هل ترى تناقضًا بين ما أردتَ أن تكونه في بداية حياتك، وبين ما أنت عليه الآن؟! هل تحاول مخادعة نفسك فتقول لها: إن هذه كانت أحلام شباب وانتهت؟! أم تصْدُق نفسك فتقول لها: لن أجاملك، لقد ابتعدتِ كثيرًا عما كنتُ أريده.. هل تتمنى ولادة إيمانية ثانية،
هل ترى تناقضًا بين ما
أردتَ أن تكونه في بداية حياتك، وبين ما أنت عليه الآن؟! هل تحاول مخادعة نفسك
فتقول لها: إن هذه كانت أحلام شباب وانتهت؟! أم تصْدُق نفسك فتقول لها: لن أجاملك،
لقد ابتعدتِ كثيرًا عما كنتُ أريده.. هل تتمنى ولادة إيمانية ثانية، وتتطلع إلى
بداية جديدة؟!
أنا مثلك.. أريد أن
أعود إلى البدايات.. أريد أن أعود إلى النصائح اﻷولى التي صرت أعتبرها من
البديهيات حتى غفلت عنها، أريد أن أمسح عنها غبار العادة الذي أورثني البلادة، أريد
أن أعود لكل خير تعلمته ومارسته في البدايات، أريد أن أشعر أنني في سنة أولى إيمان،
وأن يرزقني الله بداية جديدة.
وإنني أرى نفسي فيك،
وأراك تسير في درب سلكتُه ومررتُ على ثغراته، ومنَّ الله عليّ بمعرفة كثير من
مسالكه ومنعطفاته، لن أطلب منك أن تكون أسيرَ فهمي ومسلكي، لن أزعم لك أني أحتكر
الـفـهـم الصحيح وحدي.
وهذه المقالة هي "إجاباتي"
و"اختياراتي"، فليست هي "الإجابات" و"الاختيارات"،
بل هي تصوري واجتهادي، تحتمل الصواب والخطأ.
ولا أطرحها عليك
لتوافقني عليها، وإنما لأستثير بداخلك تساؤلات أكثر؛ لأن الإجابات تأخذنا إلى
النهايات، أما الأسئلة فإنها تقودنا إلى البدايات.
هل تقول: إن لديّك
تساؤلات كثيرة؟!
أقول لك: أنا أسعد
إنسان بتساؤلاتك؛ لأني أومن أنه لكي يكون لديك اختيارات، فلا بد أن تؤرقك
التساؤلات، وإلا أصبحت تابعًا لاختيارات الآخرين الذي أرقتهم التساؤلات؛ فوجدوا
إجاباتهم.
فإن
كانت تسائل نفسك: من أنا؟! وماذا أفعل في هذه الدنيا؟! وإلى أين أنا ذاهب بعد
انتهاء حياتي؟! فإني أسألك بقولي: حين أجد نفسي تائهًا في منتصف طريق ما، ويساورني شعور بالتيه والخوف
والحزن والوحدة؛ فإن من الجهل والعبث أن أظل سائرًا على غير هدى، بل
الواجب أن أتوقف لأعلن «أني تائه»؛ لأن هذه هي الخطوة الأولى لأجد نفسي، وأدرك النقطة التي أقـفُ عليها؛ لأعرف
تـلك التي أريد الوصولَ إليها، ومن ثَمّ أتساءل: أين أنا؟! وما الذي جاء بي إلى هنا؟! وإلى أين أنا
ذاهب؟! وأنا على يقين أنه لا يجد الإجابات
إلا من يؤرقه التساؤل، فيحاول فتح مغاليق أبوابها من خلال كلمة البدء:
· اقرأ وربك الأكرم:
في البدء كانت «اقرأ»
دعوة للقراءة الكونية والنظر في الزمان والمكان، ثم قراءة الإنسان والنفس، لتكون
مادة القراءة بعد ذلك هي الكتاب:
(اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقرأ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 1-5]، دعوة
لقراءة الكون بأجمعه، والنفس بكل تداخلاتها، وهو ما يمكن أن نُطلق عليه «الكتاب
المنظور»؛ وقراءة آيات الله في القرآن «الكتاب المسطور»، ومن ثم تتأسس كل الأفعال
على معرفة سليمة؛ لأن الإيمان
بلا "اقرأ" يكون خرافةً، والتعبد بلا "اقرأ" ينتج البدعة،
والدعوة بلا "اقرأ" تصبح تنفيرًا!
