قال صاحبي: كان أي إنجاز في السابق يشعرني بالسعادة، أمّا الآن فمهما حققت من إنجازات في الواقع لا أجد الشعور بالفرح الذي كنت أجده من قبل، بل أشعر أحياناً بعدم الارتياح .. كأنني أفتقد شيئاً ما لا أدري ما هو!!
قال صاحبي: كان أي إنجاز في السابق
يشعرني بالسعادة، أمّا الآن فمهما حققت من إنجازات في الواقع لا أجد الشعور بالفرح
الذي كنت أجده من قبل، بل أشعر أحياناً بعدم الارتياح ..
كأنني
أفتقد شيئاً ما لا أدري ما هو!!
هناك
سؤال يؤرقني، ماذا بعد كل هذا؟!
قلت
لصاحبي : ما أنت فيه الآن أمر طبيعي جدًا!! ولكني استبشرت خيراً كثيراً بقولك:
يؤرقني التساؤل لأني على يقين أنه لا يجد الإجابة إلا من يؤرقه التساؤل ..
أتمنى أن تجد في هذه المقالة ما يجيب تساؤلك ..
· لحظة اليقظة
..
عندما تصل إلى مرحلة معينة من النجاحات و الإنجازات؛
ترسل إليك ذاتك رسالة مفادها أنه لا جديد يلوح في الأفق.!
وهذه الرسالة في الحقيقة تعني أنك فد بدأت مرحلة
"اليقظة" التي هي "انزعاج القلب لروعة الإنتباه من رقدة الغافلين
.. فمن أحس بها فقد أحس والله بالفلاح" . ([1])
أنت الآن ـ يا صاحبي ـ تشعر ألماً يسببه لك الانزعاج من
الماضي، وعدم الارتياح للحاضر، والقلق من المستقبل؟! ..
أنت الآن ـ يا صاحبي ـ تتوارد على خاطرك الأسئلة
الوجودية من مثل : من أنا؟ .. ماذا أريد؟ .. ما نهاية كل هذا؟ .. هل سأستمر هكذا
بقية حياتي؟
وكلها أسئلة تعني أنك في حاجة إلى رؤية أو طريق بديل
تسلكه في رحلتك لبلوغ أهدافك، ولكنك لا تدري كيف؟
أنت الآن ـ يا صاحبي ـ
تشعر أنه لا يمكنك الاستمرار بنفس طريقة حياتك السابقة و أنه من الضروري أن
تكون هناك طريقة أخرى، ولكن ما هي هذه الطريقة؟
أنت الآن ـ يا صديقي ـ على يقين أنه إذا كانت كل الطرق
تؤدي إلي الهدف بتوقيت مختلف، فالواجب أن تتجنب الطرق الطويلة، طرق الاعتباط و
الاستهواء، وبلغة التربية : يجب أن تطبق الطرق التي توجه ممارساتك في اتجاه ترك
الأثر .. ، فلا تستخدم الطرق التي تحقق النجاحات والأهداف الزائفة دون النظر إلى
عواقب هذا الخداع والتلاعب، لأنه إذا ضعفت الثقة فلن يكون نجاحك دائماً..
فاعلم ـ يا صديقي ـ أنك مسؤول عن كل من وثقوا بك، وأن
هذه المسؤولية تكمن في تمكينهم من أداء أدوارهم بشكل أفضل من خلال تطويرهم وتعليمهم
المهارات التي تساعدهم على الإنجاز ةتحقيق الأهداف.
• وعيّ جديد..
الناظر للسماء يجد فيها نجوماً، و لكن أن ينظر إنسان
لهذه النجوم و يرسم بينها خطوطاً متصلة فيري فيها ما يطلق عليه "الدب
الكبير" مثلاً ، فهذا ما يحتاج إلى وعي جديد يري ما يراه الناس من أحداث، و
ما هو موجود في المحيط، لكنه يمتلك البراعة في رسم الصلات و إعطاء التفسيرات و رسم الاحتمالات و تقديم البدائل لأنه يعيّ
الفرق الكبير بين تنفيذ العمل بطريقة أفضل، و اختيار العمل الأكثر أهمية ..
فالأول هو الكفاءة في العمل، والثاني هو اختيار الأولويات الصحيحة منذ البدء ، فقد يكون عمل المرء فعالاً ولكنه بقوم بمهمة
ثانوية .! .. ولذلك فإن لترتيب الأولويات أسبقية لأن المهام أكثر بكثير من الموارد
المتوافرة للقيام بها ..
