك الإيمان الذي ملأَ قلوبهم فصنعوا الأعاجيب.
(الإيمان) ركيزة التكوين الأولى في شخصية مصعب، إيمانٌ يستبقيه نشِطًا لدعوته، متيناً في دينه، مستلذاً بكل ما يبذل ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ولقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوجُّه ذلك القصد وإخلاص النية حين رآه مقبلاً عليه إهاب كبش قد تنطَّق به، فقال: «انظروا إلى هذا الذي نوَّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، ولقد رأيت عليه حلّة شراها -أو شُريت- بمائتي درهم، فدعاه حبُّ الله وحب رسوله إلى ما ترون»([6]).
(الإيمانُ) صنع من مصعب رجلًا لا يقدِّمُ حبًّا على حبِّ الله تعالى، ولا حبِّ رسوله صلى الله عليه وسلم ولو كان أقرب قريب، وقصته مع أخيه أبي عزيز بن عمير حين وقع في الأسر يوم بدرٍ خيرُ منبئٍ على ذلك، قال أبو عزيز بن عمير: مرّ بي أخي مصعب ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شُدَّ يدك به، فإنّ أمّه ذاتُ متاع، لعلها تَفْدِيهِ منك، قال له أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك([7]).
(الإيمانُ) هو الذي أرسى دعائم الصبر في تكوين مصعب، وأقام مناراته له فيما يستقبل من دعوته، صَبَرَ مصعب حين أخذوه بعد إسلامه فحبسوه، فلم يزل محبوسا إِلَى أن هاجر إِلَى الحبشة، صَبَرَ على ألم الغربة مهاجرًا إلى الحبشة، مفارقًا مراتع الصِّبا، ذاق مع الغربة بؤس العيش، وجدب الحياة، ولمَّا أثر آثر الرجوع إلى مكة مواصلًا رحلة الجهاد والصبر وتحمُّل البلاء؛ تغير الحال من نعيم إلى شظفٍ، فَفقَد المال والنعمة وقد كان أنعم شباب مكة، وتطاير عنه جلده تطاير جلد الحية، كان ينقطع به السَّير فما يستطيع أن يمشيَ، فيعرض له أصحابه القسِيَّ يحملونه على عواتقهم([8])، ثُمَّ هاجر إِلَى المدينة بعد العقبة الأولى، إنَّها رحلة مضنيةٌ من الابتلاءات، ومسيرةٌ حافلة بالصبر، يقودها الإيمان الذي يستعذب صاحبه في الله كل شيءٍ، وكلما زاد صاحب الإيمان ابتلاءً؛ ازداد ثباتاً، وما يلقَّاها إلا الذين صبروا وما يلقَّاهَا إلا ذو حظٍّ عظيم.
معاشر المربين: بغير هذه الرَّكيزة (الإيمان) تبقى مخرجات التربية متأرجحة بين القناعة والتضحية، والتراجع والانسحاب، فلا حراك يدفع، ولا زاد ينفع مثل الإيمان، فاقصدوا في برامجكم ومناهجكم ما يعين مَنْ تحت أيديكم على الارتقاء بإيمانهم، وتثبيتهم عليه، فإن الإيمان يبلى، ودوركم تجديده.
2) العلم: بصرٌ وبصيرة:
ثاني ركائز التأسيس في شخصية مصعب (العلم)، ومع أن كتب السير لا تسعفنا بكثير أخبار عن تلك المجالس التي جلسها مصعب رضي الله عنه متعلماً منه صلى الله عليه وسلم، ولا شهدت كذلك على وقائع وأحداث كشفت عن جوانب من علمه رضي الله عنه مقارنة بحال غيره من الصحابة كالخلفاء الأربعة، ومعاذ، وأبي موسى، وابن عباس، وابن مسعود وغيرهم؛ لكنَّ المتأمل في طبيعة المهام التي انْتُدِبَ لها مصعب يظهر له بجلاءٍ أنه رجلٌ مُلِئَ علماً وفقهاً.