كانت «اقرأ» الأولى بداية الوعي الإنساني، وانت
تقرأ الآن لتعي، وأنت تدرك أن القراءة الواعية لا بد وأن تكون «باسم ربك»، وهذا يعني أنها ليست
قراءة بلا ثوابت، وليست فهمًا بلا ضوابط؛ فهي قراءة تُفرِّق بين العَرَض والمَرَض، كطبيب ماهر لا ينسى أثناء بحثه عن
وسائل خفض حرارة مريضه «العرض»، محاولة معرفة ما المرض الذي تسبب في إصابته
بالحمى؟!
ولا شك أن الطريق
الأقرب للوصول إلى المرض هو معرفتك بـ«نفسك»، ومن هنا ستكون الخطوة الأولى بعد
القراءة في طريق ميلاد الإيمان هي:
· تعرّف على نفسك:
الغربة الحقيقية هي
غُربتك عن نفسك، وبداية البدايات
أن تعرف "من أنت؟"، وأن تدرك "لماذا أنت هنا؟"،
وأن تحدد هدفك "ماذا تريد؟".
ربما أخرجتك هذه
التساؤلات من ظل الإجابات إلى شمس الأسئلة، ولكنها تساعدك على السير في أودية نفسك
سير
العارف المُبصِر؛ فلا تضل في قرية الخوف، ولا تسكن بيت الجهل، ولا تبذل جهودك في
بناء على رمال الخيال، فتعبث به رياح الواقع لتبدد ما بذلته من جهود، فلا تعود من
رحلة الحياة إلا بما يعود به المُقامِر المُفلِس!
إن نقطة البداية هي
معرفة نفسك بصدق وشفافية، وقبولها كما هي، قبولًا لا يعني
الموافقة على ما هي فيه أو ما آلت إليه، إنما التصالح والتوافق.
فإذا ما قَبِلتَ نفسك، أصبح من السهل عليك تقدير هذه
النفس، ومن ثم البدء في تخليتها، أو ما يمكن أن نطلق عليه تفريغها من سلبياتها، ثم تحليتها،
أو ما يمكن أن نسميه شحنها بالصفات الإيجابية.
وإن كنت عرَّفت نفسك أبيض الواقع وأسوده بوضوح، فكان
سؤالك: كيف النجاة من خداع الرماديات؟! فلا بد لك من:
· التفكير المنطقي والوعي الانتقائي:
إذا لم تكن منظمًا ودقيقًا في التعامل مع ما
ترى وتسمع، فأنت أمام منظومة مكونة من مئات، بل آلاف الرسائل التي لا تُدرك
تأثيرها على نفسك، والتي يمكن أن تصنع لك وعيًا عشوائيًا يجعل منك مجرد وعاء يلقي
فيه الآخرون كل ما يريدون.
فإذا أردت الخروج من هذا الوعيّ العشوائي إلى
الوعي الانتقائي؛ فلا بد لك من التساؤل:
ما الذي أقرؤه وأسمعه وأشاهده؟! ومن الذي أقرأ
له أو أسمعه أو أشاهده؟! ومتى أقرأ أو أسمع أو أشاهد «ما» اخترته لـ«مَن» اخترته؟!
إن هذا الوعي الانتقائي هو العاصم -بتوفيق من
الله- من أن تبقى أسير ما يختاره لك الآخرون، أو تنضم إلى القطيع.
