يحفر الأعداء فخ الاستعباد بمكر الثعلب، وتلوّن الحرباء؛ فيعلنون أن هدفهم تغيير الحدود السياسية، بينما الهدف تغيير الإنسان..
يحفر الأعداء فخ الاستعباد بمكر الثعلب، وتلوّن الحرباء؛
فيعلنون أن هدفهم تغيير الحدود السياسية، بينما الهدف تغيير الإنسان.. ويشيعون
أنهم يريدون بضعة أميال هنا أو هناك، وليس هدفهم الحقيقي إلا بضعة سنتيمترات في
عقل الإنسان.. وتأتي الأخبار أنهم يسعون لتغيير نظام هنا أو تثبيت آخر هناك، وهم
لا يريدون إلا نظام حياة الإنسان.. ويظهرون أنهم
يريدون إخضاع الدول والبلدان، وهم
يريدون ألا يخضع أحد لحدود الله !!
إنهم يعرضون صور محاولة اغتيال فلان أو فلان، بينما قناصهم
يصوّب سلاحه نحوي ونحوك.. فهم لا يريدوننا أحياء أو أموات، بل يريدوننا أحياء
بأفكار ميتة.!.. وصواريخهم تدّك ما أنشأنا من مباني، لكن عيونهم على ما نشأنا عليه
من قيّم.. ليس قصدهم البنية التحتية، إنما يريدون بنيتنا نحن.. !!
وهكذا.. تحول واقع الصراع مع عدونا إلى ما يشبه مياه المحيط التي
كلما تعمق الإنسان فيها؛ ازدادت ظلاماً، وازداد ضغطها على جسمه وعقله، حتى يفقد ـ
ولو للحظات ـ قدرته على فهم ما يحدث أو حتى تفهمه.!
ولذلك فقد مست الحاجة إلى نوع من الفكر يمتلك القدرة على
التحليل والتقويم، ونوع من العلم النافع الذي يمكننا من خوض معركة الحياة أو الموت
مع من يمارسون على الأمة مكر الليل والنهار..
• حتى تتَّبع
ملتهم
تضع عصابات الأعداء خطتها على أن الحراس قليلون أو نائمون، وأن المنافذ
سهلة لا وعرة، وأن الاستيلاء على الغنائم لن يكلف جهداً يذكر؛ فتقوم بعملها لا
يخامرها قلق في أنها تعود من مغامرتها راضية بما نالت.!
هذه حقيقة لا بد أن تدفعنا إلى تذكر ما حدث حين "كان في المدينة فزع،
فركب النبي(ص) ثم خرج يركض وحده، فركب الناس يركضون خلفه، فاستقبلهم وهو يقول لهم:
لم تراعوا.. لم تراعوا".. فالفزع هنا، اقتضى السرعة والخروج للاستبراء للناس..
وكذلك الغارة الثقافية، والفزع الثقافي، تستوجب على أهل العلم أن يكونوا أولى
الناس بالخروج إليها مسرعين راكضين حتى يعودوا للناس بحقيقة الخبر.. ذلك أن الغزو
الثقافي يترك وراءه من الخسائر في
الأرواح، وفقدان كل غال ورخيص، أكثر مما يتركه أي غازٍ فاتح. بل إن أثر الغزو
الثقافي أبقى على مر الزمن.!"(1)
لقد أدرك عدونا أن الحرب العسكرية ليست ذات جدوى حقيقية في حل المعضلة
الإسلامية، و أنه لا بد من تقديم حلول جديدة تستبصر طريقها عبر المعطيات الجديدة التي
أوجدتها الحروب على الأرض؛ فأخذوا يكّيف خططه وفقاً لمستجدات الواقع، ويحاول
جاهداً تحقيق أهدافه من خلال خريطة نفسية لنا "وهي خريطة تجري عليها
التعديلات الضرورية في كل يوم، يقوم بها رجال متخصصون مكلفون برصد الأفكار..
