يفخر كثير من الآباء بأن أبناءهم لا يعصون لهم أمرًا، ولا يفعلون شيئًا دون رأيهم! ولا يشعر هؤلاء الآباء أنهم بذلك قد أعدوهم لينفذوا ما يفكّره لهم غيرهم ؟!
يفخر
كثير من الآباء بأن أبناءهم لا يعصون لهم أمرًا، ولا يفعلون شيئًا دون رأيهم! ولا
يشعر هؤلاء الآباء أنهم بذلك قد أعدوهم
لينفذوا ما يفكّره لهم غيرهم ؟! وأن الأعمال الإبداعية لا تنشأ عن طريق فرض
القيود، ولا عن طريق الزجر والمنع والتخويف، وإنما عن طريق التحفيز والمشاركة
الواسعة.
إن التسلط، وإغلاق باب الحريّة في
وجوه الأبناء، هو في حقيقته "وأد" تربوي لشخصياتهم، و"قتل"
لروح الابتكار والتجديد لديهم. كما أن ترك الحبل على الغارب لهم، لا يأتي بأي خير،
فالتربية السوية إنما تكون على أساس من الحرّية ضمن النظام، والمبادرة مع
الانضباط، والتنفيذ وليس الجدل، وتفجير الطاقات وليس تبرير العجز، وروح الفريق
وليس روح القطيع.
·
العبودية الاختيارية..
في بيت يعلن الزوج
فيه أنه لا معقب لحكمه، ويتم فيه مصادرة رأي الزوجة والأبناء لحساب أب يمثل طاغية
صغيراً؛ يتربى الإنسان الخائف الأخرس؛ فيكون الاستبداد السياسي هو التجلي الأعظم
لتراكمات تلك الأخطاء.
إننا كآباء نعاني من صغرنا عبودية اختيارية
لما يتبناه معلمونا من أفكار وتصورات دون بحث فيها أو نظر، وأكثرنا في سيره تبعٌ
لغيره معتمد عليه، لا يقوى على حوار حول ما يرى أو يعتقد.
وإذا قمنا بتربية أبنائنا بذات الطريقة،
فحرمناهم الاختيار، وحجرنا على تصرفاتهم، ومنعناهم من المبادرات الذاتية الحرّة؛ فقد
حرمناهم مما يحفظهم – بإذن الله – من أن يقود الآخرون حياتهم، أو يقضون أوقاتهم في
مهنة أو عمل لا يحبونه ولا يتقنونه بناء
على اقتراح من غيرهم؛ أو يخضعون للتأثيرات السلبية لأقرانهم، فتكون النتيجة هي
الفشل والإحباط.
تأمل هذا المثال..
يعود الابن من المدرسة وقد امتلأت عيناه
بالدموع، وحين يسأله الأب عن السبب، يكتشف أنه سخرية أقرانه في المدرسة من ملابسه،
أو من أوصافه الجسدية.
المطلوب هنا ألا يقوم الأب بدور الناقد أو
الساخر من دموع الابن، وإنما يقوم بدور المعلم والمرشد "إن لكل منا نقاط ضعف،
ونقاط قوة، فإذا افتقدت أنت بعض المواهب، فإن غيرك يفتقد مواهب أخرى، و كل ما عليك
هو أن تركّز على نقاط قوتك ".. " وأنا أؤكد لك ـ بُني الحبيب ـ أنك قادر
على تغيير أقرانك، وأنك تستطيع التأثير فيهم " .. " وحتى إذا لم تستطع
التأثير فيهم، فإن الحد الأدنى ألا يؤثروا هم فيك تأثيرًا سلبيًا! "
أذكر أنني حين كنت طالبًا في الثانوية، قام مجموعة
من أصدقائي بشراء علبة من السجائر وبدأوا في التدخين، وأرادوا مني أن أجرب، ولكني
رفضت لأنني شعرت أنه ليس من العقل أن أتناول ما يتناولون من الخطأ لمجرد إرضائهم..
