ولكن التعامل مع تلك النفوس في إطار سنن الله يؤكد أن هناك علاقة عضوية بين السبب والنتيجة كما يخبرنا حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-: "تجدون الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام
أخبرنا ربنا سبحانه عن
أولئك الذين كانوا مع رسول الله: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ
أَثَرِ السُّجُودِ) [محمد: 29].
أولئك الذين كانوا
ترجمة واقعية لمعنى قوله سبحانه: (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)
[الأنعام: 124].
ورأينا من عجائب أولئك
الذين كانوا معه -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الإنسانية بكل أطيافها وصفاتها وتنوعها
اختُـصرت فيهم؛ فكان كل واحد منهم "مراد الله" الذي يتحرك
بين الناس، ولكنه في ذات الوقت لا يخرج عن إطار البشر الذين أخبر النبي -صلى الله
عليه وسلم- أنهم يشبهون المعادن "تجدون الناس معادن"، ويشبهون خامة
الزرع: "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع"، ويشبهون الإبل: "تجدون
الناس كإبل المائة؛ لا تكاد تجد فيها راحلة".
ولكن التعامل مع تلك النفوس في إطار سنن الله يؤكد
أن هناك علاقة عضوية بين السبب والنتيجة كما يخبرنا حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-:
"تجدون الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا".
فالحديث عبّر عن فكرة التوجيه بـ "إذا فقهوا".
فكما أن الخامات تدخل التصنيع لتخرج بشكل جديد؛
بحيث تحافظ علي أصالة معدنها، فتنقى من الشوائب، أو تخلط مع عنصر آخر، لتكون
مناسبة للاستهلاك الاجتماعي -إن صح التعبير-، كذلك خامات البشر؛ تدخل مدرسة الوحيّ
لتتربى على المنهاج الذي لا يتعامل مع المسلم على أنَّه ملاك، ولا يطلب منه تركَ
الدنيا جملة، وإنما يوجه سلوكه وَفق مراد الله -سبحانه وتعالى- ليصنع منه الإنسان
الرسالي.
وهذه المقالة محاولة تربوية لتكوين تصور عن بناء الإنسان وفق قواعده الأولى التي مارسها
صحابة رسول الله تبعًا لآي الفرقان، ليكون هذا التصور منطلقًا لما بعده من
التطبيقات الحياتية التي تستلهم لبنات الصياغة الأولى لتكون هي الدليل الذي ينقل
الإنسان من الغفلة إلى اليقظة، ومن ثم إلى البصيرة.
وذلك من خلال:
· محاضن الوعيّ
بالوحي:
تلقى النبي الوحي من
ربه قرآنًا، وتنزّل عليه في مدى عمره نجومًا فرقانًا، وسُطر بين يديه كتابًا
وديوانًا، وأقام صرح معالمه تحت إشرافه سامقًا بنيانًا.
وطوال المسيرة
الشاقة لرحلة الرسالة كان القرآن حاضرًا يقود الرحلة ويوجهها؛ فبدأت الرحلة بـ(اقْرَأْ)،
ثم شقت طريقها وسط المجتمع المكي بـ(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) [المدثر: 1]. وعندما
قاربت الرحلة على الاكتمال، وبدأ نور الرسالة يغزو الدولة البيزنطية؛ كانت غزوة
تبوك التى كشفت نفاق المنافقين وقعود القاعدين وتخلف المتخلفين، كانت براءة
"التوبة" تكشف كل أولئك وتفضحهم، وعندما أنجزت السورة مهمتها؛ كان
ختامها مواساة للنبي عما يضيق بصدره رسالة لكل من يسمع: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ
مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة: 128].
وهكذا، بقيت هذه
العلاقة "الحميمة" بين الرسول وبين الكتاب؛ ليبقى القرآن هو الروح الذي يؤنس المؤمن فى
رحلته الشاقة فى هذه الأرض، والنور الذي يضيء جوانب روحه، والُمعلِم الذي يُلقنه،
والهادي الذي يبين له معالم الطريق.