إنه لا مناص من تحدي بعض القناعات الباطلة التي
ترسخت في أذهاننا، والقناعة بأننا لا يمكن أن نعيش حياتنا كالقارب الذي تتقاذفه
الريح إلى حيث تريد، ولا سبيل إلى النجاة إلا تدبّر:
· وثيقة ميلاد الإيمان:
الإسلام نظامٌ مُتكامل
موضوعُه الإنسان، وغايتُه تـغييرُه وتحريرُه، لتأهيله لعمارة الدنيا، وقيادة
البشرية، ليكون -من بعدُ- أهلًا للنجاة في
الآخرة، وكتابه القرآن هو الروح والنور: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا
مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن
جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ). فهذا القرآن «روح» تبعث موات روحك، و«نور»
ينير خطوات دربك، وغياب الروح ضعف في الهمة، وموات في الحراك، وغياب النور تخبُّط
في الطريق، وخلل في الإدراك.
ومن هنا فقد مست
الحاجة إلى أن تقرأ القرآن كأنما أنزل عليك أنت، تقرؤه فتعرف ربك كما أخبر عن نفسه، وتدرك عبوديتك
له كما أمر، وليس كما يريد أصحاب «الوهم» الجاهلي الذين يدعون إلى تتبع أوامره
فيما يخص الشعائر والنسك، ليتركوا أوامره في باقي مناحي الحياة، وكأنهم جعلوا له
سبحانه مساحة مكانية هي المساجد، ومساحة زمانية هي أوقات الصلوات الخمس أو شهر
رمضان أو أشهر الحج... فيذهبون إلى المكان والزمان ليقيموا الشعائر بغاية الخشوع،
فإذا خرجوا من المكان المُخَصَّص والزمان المحدَّد؛ مارسوا الحياة وفق ما يشرع لهم
الهوى!!
وبالمداومة على قراءة القرآن يتحرُّر القلب من
الهوى ليصبح قلبًا حيًا، يقظًا، نابضًا، يتحرك ويخشع مبشرًا بـ:
· بداية حياة:
الحياة قاعة امتحان كبير متواصل، وكل خطوة في
الحياة هي جزء من ذلك الامتحان المتواصل، والمشكلة ليست في عدد الخطوات، وإنما في
أصل التوجه؛ هل هو إلى الله أم إلى النفس؟!
حين
تضبط بوصلة حياتك على اتجاه، ثم تتحرك في اتجاه مراد الله بوعي وإرادة، فإن ما
تحققه خلال رحلة حياتك يبقى أمرًا ثانويًا في الحكم على نجاح رحلتك في الحياة،
إنما معيار النجاح الحقيقي هو عدم انحرافك عن ذلك الاتجاه.
فمن
خطا خطوته الأولى إلى وِجْهَةٍ هو مُوَلِّيها فلا بدّ من أن يخطو الثانية والثالثة
ليصل إلى غايته وهدفه ونهاية دربه إلى الحياة الطيبة.
· يا
صديقي:
إن من توفيق الله للإنسان أن يرزقه الفهم
لينقد ذاته، وأن يهبه القدرة ليقوّم حياته؛ فيمتلك شجاعة مواجهة التعثر أو الفشل
مرات، ثم القيام من جديد..
نعم؛ قد تضعُف، وقد تبتعد، وقد تنسى، وقد تغفل؛
ولكن هذا من طبيعة اختبار الله لإنسانيتك، ثم تكون التوبة والعودة إلى رحابه.
ولئن
كانت خطاياك وذنوبك تجذبك إلى أسفل، فإن توبتك تفتح لك باب الارتقاء والصعود،
ويبقي الباب إلى هذا السمو مفتوحًا على مصراعيه لتستقبلك رحمةُ ربك؛ فتحررك من
التراب إلى ما فوق السحاب.
إن الفرصة متاحة لك أن تخرج من تجربة فشل، بعلاقة وصل
بالله، وعندما يحدث هذا، لن تزيد علمًا وحكمة فقط، وإنما ستكون المنارة التي
يسترشد بها كل من يحاول أن ينهض من عثرته، ويتجاوز ألمه، ويبني نجاحًا من تجربة
فشل.
· فاكتب
لنفسك رسالة:
عزيزتي
"نفسي"..
لا
أعرف كيف أقولها، ولكني مضطر أن أفعل..
عليَّ
أن أُنهي علاقتنا القديمة للأبد..