يرسمون خططهم النظرية، ويعطون توجيهاتهم العملية على ضوء معرفة دقيقة لنفسية من
يواجهونهم، معرفة تسوغ لهم تحديد العمل المناسب لمواجهة الوعي حسب مختلف مستوياته
وطبقاته..."(2)
ولذلك.. فقد انتقلوا من استخدام "لقاح ضد الدين" يهدهد التدين حتى
ينام، ليخوضوا المعركة الفكرية الفاصلة لاقتلاع الدين.. وهذه هي الحكمة التي يجب
أن نتعلمها من خلال تأمل ثلاث كلمات {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة 120].. ثم
مراقبة كيف يحاول أعداؤنا الوصول إلى أهدافهم من خلال..
• خيوط
العنكبوت
يتلاحق عمل أعدائنا بطريقة خفية لا يمكننا معها ادراكه؛ لأن لنا "أوضاعاً
عقلية تحول بيننا وبين أن نتتبع اللعب حين لا يكون مرئياً أو واضحاً، وحين تكون
الوسائل المستخدمة في قدر حبات الرمل.. مع أن حبة رمل واحدة كافية أحياناً لإيقاف
محرك، إذا ما تسربت إلى أحد أجهزته.. وبعبارة أخرى: قد تكفي لذعة إبرة في مكان
مناسب ليحل الشلل بشبكة علاقات المجتمع.. كما يكفي "لا شيء" لشل الجهاز
العصبي في كائن حي أحياناً"(3)
خذ مثالاً..
يريد أعداؤنا ـ مثلاً ـ تعطيل مشروع ما في إدارة معينة؛ فماذا يفعلون؟..
الأمر لديهم في غاية السهولة.. موظف صغير يتغيب في اليوم نفسه، وهنا يتوقف التنفيذ..
فإذا سأل أحدنا: لماذا توقف التنفيذ؟.. أتته الإجابة: لأن الموظف المكلف بعمل كذا،
غائب !!.. فإذا قال أحدنا: ولكن الموظف بإحدى الإدارات إذا غاب أو مات، فإن
الوظيفة تستمر..؟!.. عندئذ، يرى من قال هذه الكلمات علامات الاستغراب ترتسم على
وجه من يحدثهم، لأن هؤلاء يجهلون أن هذا الموظف الصغير يمكن أن يؤدي بمهارة دور
حبة الرمل التي توقف آلة بأكملها عن الدوران !!
ولذلك "لا بد أن نخشى عدونا
حين يستعمل حبة الرمل أكثر مما نخشاه حين يستعمل القنبلة الذرية. لأن عمله حينئذ
يفلت تماماً من إطار مراقبتنا، و يصبح صامتاً، وخافتاً، وغامضاً.. وحينئذ تكون
نتائجه أكبر"(4) حيث يُحفر الفخ شيئاً فشيئاً ؛ ومن ثم يسهل سقوطنا
فيه !!!
إن المشكلة التي نواجهها أننا لا نكترث بهذه الألاعيب، لدرجة أنها لا تثير
اهتمامنا، على حين تشغل آثارها في خسائرنا الاجتماعية اليومية جانباً كبيراً.. كما
أننا – بكل أسف – لا نستطيع أن نفهم عمل أعدائنا، إلا حينما يثير ضجيجاً، كضجيج
الدبابة والمدفع و الطائرة.. أمّا حين يكون من عمل القوارض، أو بتأثير حبات
الرمال، فإنه يغيب عن وعينا"(5)
إن نظرتنا لعمل الأعداء تقوم ـ بكل أسف ـ على تقدير نتائج "الأسباب
الكبرى"، والانتقاص من نتائج "الأسباب الصغرى"، بل وربما إهمالها..
بينما الحقيقة أن الإنزلاق بقشرة موزة وُضعت بمهارة تحت رِجل إنسان قد تكون في
غاية الخطورة.. وهذا ما تشهد به تجاربنا الخاصة وخبرات حياتنا؟!
إن "خيوط العنكبوت" تقدم في كل لحظة الدليل القاسي على وجودها،
لكل أولئك الذين لا يريدون رؤية هذا الدليل، أو يستشعرون صعوبة في رؤية خيوط
العنكبوت حين تأتي من بعيد؛ لأنهم يعيشون حالة من توقف العقل عن التفكير وعزلة عن
الحياة بـ..
• النفس
المغلولة..