ومن
هنا فقد مسّت الحاجة إلى محاضن تربوية يتدبر فيها المربي مع طلابه النص القرآني من
حيثُ هو طريقة حياة، ومن حيث هو نظامٌ مُتكامل موضوعُه الإنسان، وغايتُه تـغييرُه
وتحريرُه؛ فيتربي طالب العلم على القرآن كما تربى الجيل الأول من الصحابة -رضوان
الله عليهم-، حتى يتحول من فكرة ذهنية إلى "عقيدة"، إلى شيء مستقر في
القلب، إلى قوة محركة في واقعنا، إلى تصور كامل وسلوك منبثق من ذلك التصور.
فكيف سنتدارس القرآن في هذه المحاضن؟!
سنتدارس القرآن بالترتيب
الذي اختاره الله -سبحانه وتعالى- لتنزيل هذا القرآن يوم كان يَنْزِل لإصلاح
الواقع، فينقل الناس أول مرة من الجاهلية إلى الإسلام، ويخرجهم من الظلمات إلى
النور.
سنتدارس القرآن على الترتيب
الذي رسم معالم المنهاج الرباني لمثل ذلك الإخراج في كل وقت.
سنتدارس القرآن على الترتيب
الذي تم به تقسيط الدواء وفق طبيعة الداء؛ ليتم -بإذن الله تعالى- الشفاء في التجربة
القياسية الأولى، والخاتمة..
سنتدرس القرآن على ترتيب
نزوله([1])
لنعرف كيف صنع الله -عز وجل- المجتمع الأول على عينه؟! وكيف تَمَّ إحلال الدين في
الواقع في تلك الفترة وفي ذلك الظرف؟! وما الذي قُدِّم وما الذي أُخّر؟!
يقول شيخ الإسلام: "فإذا حصل من يقوم
بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما، كان بيانه لما جاء به الرسول شيئًا
فشيئًا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئًا فشيئًا، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا
ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال: إذا أردت أن تطاع فاؤمر
بما يستطاع.
فكذلك المجدد لدينه والمحيي
لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين
دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها.
وكذلك التائب من الذنوب؛
والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم،
فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبًا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن
واجبًا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداءً، بل يعفو عن الأمر والنهي
بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه،
ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم
مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل فإنه
نافع"([2]).
عن عائشة أم المؤمنين: "إنما نزل أول ما
نزل منه -أي من القرآن- سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس
إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا
ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا". [صحيح
البخاري].
فهي -رضي الله عنها- تشير إلى الحكمة الإلهية في
ترتيب التنزيل، وأنه أول ما نزل من القرآن الدعوة إلى التوحيد والتبشير للمؤمنين
والمطيعين بالجنة، والإنذار والتخويف للكافرين بالنار، فلما اطمأنت النفوس على ذلك
أنزلت الأحكام؛ ولهذا قالت: "ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر..." إلى
آخره؛ وذلك لانطباع النفوس بالنفرة عن ترك المألوف.
وكما أكد الإمام ابن تيمية -رحمه الله- على أن
"التدرج" في بيان القرآن شيئًا فشيئًا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به
شيئًا فشيئًا، فقد عمّق هذا الفهم كلام وجيز استهل به الإمام الشاطبي المسألة
الحادية عشرة من المسائل التي تكلم فيها عن "الكتاب" بوصفه الدليل الأول
في "الأدلة الشرعية"([3])؛
فقال: "المدني من السور ينبغي أن يكون منزَّلًا في الفهم على المكي، وكذلك
المكي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض، على حسب ترتيبه في التنزيل، وإلا لم
يصح"([4]).
والضمير يعود على "الفهم" في قوله: "منزَّلاً في الفهم".
وهكذا
يُقرأ القرآن في المحاضن التربوية كدليل في كل مرحلة من مراحل الحياة، ليستصحبه
المربي والمتربي كما يستصحب المسافر معه دليل الرحلة ليعرف منه من أين يبدأ، وأين
ينتهي، وكيف ينعطف به الطريق..
