تاقت نفسي
إلى مخاطبتك، فأصابتني الحيرة من أي الطرق أسير إليك..
هذه الكلمات
ـ فيما أحسب ـ خبرات تعلمتها من المواقف ومن الناس بعد السير في طريق الحياة لعمر
جاوز الستين عامًا..
ليس لي عليك
من مأخذ أو لوم، بل أنا فخور بك وبما أنت عليه من حياة نظيفة طيبة..
أنا أعلم أن
لك عقلك وأفكارك، ولك رؤاك وأحلامك.. ولكني أعلم أيضًا أنك لم تدخل تجربة الحياة
بعد، فأنا هنا أحاول من خلال الكلمات أن أصوغ لك من تجربتي ملابس واقية من حر
الحياة وصقيعها..
لي هنا حرية
الكتابة إليك، ولكن ليس لي تجاوز حريتك..
لي حرية
اختيار الطريق التي أسير فيها، دون اعتراض مسيرتك التي اخترتها لنفسك..
فتعالى يا
بُنيّ.. أنا وأنت، لنسير في الطريق إلى الله، فتشهد لنا خطواتنا شهادة غير مجروحة
أننا حاولنا معرفة الطريق إليه، وتزكي شهادتها أقدامنا التي سارت إلى مرضاته..
فإذا رحلتُ
أنا عن هذه الدنيا إلى لقاء ربي ووجدتَ أنت في رسائلي إليك وما خطت يداي ما يحمل
لك ضوءًا ولو خافتًا ينير الله به دربك؛ فتأمل في حروف الكلمات كيف صعد أبوك سلم
الحياة حتى وقف على الدرجة الخامسة والستين في سلم الحياة؛ ثم اجمع إلى تأملاتك في
الكلمات وعياً بواقع حياتك لتكتب بنفسك رسائل أنفع وتسلمها إلى ابنك.!
بُني الحبيب..[i]
اقْتَرب منّي أكثر، فقد كبُرت،
وكبُرت معي أفكاري، وبينما تكبر أفكاري، تكبر معها مخاوفي عليك.. مخاوفي الآن ليست
كالمخاوف التي كنت أعانيها في طفولتك، بل أكبر منها بكثير، لأنها مخاوف مواجهتك
للحياة والاشتباك مع أحداثها ومواقفها..
بُنيّ الحبيب..
أنت اليوم تضع أقدامك على
أول طريق الحياة، فاجعل كلماتي صدى مستقبلك، لأن هذه الكلمات هي تجربة الماضي، وهي
تجربة أقرب الناس إليك وأصدقهم معك، وأكثرهم حبًا لك وخوفًا عليك، فمن تُصدق إن
أنت لم تصدقه، وإلى من تلجأ بحثًا عن صدق المشاعر والعواطف بعيدًا عن قلبه؟!
هذا أبوك قد واجه في مثل سنك
ما تواجهه، يكتب إليك وقد عركته التجارب فشاهد حتى ملأه العجب: كم من سفينة لم تحطمها ريح، أو يكسرها موج، وإنما
أغرقها أصحابها حين خرقوا ألواحها بأنفسهم..
بُنيّ الحبيب..
ليست هذه الكلمات وثيقة من
ترف الكلام، ولكنها من حشاشة نفسي تمشي إليك في وَلَه أم الفطيم على صغيرها، تحكي
لك رحلة حياه في قصاصات من ورق..
أحاول أن أستعيد الذكريات
الجميلة، يوم كنت شابًا صغيرًا أجلس أمام أبي باحثًا عن المعرفة، عن التجربة
الناضجة، عن الدروس التي لم تنقشع غيومها عن سماء الإنسان عبر الزمن المديد.!
أحاول أن أسترجع سنين عمري وحوادثها؛ وأشعر أن
ذاكرتي قد شاخت، ولكني أحاول أن أسندها بعصا المحاولة لتمشي ولو خطوات على درب
الماضي تستلهم منه دروسه..
وحين أكتب لك هذه
الدروس يرتعش ذهني كما يرتعش القلم في يدي، ولكن ماذا أفعل؟.. إنه حق السنين التي
عشناها مواقف وأحداث وتجارب، فرجعت إلى عقولنا يقظة وخبرة ووعياً؛ فكل خفقة من
خفقات الحاضر هي شجرة تهب عليها رياح الماضي حاملة لنا من أخباره، فإذا أصغينا إليها
عرفنا طريق المستقبل لأن الإنسان لا يسير في رحلة الحاضر والمستقبل إلا متكئاً علي
أكتاف الماضي..
أنا أقف الآن علي مشارف
الخامسة و الستين ، وأنا أؤمن أن الرشد ليس رأساً أشعله الشيب، بل الرشد في أن يتحرر الإنسان من هواه ليكون
عبداً لله اختياراً كما هو عبد له سبحانه اضطراراً ؛ فيحيا في سعيّ دائم أن يكون
في كل يوم نسخة أفضل من نفسه.