حين ندرس الخلفية النفسية لمجتمع بني إسرائيل المعاصر من خلال التأمل
الهادىء، والرجوع إلى أحداث التاريخ قديمه وحديثه.. فماذا نجد فيها؟
لقد نجح بنو إسرائيل في عبور البحر تحت مظلة المعجزة، ولكن لا فائدة من جيل
مريض نشأ في العبودية وتركت السياط في ظهره أنفاقاً؛ فأمام "المن والسلوى"
كان لعابهم يسيل لمذاق الثوم والبصل؛ فيقولون لموسى عليه السلام: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا
وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة 61].. وهو
دليل على الذل والهوان الذى مازالوا فيه، و"البنية النفسية المفككة والجبلة
الهابطة المتداعية" التي لا تريد أن ترتفع إلى الغاية السامية، فقد رفضوا أن
يدفعوا ثمن الحرية، وتكاليف العزة، ولو بتغيير مألوفات حياتهم الرتيبة في الطعام
والشراب".!(6).. ومع تظليل الغمام في هجير الصحراء، طلبوا أن يروا
الله جهرة. و عند المرور على قوم يعكفون على أصنام لهم، قفزت مجموعة لتقترح على
موسى أن يجعل لهم "إلهاً كما لهم آلهة".. وما يكاد موسى يتركهم في رعاية
هارون ويبعد عنهم قليلا حتى تتخلخل عقيدتهم كلها وتنهار أمام أول اختبار، فيعبدون
عجلاً جسداً له خوار "فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي"..!!
"إنهم قوم فسدت طباعهم كما فسدت عقولهم، لا يرعون عهداً ولا ذمة، ولا
يحفظون فضلاً أو نعمة.. لقد رفض أكثرهم تعاليم الله، وما شرع لهم في التوراة
قائلين: إنا لا نستطيع صبراً على ذلك فرفع الله جبل الطور فوق رؤوسهم "وإذ
نتقنا الجبل فوقهم" أى رفعناه.. والقصة كما يرويها ابن كثير عن ابن عباس قال:
ثم سار موسى بهم إلى الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، وأمرهم
بالذي أمر الله أن يبلغهم إياه من الوظائف، فثقلت عليهم وأبوا أن يقروا بها حتى
نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة، وأيقنوا أنه مهلكهم إن لم يأخذوا ما آتاهم."(7)..
و لكن لا فائدة للمعجزات مع عبيد ضمرت أجهزتهم النفسية، وتحولوا إلى أقزام أمام
مهمات العمالقة.
إن التاريخ يكشف لنا أن اليهود يشكلون نذر ظلام في خضم اندفاع التاريخ، وأن
"عقدة الانفصال عن البشر، والإمتياز على أمم العالم اتخذت طريقها إلى النفسية
الإسرائيلية، وأصبحت عاملاً أساسياً في تكوين شخصية هذه الطائفة من الناس منذ القدم،
عن طريق الأنساب والأعراق، وعن طريق الذكريات الدينية والسياسية التى تضخمت وغلظت
مع الزمن"(8)
لقد ابتكر اليهود ديناَ "يغذي الاعتقاد بأنهم شعب متفوق اختاره الله على
مَنْ سواهم من الشعوب و فضلهم على الشعوب الأخرى ومنحهم حقاً مقدساً ليحكموا
العالم مع التزام مقدس بالمحافظة على نقاء ثقافتهم وجيناتهم..!!(9) بل
إننا نجد قولاً مأثوراً ردده التلمود أكثر من مرة، هو : "كما أن العالم لا
يمكن أن يعيش بلا هواء، فإنه لا يمكن أن يعيش بدون إسرائيل"..!!
وهذا القول وحده كاف لوضع علامات على حدود الشخصية الإسرائيلية، إذ يمكن
بسهولة أن نستنتج منه النزعة العنصرية التى تجعل الإسرائيلي يشعر أنه من جوهر غير
طينة البشر جميعاً، وأن هذا الجوهر متفرد بأسرار ومواهب لا توجد في غيره، وأن
الإسرائيلي قد خُلق كذلك بتدبير سماوي، لأن الدنيا التى أبدعها الله سبحانه وتعالى
ما كان يمكن أن يستقيم أمرها من غير اليهود !!"(10)
هذه هي الشخصية اليهودية.. وتلك هي النفس المغلولة التي تقف من وراء
سلوكيات اليهود في كل زمان، وفي هذا الزمان..