والقراءة المطلوبة هنا
هي القراءة المبنية على الفهم والوعي والتدبر، القراءة التي تربط وتستنتج، على
النحو الذي شرحه الفيلسوف الهندي "محمد إقبال" في فهم
القرآن فقال:
"لقد كنت تعمّدتُ أن أقرأ القرآن بعد صلاة
الصبح كلّ يوم، وكان أبي يراني فيسألني: ماذا أصنع؟ فأجيبه: أقرأ القرآن. وظلّ على
ذلك ثلاث سنوات. وذات يوم قلت له: ما بالك يا أبي تسألني نفس السؤال وأجيبك جوابًا
واحدًا، ثمّ لا يمنعك ذلك من إعادة السؤال من غد؟! فقال: إنّما أردت أن أقول لك يا
ولدي: اقرأ القرآن كما لو كان نزل عليك!
يقول محمد إقبال: "منذ
ذلك اليوم انفتحت لي مغاليق المعاني".
ونحن في تلك "المحاضن
التربوية" نطور مبدأ "محمد إقبال" خطوة أوسع إلى الأمام من خلال
محاولة العيش في نفس اللحظات النفسية لنزول الآيات، في محاولة لربط فهمنا للقرآن بوقائع
السيرة، و"قراءة القرآن بالسيرة وقراءة السيرة بالقرآن". ذلك أن هذا
النوع من القراءة المزدوجة يزيد وعي كل منا بالطبيعة الحركية لهذا الدين.
خذ مثالًا عن كيف سنقرأ..
العَلَق أنموذجًا:
إن أول ما نزل من
القرآن، سورة العلق، وقد أكدت هذه السورة على ثلاثة معانٍ مفصلية:
الأول:
تأكيد الكرامة بالقراءة: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ) [العلق: 1]، دعوة لقراءة
كتاب الكون المفتوح، المتمثل في كل ذرة من ذرات الخليقة، والمتجسد في كل حبة رمل
ونسمة هواء وثمرة شجر.
ودعوة
للقراءة في كتاب النفس الإنسانية المتمثل في كل نزعة خير ونزوة شر، وعاطفة حب تهفُ
بها النفس نحو الجمال والسمو، أو تسقط بها نحو الرذيلة والانحدار.
والثاني: معالجة أشد
مشاكل المجتمع خبثًا واستعصاءً، ألا وهي الطغيان، والقول بأنه قابليّةٌ في جبلة
كلٍ منا إذا مُنح السلطة بدون ضوابط، فكلمة "الإنسان" معرّفة بـ"أل"
وليست نكرة، فتشمل كل إنسان. ومن ثم، فإن الطغيان "كامنٌ" في قلب كل منا
مهما بلغ من الطيبة إذا وضع يده على "القوة" ما لم يفرمل.
أما المعنى الثالث
والأخير: فهو وصفة بسيطة للتخلص من الطغيان، وخلاصتها "عدم التعاون"، فالتبعة
يوم القيامة فردية، وكل إنسان مسؤول عن أعماله ولو كانت مثقال حبة من خردل، ثم
التأكيد على أن الاقتراب من الله يكون بالسجود، ولا سجود إلا برفض الطاعة للطغيان:
(كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ
وَاقْتَرِبْ) [العلق: 19].
وهذا يعني أن طالب
العلم في هذه القراءة للقرآن:
ستكون غايته الفهم
والحياة وفق ما فهم..
سيكون سؤاله عما يحتاج،
وليس عما يهوى..
وسيكون
انشغاله بالعمل، وليس بالكلام..
ومن ثم؛ لن يمر بآية من
كتاب الله وكأنها لا تعنيه، بل ينتقل بكل آية من "الترتيل" إلى "التشكيل"،
ومن الأداء الصوتي إلى الأداء السلوكي، ليكون "مراد الله" هو..
· الصورة
الكاملة لحلم الحياة:
يحث
المربي طلابه أن يحدد كل منهم "حلم" حياته، وأن يمتلك شجاعة التجربة
والفشل حتى يتعلم وينجح في هذه الحياة، مع التأكيد على أن هذا النجاح لن يكون محققًا
للسعادة إلا أن يكون من خلال "مراد الله" الذي لا بد أن يبذل المتربي
الجهد والوقت في تحديد الإطار الواسع له، ورسمه بما فيه من مكونات مختلفة؛ فتكون حياته
المهنية "وسيلة" لتحقيق جزء من الصورة الكبيرة لمراد الله، فإذا اختار
شريكًا لحياته؛ اختار شريكًا يعاونه/ يعاونها على تحقيق مراد الله منهما، والبحث
عن صحبة لهم نفس منظومته القيمية ليستدفئ بصحبتهم في طريق تحقيق مراد الله..