إن الإنسان إذا ما أراد السفر من مكان معين إلى آخر ،
فإنه يحتاج إلى التخطيط مسبقاً لهذا السفر، واختيار وسيلة السفر، ثم يحتاج إلى
التأكد من توفر المال اللازم لتحمل تكاليف السفر ، والتكاليف الأخرى مثل الإقامة
.. والتأكد من وجود جواز سفر، والبحث إذا ما كان هناك حاجة للحصول على تأشيرات
دخول وكيفية الحصول عليها، ومن سيقوم بالعمل مكان الشخص أثناء غيابه ؟!
وكذلك ما نطمع أن نتركه من أثر، لا بد له من التخطيط
الذي يجعل عملنا في إطار من خطة شاملة ومستوعِبة لكافة المراحل دون أن نعاني فجوة
بين العمل وبين الهدف، أو ضبابية في المراحل تعجزنا عن تحديد بداياتها ونهاياتها.
ولا شك أن هذه الخطة تبقى جسداً بلا روح، لا تدب فيها
الحياة إلا أن يتولي تنفيذ أفكارها عناصر جادة متحرقة للسعي و متشوقة لتحقيق
الإنجاز في أرض الواقع، لأنها تدرك أنه من الخطأ كل الخطأ أن نتصور أن نجاحنا في
تحقيق أهدافنا يمكن أن يحدث بطريقة سحرية غامضة الأسباب.!
ولتربية تلك العناصر المتحرقة والمتشوقة للإنجاز؛ لا بد
من التركيز على الكيف لا الكم و توفير المناخ التربوي الذي يتيح الفرصة للمتربين
لتطوير أنفسهم واكتساب المهارات، لأن الطائر لا يستطيع التحليق إن وضعناه داخل قفص
بدعوى حمايته من الطيور الجارحة التى قد يواجهها إذا حلّق عالياً ..
ثم العبور مع المتربين من روح "القطيع" والعمل
عبر "التقليد الأعمى" إلى روح "الفريق" والعمل على
"بصيرة" (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ
أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِين)
[يوسف:108].. مع الأخذ بأكبر قدر من المبادرات الفردية، كما وصف النبي -صلى الله
عليه وسلم- المسلمين "يسعى بذمتهم أدناهم" .. وكما قبل صلى الله عليه
وسلم مبادرة امرأة من المسلمين "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ".
ولا شك أن من تمام الوعي الجديد أن تقف على أرضية صلبة
من الأفكار الصحيحة النافعة التي لا تتغير ولا تتبدل لأن ..
• السلوك مرآة الفكر
..
سلوك الإنسان هو نتيـجــة لأفكاره، فإذا تغيرت أفكاره
بجهده هو أو عن طريق جهد غيره فإن سلوكه يتغير، وهذا التغيير قد يصل إلى النقيض،
كأن يتحول الإحجام إلى إقدام أو العكس ..
فهناك فكرة قد تجعل إنساناً ينحني ويسجد لصنم من
الحـجــر، وفـكـــرة أخرى تجعل إنساناً آخر يحمل الفأس ليكسر ذلك الصنم ويحطمه!
وهذا يعني أن هناك علاقة عضوية بين الفكرة والممارسة،
فالقراءة تمدنا بالفكرة التي تدفعنا إلى تصحيح الممارسة، والممارسة تخلق الدافعية
نحو القراءة، أي أن الأفكار تُنَمِّي وتَدْفع الممارسة، والممارسة بدورها تُخَصِّب
الأفكار وتُعَدِّلها وتعطيها معناها، فتتكامل أفكارك وسلوكياتك في مسار واحد نحو
تحقيق غايتك والرسالة التي تعيش من أجلها..
و ليس العبرة أن تقرأ مائة كتاب أو ألف كتاب، بل العبرة
.. ماذا نقرأ ؟ .. وكيف نقرأ ؟ .. فنوعية الغذاء الفكري هامة جداً في إنتاج نموذج
الإنسان .. كما أن طريقة القراءة مهمة أيضاً، لأن بعض أنواع القراءة تجعل العقول لا
تتقبل الصالح من الأفكار، كما لا تُنبت الأرض غير المستصلحة الجيدَ من البذور، ولا
تخرج الطيبَ من الثمار .. ولذلك فإن "من يقودون العالم هم الذين يعرفون كيف
يقرأون"([2]).
لقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم عجزنا عن القراءة
المنتجة، وكيف أن القراءة المطلوبة ليست هي مجرد قراءة الأحرف، فيما رواه زياد بن
لبيد ، فقال: " ذكرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقال: "وذاك
عند ذهابِ العلم، قُلنا يا رسولَ الله : وكيف يذهبُ العلمُ؟ ونحنُ قرأنا القرآنَ
ونُقرئه أبناءَنا، وأبناؤنا يُقرؤون أبناءهم، فقال: "ثَكِلتْكَ أمُّكَ يا
ابنَ لبيد ، إنْ كنتُ لأراكَ من أفـقهِ رجلٍ بالمدينة ، أوَ ليس هذه اليهودُ
والنصارى يقرءونَ التوراةَ والإنجيل، ولا ينتفعونَ ممَّا فيهما بشيءٍ؟!
وهذا يعني أن القراءة المطلوبة هي القراءة التي تبحث عما
تحمله الكلمات من جنين الأفعال، وليست القراءة التي تنظر إلي الكلمات علي
أنها مجرد صورة بيانية خلابة ترف في الهواء، أو مجرد كمية
من المداد علي صفحة من الورق، فكل كل كلمة لا تحمل جنين عمل، هي كلمة ميتة مدفونة
في نوع من المقابر ، نسميه الكتب.!
• حُلم ترك الأثر
..
يغلب على أحاديثنا التعرض لحلم ترك الأثر، ولكننا قلما
نتحدث فى كيفية تحقيق هذا الحلم .. وقلما نتحدث عن الشروط التى يجب توفرها حتى
يصبح ما نحلم به واقعاً وملموساً .!
لا شك أن المبادئ الصحيحة هي ما تستلهم منه معنى حياتك
وتبذل من أجلها الوقت، و ما تحمله من قيم هي المعايير المستقاة من تلك المبادي،
فمن خلال القيم تقوم أنت بتحديد أهدافك الكبرى وترتيب أولوياتك، وتضع المعايير
التي تحكم بها على الأشياء، وما هو صواب وما هو خطأ..
وكلما كانت مبادئنا واضحة وضوح الشمس؛ تمكنت من
الاستمرار في طريق حلمك، وكانت تلك المبادئ دليلك ومرشدك طوال رحلة حياتك.
وأنت إذا تأملت قصص أولئك الذين اختاروا أن يعيشوا
حياتهم من أجل الوصول إلى أحلامهم وترك الأثر في حياة الناس؛ وجدتهم لا يحدثون
الناس عن أفكار جامدة ومباديء لا روح فيها، ولكنهم ينقلون لهم مشاعرهم، ويتواصلون
معهم بقلوبهم ووجدانهم ..
فكلما تعرفت أكثر على مبادئك وأحكمت نظامها كانت هي
العمود الراسخ في اللحظات الحالكة ووسط الأمواج العاتيه، تركن إليها وتتشبث بها؛
فترشدك إلى الطريق حين تحتار، وتهديك إلى الصواب وسط زحام الأفكار ..
فإذا امتلكت "معنى" يمثل لك سبب وجودك في هذه
الحياة؛ فقد وجدت الاجابة التي تسعى إليه طيلة حياتك .. ومن ثم تفرح بنجاح خطواتك
في طريقها، وتقلق حين تقصر فيها، وتشعر بالفخر إذا حققت منها بعض ما تريد من
إنجازات، بل تبذل أقصى جهدك ووقتك ووسعك كله في سبيل خدمتها..
لقد أدركتَ أن لك غاية في هذه الحياة هي أكبر من مجرد
المكاسب المادية والمعنوية كالشهرة والمال وتحقيق الذات والإنجاز، هذه الغاية
مرتبطة بشيء أكبر منك، شيئ هو سيرة حياتك والمساحة الأكبر التي تأخذمعظم أوقاتك
جهداً وعملاً وانشغالاً لأنك ترى أن "المتعة الحقيقية أن تعمل من أجل رسالة
تحملها وتبذل في سبيلها كل حياتك لأنك لا ترى الحياة كشمعة صغيرة، بل كمصباح رائع
بمقدورك حمله والحفاظ عليه مضيئاً يشع ضوءاً قدر المستطاع قبل أن تسلمه إلى الجيل
التالي"([3]).