وأذكر أن أصدقائي ضايقوني وسخروا مني لفترة، ولكنهم كفوا عن ذلك بعد فترة قصيرة.
أنا أعرف ـ يا بني ـ أن الإنسان يحب أن يكون
مقبولًا من أصدقائه، وأنا أدرك ـ يا بني ـ أن من يرفض سلوك أصدقائه قد يشعر في
البداية بشيء من الشعور بالغربة، ولكنه سرعان ما يكتسب التقدير لذاته حين يدرك أنه
يتصرف التصرف السليم.
ولذلك ـ يا أحب
الناس ـ فإني أنصحك في كل المواقف التي تتعرض فيها للضغط من اصدقائك، أن تسأل نفسك
: هل هذا الأمر غير شرعي ؟ هل هو لون من ألوان خيانة الأمانة ؟ هل هو فعل مشين ؟
فإذا كانت الإجابة بـ " نعم " فإني
أربأ بك ـ وأنت أيضًا تربأ بنفسك ـ عن أن تكون فاعلًا لذلك، أليس كذلك ؟
بُني الحبيب ..
حين نقلّد الآخرين، نتحول إلى قردة! ولا نفطن
إلى أمر خطير، وهو أنه من الخير للقرد أن يبقى قردًا مكتمل القرودية "سيدًا"
في غابته، من أن يتحول إلى مسخ يقلّد الانسان ليضحكه في السيرك!، فما بالك لو كان
الإنسان هو الذي يقلّد القرد، لمجرد أن القرد هو الأكثر قابلية لدى الأكثرية!!
ومن هنا أريدك ـ يا بني ـ أن تعلم أن..
· الطاعة فهم واختيار..
ولاية الأب على أبنائه هي ولاية إرشاد إلى
استخدام فطرهم، مع محاولة تعريفهم بما في الأمور والحوادث من قبح أو حسن، ليس على
طريقة " أنا أعتقد صحة ما أقوله لك، فلا بد أن تأتمر بأمري فيه"، بل عبر
مطالبة الابن بالطاعة عن فهم واختيار.
ولذلك، فإن معارضة الأبناء لبعض ما يقرره
الآباء ليست دائمًا لونًا من ألوان سوء الأدب أو عدم الطاعة، بل على العكس هي في
أكثر الأحوال تعبّر عن استقلالية شخصية الابن، وهذه ميزة تحفظه بإذن الله من
الانسياق العاطفي وراء أي أحد.
وهذه الاستقلالية هي
ما أكّد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يكن أحدكم إمعة يقول
إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسنوا وإن أساءوا ألا
تظلموا "([1])
نعم..
قد يغضبك أن تسمع كلمة "لا" من ولدك، لكن متى تعتبر "لا"
من الابن خطأ ؟ ومتى نعتبرها سلوكًا مقبولًا ؟ بل ومطلوبًا في بعض الأحيان؟.
إن أكثر الأبناء لا
يعارضون طاعة الوالدين، وإنما هم يحبون أن يفهموا كما يحبون أن يطيعوا ، وهذا حقهم
وواجبهم في ذات الوقت.
إن لأبنائنا عقولًا ينبغى أن نحترمها، ومهما
كان عمر الابن فهو يدرك ويفهم في حدود ملكاته المعرفيه، فابن الحادية عشرة يستطيع
أن يناقش بعض القضايا الاجتماعية، وأن يقترح بعض الحلول لبعض المشكلات اليومية إذا
تلقى شيئًا من التدريب على التفكير ورصد المغالطات المنطقية.
إن أبناءنا يتمتعون بمرونة ذهنية تماثل
مرونتهم الحركية، بينما يصيبنا نحن تصلبًا فكريًا يحاكى تصلبنا الحركي بتقدم السن،
وهذا التصلب الفكري قد يدفعنا إلى رفض كل جديد صالحًا كان أو طالحًا!، ولا ينقذنا
من هذا الرفض للصالح إلا أن نوفّر لأبنائنا مناخًا تربويًا يسمح بالنقد، ويعطيهم
حرية التعبير وإبداء اعتراضاتهم – إن وجدت - وطرح أسئلتهم واستفساراتهم، مع
استعداد من ناحيتنا كآباء لرؤية كثير من الأشياء من وجهة نظر الأبناء، والتأكيد
لهم بالفعل قبل القول أن وجهة نظرهم قد تكون صائبة، بل ومبدعة.