فمصعب كان يُقْرِئ القوم القرآن، ويصلي بهم، ويعلِّمهم الإسلام، ويفَقِّهُهُم في الدين، وهكذا كان طلب أهل العقبة الأولى منه صلى الله عليه وسلم كما أورد ذلك ابن هشام([9])، ولم يكنْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعث لهم معلماً ومقرئاً ومفتياً إلا من اكتملتْ أهليَّتُه، وحَسُنَتْ دِيانَتُهُ، ورَضِيَ عنه علماً وفقهاً، وذاك شَرفٌ ظفر به وحاز سَبْقَهُ مصعب.
تستوقفنا بعض الإشارات واللمحات السريعة تُنْبِئُك عن مخزون مصعب بن عمير العلمي الذي تلقَّاه من تَرَدُّدِهِ على دار الأرقم مُتَعِلِّماً، على أقلِّ تقديرٍ مخزونٌ إلى تلك الفترة من تَنَزُّل الوحي تكفي لأَن يُرَشَّح لمهمةِ التربية والدعوة والتعليم لمجتمعٍ وبيئةٍ جديدة، ومن تلك الإشارات العلمية:
ــ تدرُّجه بالأهمِّ في الدعوة والتعليم: قد لا تصنف هذه الخصلة في أبواب العلم وتقاسيمه، لكنَّها أحد أهم سمات العالِم، فالعالم مَنْ يُعلِّم صغارَ العلم قبل كبارِهِ، وموقفه مع أسيد بن حضير ثم سعد بن معاذ يُوقِفُنا على هذا الفقه منه رضي الله عنه، فقد عرض عليهما الإِسلام، وقرأ عليهما القرآن، قرأ: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف:1-3)([10]). من غير أيِّ إثارةٍ لتفاصيل أخرى يمكن أن تُحدث نفوراً منهما، وهذا من فِقْهِهِ رضي الله عنه في تقدير الأهمِّ لكل مرحلةٍ.
ـ توسيعه دائرة التعلُّم: كان مصعب رضي الله عنه حريصًا أول الأمر على نشر الدعوة بين أفراد قبيلة الأوس؛ لأن معظم من أسلم في العقبة الأولى كانوا من الخزرج([11])، وذلك بُعْدُ نظرٍ منه وبصيرة في توسيع دائرة التعلُّم والتأثير، وتقديم إضافة أخرى للدعوة من خلال كسب الأوس ليكتمل الهدف المنشود بتوحيد المدينة وتهيئتها للدعوة الجديدة، وفتح مساحة أخرى من مساحات التغيير في المجتمع قدحُها وزنادها تعليم الأوس ودعوتهم، ولقد آتت هذه الحركة الدؤوبة منه رضي الله عنه ثمرتها بإسلام أسيد بن حصير وسعد بن معاذٍ سيِّدي الأوس الَّذين كان لإسلامهما ما بعده من التأثير وانتشار الدعوة، قال ابن الأثير واصفًا هذا النشاط من مصعب: "أسلم على يده أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وهما سيِّدا قومهما، وكفى بذلك فخرًا وأثرًا في الإسلام"([12]).
ــ تنوُّع مصادر المعرفة لديه: حيث أكسبته هجرته للحبشة ثم إلى المدينة سعة أفقٍ، ومعرفةً بأحوال الشعوب وطبائعهم، ومعتقداتهم، وفي ذلك تهيئة وتقديرٌ ربَّانيٌّ للدور الذي سيوكَل إليه في المدينة يستدعي أن يكون على انفتاحٍ مع الجميع، حكيمًا في إدارة الطبائع واختلاف الشخصيَّات، وقد كان له ذلك رضي الله عنه.