وهكذا
لا يجعل المتربي مساحة مكانية وزمانية ليطبق مراد الله منه؛ فلا يجعل المساحة المكانية
مسجدًا، ويجعل المساحة الزمانية أوقات الصلاة، أو شهر رمضان، أو الحج!
ولا تكون حاله كمن يذهب الي
المساحة المكانية ليصلي بغاية "الخشوع"!! ثم يخرج من هذه المساحة
المكانية والزمانية ليمارس الحياة في بقية المساحات -مكانية وزمانية- بعيدًا عن
مراد الله..
نعم..
لقد توصل بعضنا إلى معادلة غريبة، هي أن يقيم الشعائر لله، وفي الوقت نفسه يعبد
"نفسه"!
ربما لا يملك
الشجاعة والصدق والأمانة مع النفس ليرى هذه الحقيقة..
ربما لا يدرك هذا
التناقض لأنه يطبقه في منظومة حياة متكاملة..
ربما لأن الحياة
المبهرة لعيونه تأتيه من منظومة حضارية تفرق بين الشعائر والحياة..
ولذلك لا بد أن ينهى المربي المتربي
عن ممارسة ما يمكن أن نسميه "الإسلام الكنسي"، الذي يمارس في مكان
العبادة كـ"طقوس" لا علاقة لها بالحياة، ويؤكد له أن صلاته وصومه ورحلات
حجه، وكل شعائره لا بد منها، ولكنها كالإحماء قبل المباريات، ولم نسمع قط عن أحد
فاز في مباراة دون أن يشارك فيها لأنه فقط أجاد الإحماء!
من هنا: ابدأ -أيها المتربي-
ثانية في إعادة النظر لهذا الكم من الجزئيات والشعائر ودقيق الأمور وجليلها،
ومقاصدها ومقدماتها؛ ستجد نفسك أمام نسق متكامل يهدف إلى جعل الدنيا موصولة
بالآخرة، ليصبح الإيمان خطًا متصلًا من القلب إلى الجوارح، ومن الفرد إلى الجماعة،
ومن الجماعة إلى العالم، ومن العالم إلى مسار التاريخ كله، إلى أن يقبض الله
المؤمنين وهم شهداؤه على خلقه.
إنه مسار متصل، ونمط حياة
ممتد من ذكر الانتباه من النوم إلى أذكار النوم وما فيها من الالتجاء إلى الله
والبراءة من الحول والقوة، مرورًا بالتطهر والسواك والقرآن والصلوات المتتابعات
ومنظومة الحقوق الأخلاقية والتشريعية التي يجب عليك أن تلتزم بها تجاه الدوائر
القريبة والبعيدة، كل ذلك يجعل الوحي حيًا بقدر حياة الإنسان؛ فلا يرى أن الناجح في الحياة هو من
يصل إلى ما يريد بأي طريقة، وبغض النظر عن كون هذه "الطريقة" توافق مراد
الله أم تصادمه!
"توقف عن القراءة هنا -أيها القارئ-
لبرهة، وارصد وسجل نظرتك إلى النجاح في الحياة، واسأل نفسك هل تريد النجاح بأية
طريقة، أم يحكم طريقتك ما تدين به من شريعة الله؟".
ثم تأمل حوار
صاحبيّ الكهف عندما تباهى كافرهما بماله وما صار إليه من جاه: (أَنَا أَكْثَرُ
مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) [الكهف: 34]، فكان رد المؤمن أن هذه
"الثمار" من مال وسلطان ليست مقياسًا للنجاح، وإنما المقياس الحقيقي هو
"البذرة" وكيف تم الوصول إلى المال والجاه (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي
خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) [الكهف: 37].
هكذا..
