يحيا الإنسان بجسده وروحه في كون متغيّر، وزمن متغيّر، يحاول في كل يوم أن يتعلم شيئًا جديدًا ليوازن بين زمانه والجسد والروح، فإذا توقف عن التعلم لشهوة أو إحباط، أو ترك الاستفادة من تجارب الحياة؛ فإنه يشعر بالغربة عن زمانه
يحيا
الإنسان بجسده وروحه في كون متغيّر، وزمن متغيّر، يحاول في كل يوم أن يتعلم شيئًا
جديدًا ليوازن بين زمانه والجسد والروح، فإذا توقف عن التعلم لشهوة أو إحباط، أو
ترك الاستفادة من تجارب الحياة؛ فإنه يشعر بالغربة عن زمانه، ويبدأ في ترديد
عبارات من مثل: "لم يعد الزمان كالزمان"، "كانت للأزهار رائحة"،
"زهرة واحدة كانت تغمر بالشذى حيًا كاملاً"، "كان لرمضان رائحة
وحضور"، "كانت هناك رائحة مميزة للعيد"، "لم يعد شيء في
العالم كما كان"، "هذا التفاح الذي تأكلونه لا أقتنع بأنه ليس من
البلاستيك إلا عندما أقضم منه قطعة!".
وهكذا؛
عبارات كثيرة يرددها الإنسان الغريب عن زمانه للتأكيد على أن الحياة تغيرت ولم تعد
هناك بركة، بينا الحقيقة: إن الحياة لم تتغير، وإنما تغير هو.
نعم
يا صديقي؛ حين تعيش في "الماضي"، تعيش في زمن متخيل تجتر ذكرياته، وتشعر
بالشجن لأنه لم يعد موجودًا؛ فيضيع حاضرك، وحين تعيش في "المستقبل" تعيش
في زمن غامض لا تعرف كيف سيأتي، تخشاه أحيانًا وتأمل فيه أحيانًا أخرى، بينا يضيع
حاضرك!
أمّا
حين تعيش الحاضر، فإنك تعيش الزمن الحقيقي الذي يجب أن تشعر به حتى لا تعيش خارج
الحياة، وتفاجأ يومًا ما في حياتك أن الزمن قد ترك نذره كما لو كانت توقيعًا على
وجهك في المرآة.
هنا، مهما كان نجاحك كاسحًا، أو فشلك كسيحًا، ستشعر أن كل شيء يبدو باهتًا ثقيل الظل، تتمنى أن يمر سريعًا ليأتي المستقبل الجميل، فلا يأتي هذا المستقبل الجميل أبدًا، لأنه حين يأتيك في شكل لحظة حاضرة لا يجدك موجودًا تنتظره، بل يجدك تضيّع لحظة الحاضر انتظارًا للحظة متخيلة لا تأتي أبدًا!
بداية التغيير:
فكّر
في الماضي وخطط للمستقبل من خلال "الآن"، بمعنى ألا تعيش في الماضي
والمستقبل، وتزور الحاضر زيارات خاطفة، بل تعيش "الحاضر" وتقوم بزيارات
للماضي للاعتبار، وزيارات للمستقبل بالتخطيط والاستعداد.
وبداية
التغيير هو صياغة النفس من خلال التمسك بذلك "الحبل" النازل من السماء
ليرفعنا من حياة كالموت إلى مرتبة عليا خلقنا الله لها، وبشرنا رسولنا بها، فقال:
"أبشروا أبشروا؛ أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟!"،
قالوا: نعم، قال: "فإن هذا القرآن سبب؛ طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم،
فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدًا". [السلسلة الصحيحة 713].
القرآن
سبب طرفه بيد الله، والطرف الآخر بيدك، فإن أمسكت به؛ كان سببًا في صعودك، وإن
قطعته؛ انقطعتَ عن الحياة، والمشكلة ليست في الحبل، ولكن في كونك أنت لم تجعل منه
سببًا لصعودك: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا
عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عليمٌ)
[الأنفال:53]، (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا
بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا
لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ) [الرعد:11].
إن
الله أوجدنا في نعمة، ونحن من يحافظ عليها من خلال التمسك بحبل الله، أو يبددها
حين يترك حبل الله بسبب من شهوة أو شبهة؛ فيسقط إلى الأرض.
فإذا
أردنا الارتفاع عن الحضيض والرجوع إلى ما كنا فيه من نعمة وارتقاء؛ فلا بد من
"الإمساك بالحبل الذي كان يرفعنا"، ومد أيدينا إلى السماء، ومحاولة
الارتقاء عكس جاذبية الجسد والطين!!
يا صديقي..
إن
كنت في موضع غير طيب وغير صالح، وأردت أن تغيّره؛ فليكن طريقك إلى التغيير هو
تغيير ما بنفسك؛ لأن النفس هي أداة التغيير، ولأن تغيير نفسك هو طريقك إلى تغيير
من حولك.
جرّب
أن تتوجه إلى نفسك لتبحث عن النور بداخلها؟!