- ومن الإشارات العلمية التي تبرز قوَّةُ حجَّتِهِ في التعامل مع الشُّبَهِ، ولْنقرأ على سبيل المثال حواره مع أمِّه متَّخذة من عاطفة الأمومة مدخلًا للشبهة، مشكِّكةً له في دينه، منتقدةً بقاءه على ما هو عليه من الإسلام، مازجة ذلك بحنيَّة الأم ومشاعرها لعلَّ ابنها يستمع إليها، أو يراجع ما خالفها عليه من معتقداتٍ وأفكار، بيد أنَّ قناعته بدينه راسخة، ومثل هذه الشبه لا محلَّ لها في قلبه وعقله، ثم إنَّ ردوده على تلك الشبه قاطعةٌ لا مجال فيها للمحاباة أو التلكُّؤِ، ولا مجال فيها لأمِّه إلا أن تذعِن وترضخ فتتركه وشأنه، يروي القصة ابن سعد في الطبقات حين عاد مصعب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل البشرى بإسلام الأوس والخزرج، فبلغ أمه أنه قدم، فأرسلت إليه: يا عاقُّ أتقدم بلدًا أنا فيه لا تبدأ بي!؟ فقال: ما كنتُ لأبدأ بأحدٍ قبل رسول الله، فلما سلَّم على رسول الله وأخبره بما أخبره ذهب إلى أمه، فقالت: إنكَ لعلى ما أنت عليه من الصبأة بعد، قال: أنا على دين رسول الله، وهو الإسلام الذي رضي الله لنفسه ولرسوله، قالت: ما شكرت ما رثيتك مرة بأرض الحبشة، ومرة بيثرب، فقال: أفِرُّ بديني أن تفتنوني، فأرادت حبسه، فقال: لئِن أنتِ حبستني؛ لأحرصنَّ على قتل من يتعرَّض لي، قالت: فاذهب لشأنك، وجعلت تبكي، فقال مصعب: يا أمة إني لك ناصح عليك شفيق، فاشهدي أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، قالت: والثواقب لا أدخل في دينك، فيزري برأيي ويضعف عقلي، ولكني أدعك وما أنت عليه وأقيم على ديني([13]).
ويبقى القرآن الكريم هو المكوِّن العلمي الأبرز لمصعب بن عمير، إذ هو المهمة الأساسية التي بُعِث بها إلى المدينة يعلِّمُ ويقرئَ ويُفقِّهُ، ولأجله لقِّب بالمقرئ([14])، وبهِ برز المكوِّن الثالث في شخصيته المتمثِّل في فصاحته وبلاغته وقدرته على الإقناع والحوار، وما ذاك إلا مظهرٌ من مظاهر القرآن الكريم وإعجازه، وصناعته للغة من يحفظُه وترنَّم به.
3) الحوار والإقناع:
لغة الحوار لن تؤتي ثمارها، ولن تجدي نفعاً ما لم يكن صاحبها على قدرٍ من المؤهلات والسمات الخُلُقِيَّة التي تُنْفِذُ خطابه إلى قلوب مستمعيه كالتواضعِ، وعدم التعصُّبِ للرأي، وحسن الاستماع، وهذا عين ما اتَّسم به مصعب في جملة حواراته ودعوته.
مصعب بن عمير مُحَاوِرٌ نَاجِحٌ ضَبَطَ مسيرةَ الحِوار في كُلِّ المواقف التي وقفها، وبلغ الهدف المنشود من تلك الحوارات، وهذه بعض السمات التي اتَّسم بها مصعب في مجموع حواراته:
ــ قبل الحوار يهيِّئ الأجواء المناسبة للموقف ولطبيعة الشخص الذي سيعرض عليه الدعوة: نراه يجلس كثيراً في حائط بني ظفر على بئرٍ يقال لها مرق، يدعو ويعلِّم ويحاور([15])، وتلك وإن كانت إشارة ًعابرةً إلا أنها ملحٌ يُحدث في نفس المحاوَرِ والمدعُوِّ هدوءً وراحةً واستئناسًا بالخضرة والماء المجاورينِ.
ـــ لغة الإنصاف والعدل: في جملة حواراته رضي الله عنه جعلت له قبولاً، وأحدثت له أثراً، ولم تجرِّئ عليه مَنْ يقوى على الردِّ والتكذيب غالباً، ها هو يعرض على أسيد بن الحضير لمَّا جاءه مغضبًا، "أوَ تجلس فتسمع، فإِنْ رضيت؛ أمراً قبلته، وإن كَرِهْته؛ عزَلْناهُ عنك"، وتكرَّر ذات العرض مع سعد بن معاذ، وما كان منهما إلا أن شهدا له على هذا الإنصاف فقالوا: (أنصفت)([16])، ولك أن تتخيل مُحَاِورًا بهذه النفسية من العرض؛ لن يكون مُتَشَنِّجًاً ولا معَنِّفًا، ومُحَاوَرًا بهذه النفسية من الاستماع؛ لن يكون متعَصِّبًاً، ولا جَاحِدًا.