بُنيّ الحبيب..
أحاول أنا اليوم أن تصل كلماتي إلى جدار وعيك، ليرجع
إليّ صداها مطمئنة لي على قيم تمنيت أن تترسخ في وعيك، مثلما فعل أبي ـ يرحمه الله
ـ فقد شعرت في كلماته لي أنه كان يحاول بكل حب أن يلصق بحائط وعيّ أوراقه التي خط
فيها أفكاره وقيمه وتصوراته وأخلاقه..
سأحاول أن أستدعي الذكريات
وأنزلها في ضيافتي حتى أستقصي ما لديها من أخبار قد غابت عن ذهني.. سأحاول أن
أستقصيها بألوان الأمس، ومظاهر اليوم، ثم أدعها تقابلك لتعرفك بنفسها، وتلقي عليك
دروسها لـ "تعلم" حكمة الماضي، و"تعيّ" حقيقة الحاضر، فـ
"تسعى" راشدًا في المستقبل.
بُنيّ الحبيب..
إني أرى نفسي فيك، وأراك تسير في درب سلكته ومررت على
ثغراته، ومنّ الله عليّ بمعرفة كثير من مسالكه ومنعطفاته..
لن أطلب منك أن تكون أسير فهمي ومسلكي، لن أزعم لك
أني أحتكر الـفـهـم الصحيح وحدي..
لكني أدعوك دعوة هادئة إلى تدبر كتاب الله عز وجل
الذي أنزل ليمنحنا الـحـيـاة {يَـا أَيُّـهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا
لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].. فإن فعلتَ؛
رأيتَ حقيقة الحياة، وعلمت كيف السعادة فيها لأنك حينئذ تسير وفق الأمانة التي
حملتها معك إلى الأرض، والتي لا سبيل للأمان داخل الإنسان وخارجه إلا بإدراكها.
بُنيّ الحبيب ..
يرى بعض الآباء في ابنه
تلميذًا جاهلًا مشاغبًا أمام معلم قد علمته مدرسة الحياة.. أو يراه قزمًا يقف أمام
عملاق صنعته الأيام والحوادث.. !!
أمّا أنا فأنظر
إلى صورتك في المرآة التي أرى بها وجهي.. وأثق بك، وآمل أن تدرك أن نصائحي
لا تلغي جهدك، ولا تتهم عقلك، ولكني فقط أحاورك، لأن في تحاوري معك سعادتي..
حواري معك بلا قيد.. حوار طليق آمل أن يطلق وعيك
بالحياة وبالناس.. وأن نصحح به معًا مسارنا ونخوض به معًا معركة حياتنا..
فتعالى يا حبيبي لنبدأ رحلة الحوار، ونمشي سويًا في دروبه لنوسعها يومًا
بعد يوم، فإذا اتسعت دروب حواراتنا، فاسلك يدك في جيب تجربتي، وخذ منها ما تجده من
الخير.. وأمّا ما تراه عديم الفعالية، فاتركه..
أنا أعلم أن كلمات جيلنا
تصارع كلمات جيلكم، وأن نظرة جيلنا ربما تختلف عن نظرة جيلكم؛ فينظر جيلنا إلى
الماضي وكأنه يخاف من بندقية صياد تبحث عن فريسة.. وينظر جيلكم إلى الأمام
متأرجحًا بين الأمل واليأس، وبين الرضا والغضب..
هذه التصورات لن تكون غائبة
في حواراتنا ولن أتجاهلها وأنا أكتب لك رسائلي، بل إنني ما سرت قدمًا في هذه
الرسائل إلا من خلال حواراتي معك..
نعم ..
إذا لم نتحاور
معاً، لن نصل إلي " الوعيّ " الذي ينظف عقولنا من أدران الجهل، وينقي
قلوبنا من أشواك القلق والقطيعة ..
وإذا لم
تتلاقح أفكارنا؛ سيطول شقاؤنا في الحياة دون الوصول إلي أحلامنا ..
بُنيّ الحبيب..
في تجربة حياة تزيد عن الستين عاماً، لازمتني أحلامي
يقظان ونائمًا، وكنت دائم السير بالقليل الذي أستطيعه، فجبر ربي عجزي فضلًا منه
ورحمة؛ فالتقيت أكثر أحلامي والحمد لله ذي المنّة.
أشعر الآن خليطًا من المشاعر التي ربما لا أقوي على
احتمالها لو استعدت اجترار حوادث الأيام بتداخلاتها وأهلها وظروفها..
.. ولكني في كل ما أستطيع أن أستحضره أرى كم
في أقدار الله من حِكَم، لا تدركها أفهامنا القاصرة نحن البشر..
بُنيّ الحبيب..