جرّب، وسيدهشك أنه بينما تبحث أنت عن النور؛ سيأخذك النور إلى رحلة تغيير حقيقية؛ فتدرك أن قلبك قابل للترميم. فإن سألتك نفسك: أين أجد شفاء روحي؟! فاحذر "علمانية الروح" حيث فصل الروح عن الحياة، واختزالها في النسك والشعائر والمظاهر التعبديّة دون غيرها، واعلم أن شفاء روحك في أن تصنع لها شيئًا جديدًا في كل يوم، وهذا الشيء الجديد ليس دائمًا شعيرة من الشعائر، بل يمكن أن يكون بسمة تزرعها على شفتي طفل، أو إحسانًا إلى يتيم، أو غيرها من أشياء تعطي نفسك شيئًا جديدًا؛ فلا يكون يومها كأمسها، بل تصبح كمرآة تعكس الخير عليك وعلى غيرك من خلال:
علم تغيير التصورات:
الإنسان
يتغير، والتغيير يتم في النفس، والسلوك يتبع تغيير النفوس، وتغيير ما بالنفس هو من
عالم الفكر، وعالم الفكر يتغير بالكلمة، لذا بدأ القرآن التغيير بكلمة
"اقرأ": (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق:1]، وثنّى
بالقلم وما يسطرون: (ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم: 1]، وثلّث بالرفع
بالعلم: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11]، وربّع بدمج المعرفة بالإيمان: (شَهِدَ
اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ
قَائِمًا بِالْقِسْطِ) [آل عمران: 18].
وما
خوفنا من التغيير إلا بسبب من "الجهل" و"الكبر"؛ فأمّا
"الجهل" فيدفع الإنسان إلى الاستهانة بقدر نفسه؛ فيفقد كل رغبة في
الإصلاح أو التغيير، وأمّا "الكبر" فيحمل الإنسان على الشعور بعدم
الحاجة للحق، وازدراء الناس، والتعالي عليهم، وتدبّر معي آيتين من وثيقة تغيير
الإنسان "القرآن": (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى
أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا
آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) [الزخرف: 22، 23 ].
فإذا
كان الذي منعهم من الإذعان للحق هو "الجهل" في بداية الأمر؛ فإن الآية
الثانية تخبرنا بأنه قد أتى هؤلاء القوم النذير ليبلغهم الحق، إلا أنهم بطروا هذا
الحق، والبَطَر هو الشعور بعدم الحاجة للشيء، فهم يظنون أنهم على الحق ولا حاجة
للحق من أحد، وهذا أحد أركان الكبر كما عرّفه محمد -صلى الله عليه وسلم-:
"الكبر بَطَرُ الحقِّ وغمط الناس". [رواه مسلم].
ومن
هنا كانت أنفع طرق التعلم "التلقي والتساؤل" بمعنى عدم التصديق على أية
معلومة بمجرد أنها وردتنا ممن نحب، بل مقابلة المعلومة بمجموعة من الأسئلة تحول
هذا القدْر من "المعرفة" إلى "علم" راسخ.
وهكذا،
في رحلتنا إلى العلم لا نستصحب مفاهيم مسبقة، ولا نخجل من التساؤل ولا نتكبر عليه،
بل نمارس مرونة في "التلقي" ممن أمامنا، وندخل دون خوف إلى
"نفق" التساؤل الذي يحمل في نهايته "نور" العلم الذي يؤدي إلى
التغيير: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، واستغفر لذنبك) [محمد: 19]،
ذلك أن العلم "تغيير التصورات لا حفظ المعلومات".
وكلما
كثرت المعرفة وكثر التساؤل، تحركنا في اتجاه التغيير دون حد نقف عنده؛ عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-: "إِنْ
قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا
تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا". ولفظ أحمد: "إِنْ قَامَتْ
عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا". [صححه
الألباني].
لماذا
أقوم بالتغيير هنا مع أن القيامة ستقوم حالًا؟! لأن هذه الفسيلة خلقها الله لتغرس،
وهي في يدي فلا بد أن أغرسها، وكأن الرسالة هنا أن عمارة الأرض وفق منهج الله هي
دوري، فإذا قامت الساعة وأنا أغرس، فأنا أكمل دوري فأغرسها، وهذا ما تذكره لنا
سيرة عمر بن الخطاب حين قتل في محرابه، فلما دخل عليه شاب وهو في النزع الأخير،
أرشده عمر -رضي الله عنه- إلى رفع ثوبه لأن ذلك أتقى وأنقى وأبقى!!
إنه
-رضي الله عنه- يتحرك بمفهوم "الأمانة" التي حملها، وبمفهوم "التغيير"
الذي تربى على أنه يبقى مصاحبًا للعبد حتى الموت.
يا صديقي..
إن كنت تؤمن أنه "لا يجد الإجابات إلا من يؤرقه التساؤل"،
وأن "حضور التساؤل أهم من صواب الإجابة"؛ فأنا أدعوك إلى تسلق مرتفع
البحث عبر التساؤل لينتهي بك سيرك إلى قمة الحكمة.
ولكي تصل إلى هذه القمة:
- احذر أن تفقد الدهشة أو يبتلعك الاعتياد.