ــ أدب العرض، وتقدير المحاور، وحُسْنُ الاستماع: لمصعب رضي الله عنه القدرة على امتصاصِ غضب مَنْ أمامه، بما حباه الله تعالى من هدوءٍ وسعة بالٍ، سهلٌ ليِّنٌ، قليل الخلاف، يقُولُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: "كَانَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ لِي خِدْنًا وَصَاحِبًا مُنْذُ يَوْمَ أَسْلَمَ إِلَى أَنْ قُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأُحُدٍ، خَرَجَ مَعَنَا إِلَى الْهِجْرَتَيْنِ جَمِيعًا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَكَانَ رَفِيقِي مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ، فَلَمْ أَرَ رَجُلًا قَطُّ كَانَ أَحْسَنَ خُلُقًا، وَلَا أَقَلَّ خِلَافًا مِنْهُ([17])"، تمثلت هذه الأخلاق في أدبه في العرض، وتقديره لمن يحاوره، وإنصاته له، وحسن استماعه، وتلك سمةٌ عظيمةٌ في المحاوِر بها يكسب القلوب، ويؤلِّف الأفئدة، ويجمع الصفَّ، ويلمُّ الشَّتات، وهكذا مجموع حواراته مع أمِّه، أو مع مَن قَدِم عليهم في المدينة حواراتٌ ملؤها الدفءُ، وحسن العرض، والتقديرُ والاحترام، والاستماع للمحاوِر إلى آخرِ كلمةٍ، وقد تكرر هذا كثيراً مع أسيد بن الحضير وسعد بن معاذ، أكسبه هذا المكوِّن الاحترام، ووضع له القبول، وأبلغه مقصده في التأثير.
وهكذا برزت معالم التكوين لشخصية مصعب: (الإيمان ــ العلم ــ الحوار) في طبيعة المهمة التي أوكلت إليه في بدء مسيرة الدعوة الإسلامية، وسيظهر جلياً تفاصيل هذه الركائز في طبيعة المهام والآثار والإنجازات التي تحققت له رضي الله عنه بعد عامٍ واحدٍ من مُهِمَّتِهِ.
([1]) محمد بن سعد: الطبقات الكبرى 3/86، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية-بيروت، ط1، 1990 م.
([2]) محمد الكاندهلوي: حياة الصحابة 2/574، تحقيق: بشار عوّاد، مؤسسة الرسالة، بيروت-لبنان، ط1، 1999م.
([3]) الحاكم: المستدرك، كتاب الإيمان، باب ذكر مصعب بن عمير العبدري، 3/ 728، رقم 6640.
([4]) جاسم الدرويش: مصعب بن عمير، مجلة أبحاث البصرة (العلوم الإنسانية)، ج35، العدد2، 2012م
([5]) الكاندهلوي: حياة الصحابة 2/ 572
([6]) أبو بكر البيهقي: شعب الإيمان 8/255، تحقيق: عبد العلي عبد الحميد، مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 2003م
([7]) ينظر: أبو القاسم السهيلي: الروض الأنف في شرح السيرة النبوية 5/155، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1412هـ.
([8]) ينظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 1/148، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، دار الرسالة: سوريا، ط3، 1985م
([9]) الكاندهلوي: حياة الصحابة 2/572
([10]) ابن هشام: السيرة النبوية 1/436
([11]) هاشم الملَّاح: الوسيط في السيرة النبوية والخلافة الراشدة، ص175
([12]) عز الدين ابن الأثير: أسد الغابة في معرفة الصحابة، 4/134، تحقيق: علي معوض، وعادل عبد الموجود، دار الكتب العلمية، ط1، 1994م
([13]) ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/ 88
([14]) ابن الأثير: أسد الغابة 5/182، الذهبي: سير أعلام النبلاء 1/102
([15]) ينظر: ابن كثير: البداية والنهاية 3/161، تحقيق: علي معوض، عادل عبد الموجود، بيروت: دار الكتب العلمية، د.ط.
([16]) ابن سعد: الطبقات 3/87
([17]) ابن سعد: مرجع سابق 3/117ا
إضافة تعليق