لا يعاني المؤمن
عقدة نقص أمام "نجاح" صاحبه؛ لأنه صاحب "ثوابت"، لا ينظر إلى
ما أنجزه صاحب الجنتين، أو مستوى دخله، أو الرفاهية التي حققها، وإنما يزن كل ذلك
بميزان ثوابت الإيمان والعبادة لله وحده؛ لأنه يدرك الصورة الكاملة لحلم الحياة،
ويسير في طريق الله.
·
على بصيرة:
في كل يوم تعلو فينا قيمٌ، وتنخفض أخرى؛ لأن النفس لا تستقر على حال، فهي تتقلب مثل موج البحر، تنتكس وتمرض وتهبط في لحظة، بل
وتنحط إلى أسفل سافلين، وهذا يحتاج منا لعملية تطهير لا تتوقف؛ لأن هبوط النفس لا
يحتاج لطاقة، بينا الصعود يحتاج لطاقة، فلا بد من بذل الجهد المكافئ لرفع وتصعيد
حالة النفس باتجاه تحقيق الذات، وضبط الغرائز في الاتجاه الصحيح، واليقين بأن الطريق إلى الآخرة يمر بالدنيا حتمًا، وما سنقوم به في
الدنيا هو ما يحدد موقعنا في الآخرة.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
ولذلك يؤكد
المربي لطلابه أنه ليس من الحكمة أن تمضي في طريق دون أن تتبين معالمه؛ لأن كل
خطوة في الحياة هي في حقيقتها مفرق طرق، وكلُّ طريقٍ يؤدِّي إلى جهةٍ مختلفةٍ، قد
تكون عين الصواب، وقد تكون عين الخطأ، وإذا لم تنتبه فربما أخذت قرارًا بالمضي في
الطريق الخطأ الذي يبعدك عن الطريق الصواب الذي أراده الله.
فكيف تقدر على الاختيار في مفارق
طرق الحياة؟!
لا بد أن تمتلك قلبًا سليمًا؛ لأن صاحب القلب
السليم لا يرى بعينيه فقط، وإنما يرى ببصيرته، وهذه البصيرة هي أمر قلبي بامتياز،
فإذا امتلكت "البصيرة" قرأت رسائل الله!
أتدري
ما أقصد بـ "رسائل الله"؟!
أرأيت
مياه الأمطار وهي تتجمع في مكان مرتفع، ثم تنحدر لتسير في مجري النهر الذي حفرته
عبر آلاف السنين، أو القنوات التي حفرناها نحن كي نأمن شرها ونتجنب دمارها؟!
أرأيت
لو لم تجد الأمطار النهر أو القنوات؛ أليست تنفجر عندها معربدة في كل مكان لتدمر
في طريقها الشجر والحجر؟!
كذلك
تفعل بنا أحداث الحياة؛ تتجمع آلامها في نفوسنا، فإذا حفرنا لها بوعينا قنوات حتى
تجف؛ لم تقدر على تدميرنا.
أمّا
إذا تجاهلناها، فإنها تنفجر غضبًا في كل مكان مدمرة في طريقها ما يقابلها سواء
خارج أنفسنا أم داخلها!
نعم
..
ليس
من سبيل إلي الوعي والإدراك، ومن ثم القدرة علي مواجهة سيول آلام الحياة؛ إلا بحسن
قراءة رسائل الله إلينا من خلال حوادث الحياة، فإذا أحسنا هذه القراءة؛ فإنا بعون
الله قادرون على المقاومة.
في العام
1999م نُشرت صورة لجنين لم يبلغ من العمر إلا 21 أسبوعًا، ولم ير النور بعد، كان وضعه الصحي يحتم
إجراء عملية له وهو لا يزال في رحم أمه..
أثناء العملية، فوجئ الجراح
بيد صغيرة، ولكن مكتملة، تخرج من الرحم لتمسك بيده بقوة..
هل قرأت الرسالة في هذه
الصورة؟!
إنها تشبه كثيرًا ما يحدث لك
حين تمر بحياتك لحظة صعبة وحادة وحرجة، ليست لحظة مخاض، بل لحظة مقاومة السقوط..