قد يصيبك الفتور والضعف وهو من طبيعة البشر ، فاحرص أن
تظل على الطريق ـ وإن أبطأت المسير ـ فلا تتوقف أو تنحرف عن مسيرة تحقيق رسالتك،
واعلم أنك قد تهرم، وقد تُغضّن السنون وجهك،ولكن التخلي عن رسالتك هو ما يغضن روحك([4]).
فأنت هنا في حاجة إلى ضبط خطواتك من "لحظة
اليقظة" إلى إرساء "الوعي الجديد" إلى مجاهدة النفس ليكون
"السلوك مرآة الفكر" إلى التعرف على أولئك الذين يشتركون معك في
"حلم ترك الأثر" ليكون كل ذلك مقدمة لـ
• ميلاد القلب المرجعي...
لقد مسّت الحاجة إلي منهاج تربوي يسعى إلى تكوين
"نواة" المربين الأكثر فعالية التي تجذب إليها "صفوة" الفكر
والتجارب" و"خبرة" القدرات والإمكانات ليتكون من هؤلاء جميعاً
"طليعة" تكون هي المقدمة لميلاد "القلب المرجعي" المُشبّع
بالعلم الشرعي، وبالفكر الاستراتيجي، وبفهم الواقع المحلّي الإقليمي والعالمي ..
فهذا ما قام به " أئمة الفقه الكبار مثل: أبي حنيفة
ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل ـ رحمهم الله جميعاً ـ فهم لم يؤسسوا كياناً
تنظيمياً، بل "مرجعيات" فقهية ترتكز على "المصداقية" في
التربية وترك الأثر ، ضمن إطار عمل محمود شرعاً (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ
يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104] .. و منصور قَدَراً "لا
تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي
أمر الله". [رواه مسلم].
فها هو ذا" الإمام مالك في محنته يطلق نصاً حراً في
صورة فتوي لا تتعدي كلماتها الثلاث، وهي أشبه بالشعار الذي يحمل نداء يترك أثراً
في الأمة "ليس لمستكره يمين"، ويضرب محاولة جعل الاستبداد عقداً وعقدة،
ويوصل رسالته إلي الجميع "رعية ـ علماء ـ حكام " من أقرب طريق، وبكلمة
جرت مجري الأمثال " ليس لمستكره يمين " نصاً حراً أنتج فعلاً حراً
وسلوكاً حراً ..
وها هو الإمام أحمد بن حنبل يسير مسيرة من سبقوه من
علماء يتعرفون علي أصول وظيفتهم في إنتاج النصوص الحرة، فحينما واجه الإمام
امتحاناً عقدياً حول القرآن، أهو قديم أم مخلوق ؟! أجاب الإمام أحمد بأربع كلمات
"أقول كلام الله ولا أزيد"، و هذا الرد شكّل نصاً حراً ظل فاعلاً حتي
اليوم .
وهكذا هو كل قلب مرجعيّ يحمل نصاً حراً دافعاً للفعل
ورافعاً للفاعلية وتاركاً للأثر في واقع الحياة.
• ممتن.. سأفعل.. قلق
قال صاحبي: أنا ممتن لكل كلمة قرأتها في هذه المقالة.
سأفعل كل ما
تعلمته منها ..
وأنا جاهز للبدء في تحمل التبعات ..
ولكن..
قلت: ولكن ماذا؟
قال صاحبي: أنا قلق من المستقبل.!
قلت: ولم القلق؟
قال صاحبي: لأني سأكون وحدي في ميدان ممارسة الفكرة،
ومواجهة كل التحديات والصعوبات ..
قلت: ومن قال إنك وحدك في هذا؟
قال صاحبي: ماذا تقصد؟
قلت: كل ما تعلمناه مجرد بداية لبناء الوعي لابد لها من
خطوات نقوم فيها بإعادة ترتيب أفكارنا وضبط مشاعرنا ومراقبة سلوكياتنا و بذل الجهد
لنترك خلفنا ما ينفع الناس ..
فكن رجلًا إن أتوا بعده *** يقولون : مرَّ وهذا الأثرْ.
قال صاحبي: ادع لي ألا تضعف عزيمتي أو يفتر جهدي ..
قلت: تذكر وعد
ربك (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ
لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
إضافة تعليق