تسافر الحياة بنا إلى المكان
الذي لا بد أن نزوره مدفوعين برغبات الحياة التي تغلق عيوننا عن المصير المحتوم؛
فنشعر بالضيق ممن يحاول فتح أجفاننا على ما يوجعنا في معركة الحياة.. بل إننا
أحياننا نرى أن سبب آلامنا هو وعينا، وأن ما فينا من آلام ومعاناة هي أشياء دخلت
إلى أنفسنا من خلال عيوننا المبصرة.!!
بُنيّ الحبيب..
حين ينظر المتفائلون إلى نصف
الكوب المليء، وينظر المتشائمون إلى نصف الكوب الفارغ، فكّر أنت في طريق لتملأ
النصف الفارغ؟!
ليس في الدنيا شر محض.. فـ "البؤس"
آخره سين، صالحة لبدء "سعادة".. و"الأمل" أوسطه ميم، لتكون
نهاية "الألم"..
قل لنفسك: لا أستطيع أن أغير
ما كان في الماضي..
أنا "الآن"...
وهذا ما أحتاجه
فإن سأَلَتْك نفسك عن
المستقبل؟
فقل لها: أنا لا أعلم ما هو
قادم، ولكني أعلم أن عليّ التخطيط له..
وحاول أن تسعي لتحقيق ما تريد
في المستقبل..
وأنت في نفس الوقت تحب ما
لديّك في الحاضر..
بُنيّ الحبيب..
لن تقدر على صنع مستقبل مشرق إلا أن تعيد إنتاج
الحاضر المظلم، وأن يبقى أملك في نفسك قويًا مهما كان الحاضر سيئًا، فإذا انغلق
أحد الطرق الموصلة إلى الأمل، فإن طرقًا أخرى تنفتح ليراها كل ذي لُب فيدرك ما
يمكن عمله للخروج من واقع اليأس المظلم في بطن الحوت إلى شجرة اليقطين المثمر ونور
الحق.. {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ
وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)}
[الصافات: 145- 146].
نصيحتي لك: لا تضيّق مساحة
الأمل في حياتك حتى لا تسقط في جوف اليأس.. واحذر أن يخلخل الضيق سكينتك؛ فيبعدك
عن النفس المطمئنة الراضية.. و أبشر بالخير كله، وابحث في سجل السعادة عن اسمك
وأنت على يقين أنك ستجده بفضل الله صاحب العطاء غير الممنون.
بُنيّ الحبيب..
إنك تتراءى لي في المستقبل
واقفًا وسط دائرة واسعة تلتقي فيها السبل عندك، ذلك أنك لم تقبل بالقيود؛ فكان كل
شيء عنك ومنك اختياريّ.
وهنا يتراجع بصري إليّ كلما
مددته في اتجاه سمائك الفكرية؛ فأستيقظ على طرقات مهذبة من يد فكرك على عقلي،
تسألني أن أطمئنك على صحة قلبي، وأنا أؤكد لك أن قلبي بخير..
أتدري لماذا أجد قلبي بخير؟
لأنني بحثت في سويدائه
فوجدتك بداخله..
بُنيّ الحبيب..
أنا أحب
أن آخذ من نفسي على نفسي شاهدًا بأني إنسان، وأحب أن أجادل ذاتي وتجادلني في عتاب
لا تمله أوراقي، ولا تسكته خواطري حتى تغادر روحي جسدي..
ربما رأيتَ بعض ذكرياتي لا
لون لها..!
ربما وجدت خواطري صورًا
لحوادث ذبلت بفعل الزمن..
ربما وجدتَ حكمة أيامي تشارف
الموت؟!
ولكن كلي أمل أن تبصر من
خلال رسائلي إليك ملامح طريق الحياة؛ فيتعمق وعيك بها، وتسير فيها على نور من ربك
ليكون لك منها الحياة الطيبة {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]
بُنيّ الحبيب..
كثيرًا ما يحملنا سوء التقدير إلى متاهات بعيدة عن
الصواب، فلا ندرك الخطأ إلا بعد فوات الأوان..!!
عندها، وعندها فقط، يعود بنا الندم إلى الرشد والوعي
ّ، وما أشد ألم العودة إلى الطريق الذي تركناه.!!
ربما تمنينا عندها أن نكسر تلك الساق التي أخذتنا إلى
طريق ليس بها إلا السراب الخادع.!!
آلمتني جراح السنين؛ فطويتها لك في رسائل تحمل ومضات
تنير طريق الحياة؛ فتأملها واعلم أن ومضة واحدة من عقل مدرك قد يقرأ بها الإنسان
سطرًا من كتاب الحياة يرشّد سيره فيها، ويعافيه من ألم التيه..
فإذا
رأيت يومًا نزف الجراح من الورق؛ فادعُ لي: رب اغفر لأبي..
إضافة تعليق