فإذا شرد منك ابنٌ إلى اختيارات بعيدة عن
الصواب، فلا تدعه يبتعد عنك حتى يغيب عن نظرة المتابعة، وكلمة الدعم، وحوار
التوجيه.. ونصيحتي لك..
· لا تدع الشاردة حتى تغيب..
الكثير من الأبناء لا
يستجيبون لما يطلبه الآباء منهم، بل إن بعضهم يرفض ويتزمر ويصر على عدم الطاعة، ولا
يقوم بما هو مطلوب منه إلا بعد الإلحاح الكثير، أو ربما لايقوم به أبدًا!
فهل نترك لأبنائنا الحبل على الغارب؟! ..
لم يقل ذلك أحد، بل لا بد من النظام والطاعة
في بناء الفرد الصالح والأسرة الناجحة، ولكن لا ينبغي أن نعتبر الطاعة غاية في حد
ذاتها، لأن خضوع الابن الخالص لسيطرة الآباء قد يكون موقفًا ضارًا به في مستقبل
حياته، فقد تنحط الطاعة حتى تصبح خنوعًا، أو رغبة في السير وفقًا لرغبات أى شخص
قوي الإرادة.
إن الكثيرين من المربين يتعاملون مع أبنائهم، وكأن هؤلاء الابناء من
ممتلكاتهم الشخصية، أو كأنهم بلا كيان؛ فيفقد الابناء تقديرهم لذواتهم، ولا يحسنون
اتخاذ القرارات المناسبة في حياتهم.
إن دور الأب والأم ليس هو التفكير بدلًا من
أبنائهما و إلغاء عقولهم تحت دعوى " أنا أكبر منك، ولذا أنا أفهم منك "
.. هكذا وكأننا نقول: لا تفكر، دورك فقط أن تتبعنى! بينما دورنا كآباء ومربين هو
مساعدتهم على التفكير الصحيح.
إن مؤسساتنا التربوية تقوم بتربية أبنائنا
على ما تراه دون ما يرونه، وتبارك استظهارهم لما تلقيه عليهم من قشور العلم، وتمتدح
أن يسيروا على ما ترسمه لهم من خطط الحياة وإن كانت مما لا يناسب حياتهم.
وهذا الواقع التربوي يجرى بأبنائنا في بحر لجي
من الفساد جري السفن مدت شرعها؛ ولا بد أن يدفعنا ذلك إلى طلب مرساة نوقف بها
جريانها، ولا سبيل لذلك إلا أن نلتمس ذلك في التربية البيتية، تلك التربية التي
يناط بها القيام بمهمة تربية الابناء على..
· تعشّق الحرية..
التربية الإسلامية الصحيحة هي التي أنجبت في
عصور التطبيق الإسلامي أفرادًا تثور ثائرتهم على الولاة المقربين، إذا هتكوا حرية
أحد الرعية الذميين، ويعلو صوت الحرية على ألسنتهم: "متى استعبدتم الناس وقد
ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، بينما تعمل سياطهم تأديبًا لمن تجاوزوا هذه الحريات".
ذلك أن الإنسان لا يُحِسُّ بإنسانيته ويتمتع
بكرامته في حياته وممارساته ومواقفه إلا أن يشعر بالحرية المطلقة من إرادة أي
مخلوق في اختياره.