لحظة مقاومة أن تهدر كما لو لم تكن شيئًا!
المخاض في تلك اللحظة لم يأت
بعد، لكنك رغم ذلك لا بد أن تقاوم كي تبقى على قيد الحياة في انتظار المخاض..
عندما تشعر بشيء كهذا؛ فاعلم
أن هذا الجنين يمثلك!
وتزود بالرضا الثلاثي: بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا
ورسولًا..
واجعل نداءك لكل أعدائك في كل الدنيا:
إنكم تبنون أعشاشكم على غصن ضعيف، ولن يلبث هذا
الغصن أن يسقط..
إن ناركم لن تحرقني؛ لأني على ملة إبراهيم..
وإن نوركم لن
يسرق بصري؛ لأني اكتحلت بأثمد المدينة..
واعلم عندها أنك: تصدّر الاستقرار، ولا تستورد
الأزمات.. تصدر الاطمئنان، ولا تستورد القلق؛ لأنك تعيش الحياة في سبيل الله..
في كل يوم تزداد قناعتي أنه قد مست الحاجة أن يقرأ كل
منا القرآن كأنما أنزل عليه هو، يقرؤه ويترك مفاهيمه تطرد الأوهام الباطلة عن عقله، وتمحو القيم الميتة التي
تسللت إلى قلبه؟!
وبالمداومة على قراءة القرآن يزداد الإيمان شيئًا فشيئًا، ويحل القرآن محل
الهوى في القلب، إلى أن تأتي لحظة من أجمل لحظات الحياة، وهي تحرُّر القلب من
الهوى ليصبح قلبًا حيًا يسير في الحياة وفق منهاج
الله فى هذه الحياة؛ فيرى الموت "بوابة" يعبر خلالها من حياة مكانية
وزمانية إلى حياة أخرى في إطار من العلم، قد يصاحبه نوع من الرهبة والخوف، ولكن
يصاحبه أيضًا الشوق إلى لقائه سبحانه.
ولذلك لا بد للمربي أن يؤكد للمتربي أنه ليس بمقدور الدنيا أن تسعدك،
فسعادتها مؤقتة تشبه الرائحة التي تضاف إلى غاز المنازل عديم الرائحة، لتتعرف عليه
إذا تسرب!
والسعادة
تمثل هذه الرائحة التي تدلك على المسافة بينك وبين نفسك، فإن كنت أنت أنت حقًا؛
ستشعر بالسعادة، وإن فقدت نفسك فلن تشعر بها.
أتدري
كيف تصل إلى نفسك؟!
إن
لهذا طريقًا واحدًا، أن تتخذ من الله ملاذًا..
الحياة الحقة ما بقيتَ فيها على الطريق المستقيم، تزيد حياتك روحًا
حين تحمل فكرة الحق، وتضاعف عمرك عمرًا بالعلم والتعلم، وتملأ قلبك فرحًا بمد يد العون
والفائدة لمن حولك.
ربما يخبو عزمك أحيانًا، أو تكسر أحداث الحياة قلبك، فيتجدد عزمك وينجبر كسرك حين ترى في الحياة مَقامك، وتدرك ببصيرتك أنه هو سبحانه مَنْ في هذا المقام أقامك، فتلوذ به ويكون دعاؤك: "ولا تَكلني إلى نَفسي طَرفَة عَين"؛ فترفض خداع نفسك في تصويرها الدنيا وكأنها كل شيء، ولا تتعامل مع الموت على أنه نهاية كل شيء، بل تقرن حاضر حبك للحياة بغائب شوقك لله.
([1]) هناك
محاولتان في هذا الموضوع: محاولة المستشرق الفرنسي "ريجس بلاشير" الذي
قام بترجمة معاني القرآن إلى الفرنسية (1947-1950) على أساس " ترتيب
النزول" الذي وضعه المستشرق الألماني "نلدكه"، ثم محاولة الدكتور
محمد عزة دروزة، "التفسير الحديث" 1961-1964. وهناك أيضًا محاولة عبد
الرحمن حبنكة "معارج التفكر ودقائق التدبر".
إضافة تعليق