لقد
قضينا وقتًا طيبًا معًا، أنا وأنتِ..
لا
زلت أذكر كيف كنت أستمتع بالتسويف الذي تمارسينه..
لا
زلت أذكر كيف كنتُ أستمتع بركضك وراء المتع العابرة الصغيرة..
نعم؛
كل ذلك كان وقتًا ممتعًا أدفع ثمنه الآن..
أعاني
اليوم الكثير منك، ومما فعلتِه بي!
عليَّ
أن أرى حياة أخرى.. أن أبدأ من جديد.
عزيزتي
نفسي..
ثمة
"نفسٌ" جديدة تُولد في داخلي، لم يفت الأوان بعد..
· ميلاد
الإيمان:
يتحدث القرآن عن الإيمان وكأنه كائن حيّ يمر بمراحل
الولادة، فالسن المميز، فبلوغ الحُلم، ثم بلوغ الأشد..
فإذا كان يأنس بغيره، وينسى عهد ربه، وجدنا القرآن يصفه
بـ"الإنسان"، كقوله -عز وجل-: (قُتِلَ
الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ)، (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ).
ثم إذا تردد بين سماع الزجر وغلبة هواه؛
سمعنا آيات الله تخبر عنه باسم "الناس": (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ) و(لَا يَشْكُرُونَ).
فإذا تحقق لواحد من هؤلاء قبولًا للخبر
وطاعة للأمر، مع كونه يقع في مخالفته كثيرًا، فنرى القرآن يخاطبه وكأنه في سن "الاحتلام"
الذي يحتاج إلى من ينصحه بما ينفعه، وينهاه عما يضره؛ فيكون خطابه (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا)، ولذلك كان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: إذا سمعت الله -عز
وجل- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فارعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به، أو
شر ينهى عنه".
فإذا بلغ الإيمان في قلب العبد سن
"الرشد" خاطبه القرآن بـ"المؤمنون"؛ كقوله -عز وجل-: (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ
وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ).
فيا صديقي..
عليك
بالمداومة على قراءة القرآن، ومع ازدياد فترات تجاوب القلب مع العقل يزداد الإيمان
شيئًا فشيئًا، ويحل القرآن محل الهوى في القلب، إلى أن تأتي لحظة من أجمل لحظات
الحياة وهي: تحرُّر القلب بالكامل من الهوى وولادته من جديد؛ قلبًا حيًّا، يقظًا،
نابضًا، يتحرك ويخشع، هذه اللحظة السعيدة سماها العلماء «الولادة الثانية»([1]).
ربما
يصاحب هذه الولادة شيء من الألم الذي هو حبل النجاة، وحافز التوجه، ومرشد المرء إلى
إنقاذ روحه، وكما أن البكاء والألم في الولادة الأولى هو بشرى أن الوليد في طريقه
للحياة؛ فإن البكاء في الولادة الثانية يجمع بين ألم وفرح، ألم التخلي عن الماضي،
وفرح النجاة بما هو قادم.
فإذا عزمت على ولادة ثانية، وبداية تكون نهاية ماضٍ، وأجمل حاضر، ومستقبل حياة؛ فأعد
العدة من ليلتك هذه، وتذكر ليلة ناجى إبراهيم
ربه، وليلة نام أهل الكهف هروبًا من آلهة قومهم المفتراة.
لا تقبل بوجود ضوضاء، واكتفِ بالقمر سراجًا..
انظر إلى بديع صنع الله في كونه..
تأمّل الموكب الكريم لرُسله الكرام..
واجعل مناجاتك: رب! عبدك تائه وسط صحراء الجهالة، حيث لا
ماء علم، ولا هواء صلاح وعمل، أسألك رحمتك يا إلهي! فلم يعد وقت للملاهي.. غادرتْ
أيامي بلا رجعة، وعانيت آلامي بلا دمعة.
وحين تؤرقك التساؤلات، وتشعر أنك فقدت الطريق؛ قف بين
يدي ربك للصلاة، واسأله أن يهديك الصراط المستقيم، وأن يمن عليك بخير «بداية».
إضافة تعليق