ولذلك، رأينا النبي ﷺ يترك عدوه في المسجد- وقد ربطه الذين أسروه لا النبي ﷺ
تركه ليعطيه فرصة لرؤية الدين والإسلام متمثلا في مجتمع المسلمين، لا ليدخله فيه
بلا حرية واختيار، فقد أَسَرَ فريقٌ من الصحابة الكرام "ثمامةَ بن أثال، سيد
أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله ﷺ ، فقال: «ماذا
عندك يا ثمامة؟» فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تُنعم تنعم على
شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله ﷺ حتى كان بعد
الغد"...
وكرر عليه ذلك ثلاثة أيام؛ يعرض عليها الكرامة عرضاً ولا يفرضها فرضاً، ثم
في اليوم الثالث، قال لأصحابه: "أطلقوا ثمامة"، فانطلق إلى نخل قريب من
المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا
عبده ورسوله، يا محمد، والله، ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح
وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب
الدين كله إلي، والله، ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد
كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله ﷺ وأمره
أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوتَ، فقال: لا، ولكني أسلمت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ولا والله، لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول
الله ﷺ "[صحيح مسلم وغيره].
فأخذ الإسلام عن اقتناع واختيار لا عن فرض وإجبار[2]؛
بل ذهب بعد ذلك يحمل الفكرة عن صاحبها ويحامي عليها دونه ويخاطر بنفسه من أجلها..
فلو كانت فُرضِت عليه فرضًا لكان قد وجد لحظة التَّفَلَّت منها، ولكنه قال :
"أسلمت مَعَ محمد"، ولم يقل حتى: "أسلمت أو استسلمت لـمحمد".
وهكذا .. حين أعطيّ
ثمامة حرية الاختيار؛ اختار الحرية وأسلم مع النبي ﷺ لله رب العالمين..
إن من الواجبات
التربوية الملحة تعميق الاستقلالية التي تبعث الأبناء إلى العمل الصالح بسائق
الحب، وليس الخوف، وإشعار الأبناء ملكية أنفسهم وانفكاكهم من أدنى رِق؛ فتصدر أعمالهم وآراؤهم عن اختيار وعلم لا عن اضطرار
وتقليد.
إن على الآباء والمربّين أن يقوموا بتنمية
"تعشق الحرية " في نفوس أبنائهم، بل ونصرة هذه الحرية والغيرة عليها
والدفاع عنها إذا انتهكت كالغيرة على الأعراض والحرمات، والتأكيد على أن من الحكمة
أن نستغني أحيانًا عن بعض ما فيه راحتنا لننال به حريتنا، ذلك أن الإنسان حين يفقد
حريته، فإنه يفقد معها ذاته، ويتحول إلى شخص أقرب إلى الجنون، لأنه يخاف الوهم،
وتحكمه الخرافة.
إننا حين نضع بذرة " الحريّة
" في قلوب أبنائنا نكون قد قضينا على
أصل الشقاء المتجدد في حياتنا، ولمسنا جذور الشجرة اللعينة التي لم تزل في حياتنا
تؤتي أكلها المرّ .. قهر الحاكم للمحكوم، وخوف المحكوم من الحاكم، وغدر بعضنا ببعض
وتسلط بعضنا على بعض..
والآن أخي المربي
..
لا تقل لي إن الاستبداد "يضطرني"
إلى الكذب والنفاق.
لا تقل لي إن الخوف "يدعوني" إلى تربية أبنائي
بطريقة تجعلهم أعوان المستبد.
لا
تقل لي إن الهوان " يأمرنى " أن أكون أنا وأبنائي طوع أمر المستبد
وزيادة في مملكته.
اجعل تصرفاتك خاضعة لدينك وقيمك، و لا تكن
عبدًا إلا لله.
قم بتربية أبنائك على تعشق الحرية، ليمزقوا
غيوب الأوهام التي تمطر بالمخاوف.
واعلم أن هذه الطريقة في التربية هي الجهاد
الذى يجب أن تقوم به قى هذا الزمن الصعب.
وكن على يقين أنك حين تعطي أبناءك "حرية
الاختيار" ؛ فإنهم يقدمون بكل قوة على "اختيار الحرية ".
إضافة تعليق