إن المستقبل بتفاصيله، ودقائقه غيب استأثر البارئ -جل وعز- بعلمه، لكن معرفتنا بالواقع الذي نعيشه، بالإضافة إلى معرفتنا بسنن الله تعالى في الخلق، تمكننا من فهم الخطوط العريضة التي يمكن أن تمضي فيها الأحداث.
فطر الله تعالى الإنسانَ على النظر إلى الأمام؛ لأن
الواحد منا لا يستطيع أن يعيش أيامه الحاضرة من غير تقدير النتائج التي يمكن أن
تترتب على سلوكه، كما أننا حين نقع في أزمة خانقة نجد في الأمل، وانتظار الفرج من
الله تعالى مخرجًا لتخفيف وطأتها عن نفوسنا.
دعونا نقول في البداية: إن المستقبل بتفاصيله،
ودقائقه غيب استأثر البارئ -جل وعز- بعلمه، لكن معرفتنا بالواقع الذي نعيشه،
بالإضافة إلى معرفتنا بسنن الله تعالى في الخلق، تمكننا من فهم الخطوط العريضة
التي يمكن أن تمضي فيها الأحداث، وهذا متاح للإنسان إلى حد بعيد؛ إذ إن من الواضح
أن المستقبل هو في الغالب امتداد للحاضر مع بعض التغيير، فما نزرعه اليوم نحصده غدًا،
كيف لا نعتقد أن هناك تقدمًا منتظرًا في مجالات -مثل الطاقة الشمسية، وتحلية
المياه، والألعاب الإلكترونية، ووسائل الاتصال- ولدينا مئات ألوف الباحثين، الذين
يعملون على تحقيق اختراقات في هذه المجالات؟ وكيف لا، والعالم يتلقّى كل يوم أكثر
من خبر جديد يبشّر بأن المستقبَل سيكون أفضل بكل ما يتعلق بما أشرنا إليه؟
نحن نعرف أن منطق التطور الحضاري يقوم على تقليد من
لا يعرف، ولا يملك لمن يعرف، ويملك، ومن هنا؛ فإننا إذا أردنا أن نعرف مستقبل قريةٍ
من القرى، وما يمكن أن تؤول إليه أوضاعُها الاجتماعية، والعمرانية، فلننظر إلى
واقع مدينةِ اليوم، وإذا أردنا أن نعرف مستقبل مدينةٍ من مدننا، فعلينا أن ننظر
إلى واقع العاصمة، أما إذا أردتَ أن تعرف مستقبل عاصمةٍ من عواصمنا، فانظر إلى
واقع العاصمة في دولة متقدمة.
هذا لا
يعني التشابه التام، أو الغالب، لكنه يعني السير في خطوطٍ متشابهةٍ، والاقتراب في
العديد من التفاصيل.
أود الآن أن أذكر على سبيل الإجمال، والإيجاز ملامح
المستقبل الذي نستشفه من الواقع، وذلك في اثنين من المجالات على النحو الآتي:
1ـ
المستوى الإيماني:
من الواضح جدًّا أن افتتان المسلمين بالعقائد
الإلحادية، والمادية قد تراجع إلى حدٍّ بعيدٍ، لكن الافتتان بأسلوب الحياة الغربية،
وطرق المتعة واللهو في تصاعدٍ مستمرٍّ، وأعتقد أن الأوضاع بعد عشرين سنة من الآن
قد لا تكون أفضل، فالتقدم الحضاري الحادث الآن هو تقدمٌ ماديٌّ أكثر من أن يكون
أخلاقيًّا، أو روحيًّا، وقد تعلمنا من التاريخ أن المزيد من التحضر كثيرًا ما يعني
المزيد من اللهو، كما يعني المزيد من الانفتاح على المتعة، والرفاهية، ومن البدهي
القول: إننا لا نتحدث هنا عن حتميات، وإنما نتحدث عن عموميات، لها الكثير من
الاستثناءات، كما أننا غير متأكِّدين من نوعية ردود الفعل التربوية، والتعليمية
على ذلك، ولكن تظل الأسر المسلمة مطالبةً قبل غيرها بوضع الأسسِ لمقاومة كل أشكال
الانحراف عن المنهج الرباني الأقوم، وأسسِ المواجهة لكل التحديات القادمة،
وعلى الرغم من تحسن الوعي العام، إلا أن من المتوقع أن تتراجع معرفة
الناشئة بالأحكام، والآداب الشرعية، وربما تصبح الأهداف الكبرى من وراء عيشنا على
هذه الأرض غائبةً، أو بعيدةً عن سطح وعي كثيرٍ من الشباب.
2ـ
المستوى الاجتماعي:
للأسرة، والمجتمع بصمةٌ قويةٌ جدًّا في حياة أي إنسانٍ، بل إن الإنسان حين يولد يكون عبارةً عن مادةٍ خامٍ شديدة السيولة، وإن تشكيلها، وقولبتها، وإعادة صياغتها عمل أسريٌّ، واجتماعيٌّ بامتياز.
لدينا على الصعيد الاجتماعي عدد من التوقعات، منها:
-
تراجع احترام الصغير للكبير، والطالب للمعلِّم، وتراجع احترام العادات والتقاليد
الاجتماعية على نحوٍ عامٍّ.
-
زيادة مساحات الحرية الشخصية، وولادة منطقٍ جديدٍ، يجعل سلطة المجتمع على أفراده
أقل سطوةً.
-
سيكون الاهتمام بعلاقات القرابة، والنسب أقلّ، وقد يصل إلى حد التلاشي في بعض
البيئات.
-
دوائر الأصدقاء ستكون أضيق، ولكن علاقة الصداقة ستكون أعمق.
-
في الماضي كان الناس يميلون إلى أن تكون أفراحهم جماعية، كما أنهم كانوا يقفون إلى
جانب بعضهم بقوة في أيام الشدة، وهذا سيتغير في المستقبل إلى حدٍّ بعيدٍ، حيث
سيصنع الناس أفراحهم على نحوٍ فرديٍّ داخلَ الأسوار العالية، وسيكون الاكتراث
بالمصائب، وبمن تحل بهم أقل بقليل مما هو موجود اليوم.
-
سيكون مطلوبًا من كل واحدٍ من الناس أن يكون أكثر لطفًا في خطابه، وتعامله، وستكون
مراعاة مشاعر الآخرين أحد أهم متطلبات العيش في مجتمع.
هذه التوقعات تحتاج من معاشر المربين وعيًا عميقًا
حتى يُعِدّوا الأجيال الجديدة للاستفادة من فرصها، ومواجهة تحدياتها، وخير سبيل
للحصول على ذلك الوعي هو القراءة في الكتب التربوية الرصينة.
إن الثقافة التربوية الجيدة تقينا شرور تكرار
الأخطاء، والمجيء المتأخر بعد الحدث.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
إضافة تعليق