إنهم اليهود.. أصحاب النفس المغلولة.. عبدة الدولار، وتجّار أسلحة الخراب
والدمار، الذين يشيعون الفتن الفكرية و الأخلاقية والسياسية في المجتمع البشري
زاعمين أنهم قوامون علي الحضارة الإنسانية وشعب الله المختار، وهم في حقيقتهم شعب
المؤامرة المختار، بينما..
• شعب الله المختار..
"إن شعب الله المختار في كل عصر هم المؤمنون بالله الذين يرفضون
بإيمانهم عبادة الإنسان للإنسان.. إنهم أصحاب الإيمان الشجاع المقدام، المتمرد على
الكفر والظلم"(11).. من خلال اكتساب الوعي بالواقع حتى لا يكون
تحركهم في صورة "تيار عاطفي ضخم مؤمن بالإسلام ومبادئه، ولكنه قليل الخبرة،
ضحل المعرفة بتفصيلات واقعة، يفتقد الخبرة والصبر ليكتشف مناهج التغيير وطرائقه، و
يتعجل قطف الثمار، ولا يحسن فن ترقب الفرص..!!"(12)
ولا شك أن هذا يقتضي "كثيراً من اليقظة والتنبه للتيارات الفكرية،
وللسمات الموحية بشكل هذا العالم التي تتمخض عنه الأيام.. ومحاولة اختيار دورهم"(13)
من خلال فهم ما يجري حولهم، وامتلاك القدرة علي التوقع للمستقبل، ورؤية الحقيقة
كما هي دون أي مغالطة أو تغليف يجردها من مضمونها الواقعي، واليقين بأن كسب معركة
الحياة والموت لا بد فيها من مراجعة ما جرّته قلة الوعي واتباع الهوى، وأحادية
النظرة..
وأولئك المؤمنون، بهذه الصفات، هم القادرون ـ بإذن الله علي هدم بيت العنكبوت وبناء الحياة على الأسس التي شكلت بداية أمتنا.. هذه البداية التي قامت على قواعد الحرية والعدل والإحسان، وإنزال القيم مناط التطبيق، وحمل المبادئ فوق الأشخاص، وزرع نبتة الأخوة الحقيقية.. التي تقهر بخيوط علاقاتها الإجتماعية، الاستبداد والتسلط الذي يمسك المستعبَدين من خلال خيوط الخوف الرفيعة كخيوط بيت العنكبوت، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت، لو كانوا يعلمون..!!
الهوامش
(1) حتى يغيروا ما بأنفسهم – جودت سعيد ـ ص 115.
(2) الصراع الفكري في البلاد المستعمرة
ـ مالك بن نبي ـ ص 15 ـ 17 بتصرف يسير.
(3) ميلاد مجتمع – مالك بن نبي
– ص 84 بتصرف يسير.
(4) من أجل التغيير – مالك بن نبي
– ص 109، 110 بتصرف يسير.
(5) ميلاد مجتمع – مالك بن نبي
– ص 85 ـ 87 بتصرف يسير.
(6) في ظلال القرآن ـ سيد قطب ـ ج 1 ص 74 باختصار.
(7) بنو إسرائيل في القرآن الكريم – د. محمد عبد السلام أبو النيل ـ ص 37.
(8) الشخصية الإسرائيلية – د. حسن ظاظا ـ ص 35.
(9) قرأت كتاباً عنوانه " جغرافية الفكر
" لاثنين من أنصار اليهود " نتانيال ويل " و " ستيفن بوسوني
".. يدعي الكاتبان بصورة واضحة ومباشرة أن اليهود متفوقون جينياً وثقافياً وأخلاقياً..!!
(10) الشخصية الإسرائيلية – د. حسن ظاظا ـ ص 10.
(11) الشخصية الإسرائيلية – د. حسن ظاظا ـ ص 6 بتصرف.
(12) مشروع النهضة ـ سلسلة أدوات القادة "الذاكرة التاريخية
" ـ د. جاسم محمد سلطان ـ ص 28، 29.
(13) المجتمع المصري جذوره وآفاقه
ـ سيد قطب ـ إعداد وتقديم : ألان روسيون ـ
ص 210، 211.
إضافة تعليق