- توقف مع كل فكرة لتتأملها وتتساءل عنها.
واعلم أن هذه هي الطريقة الأصوب للتعلم، ثم انطلق من "العلم" إلى "التغيير" عبر:
الدفاع عن اليقين:
أوضاع
أي مجتمع هي نتاج اهتماماته، وهذه الاهتمامات هي نتاج منظومة المجتمع القيمية،
وهذه المنظومة هي قوالب ذهنية ورثها أفراد المجتمع عن أسلافهم، ومن ثم تستغرق
أفراد المجتمع اهتمامات محددة لا تخرج عنها.
هنا
منطقة راحة كل فرد التي بناها له المجتمع لبِنَة لبِنَة بسنين عمره، ولذلك فهو
يقاوم أي تغيير يمس هذه المنطقة، حتى لو كان الأفضل خارجها!
فإذا
أردت الوصول إلى هذا الأفضل؛ فأنت في أمس الحاجة أن تجيل بصرك وتنفذ بصيرتك لغربلة
موروثاتك، وأن تمارس كامل حقك في المراجعة والاستبعاد، أو القبول والإبقاء؟! وهذا
التحرر العقلي من سلطان الآباء والعادة والمسلمات وإعادة النظر في الأفكار دومًا
لدحضها أو تطويرها والزيادة فيها والحذف هي روح التغيير.
قيل
للمُحدث الأعمش: أنت تكثر الشك! فقال: تلك محاماة عن اليقين.
وهذا
-يا صديقي- أرفع أنواع النضال المعرفي؛ ألا تُصدق شيئًا إلا بدليل صحيح وبعد فحص.
ربما
شعرت بالوحشة والألم حين تحاول تغيير منطقة راحتك، وهذا شعور طبيعي لأن الإنسان
مجبول على أنه يألف ويؤلف، ويؤلمه مفارقة عوائده، ولكن عاقبة ترك العوائد قوة
ونشاطًا في طريق التغيير، ذلك أنه "إنما يجد المشقة في ترك المألوفات
والعوائد من تركها لغير الله، أما من تركها صادقًا مخلصًا من قلبه لله؛ فإنه لا
يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب، فإن صبر على
تلك المشقة قليلاً استحالت لذة، والعوض أنواع مختلفة، وأجلّ ما يُعَوض به: الأنس
بالله ومحبته، وطمأنينة القلب به، وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه تعالى"([1]).
فاستعن
بالله على التحرر من منطقة راحتك حيث الركود في ظل أفكار وممارسات بلا دليل؛ لأنك
قد اخترت الله إلهًا وربًا ومالكًا، واخترت أن تحيا بـ"مركزية الله، واعلم أن
المتساقطين على طريق التغيير هم الذين "يتصلبون" شيئًا فشيئًا كُلّما
تقدّم بهم العُمر على موروثات خاطئة وممارسات فاسدة؛ فلا يقدرون على مصافحة
التغيير من يده الأكثر عمقًا، وهي "النقد" القادر على اختراق السَطح
والسَطحيّ، وسبر أغوار المَعنى الكامن خلف البَدهيّ، والنظر "الموضوعي"
الذي يرى الشيء أو الحدث كما هو في الواقع، وليس كما أريده أنا أو أنت.
وهنا
لا بد من التأكيد على الفرق الكبير بين النقد بصيغة المتكلم، والنقد بصيغة الغائب؛
النقد بصيغة "نحن المسلمين لا نزال نعاني من كذا وكذا"، والنقد بصيغة
"المسلمون لا يزالون يعانون من كذا وكذا"؛ فالأولى نقد ذاتي، والناقد
داخل الدائرة، يشعر بالمشكلة ويحاول الخروج منها ويعلم أنه في النهاية جزء منها، والثانية
تُشعر بالتعالي والفوقية -حتى لو لم يقصد الناقد ذلك- كما لو أن الناقد قد تخلص
تمامًا من المشكلة ولم تعد مشكلته هو.
يا صديقي..
ليست
كلماتي لك كلمات ناظر يهوى الحديث عما يراه، أو يحب النظر إلى الآخرين من علٍ
ويملي عليهم الدروس، ولكنها معاناة فرد من أفراد مجتمع ينشغل مثلك بالفعل اليومي
الذي قد ينسيه الفكر المنهجي بعيد المدى القائم على البحث دون ملل، والسؤال دون
خوف، والانفتاح المعرفي دون حدود، ومن ثم لا يدرك الفرق بين:
التغيير لا التغيّر:
التغيير
هو التحول من حال إلى أخرى، وهو يختلف عن التغيّر، والفرق بينهما هو الفرق بين أن
أكون مصدرًا للتغيير، وبين أن أكون ضحية له؟! كيف؟!
حين
أقف على شجرة، بينما يحاول آخرون قطعها، فسيتغير حالي بعد وقت لأسقط، ولكني لست من
صَنع هذا "التغيّر"؛ وإنما "الفاعلون" هم من قطعوا الشجرة، وأنا
في هذه الحال "مفعول بي"، أحيا في موقف "المنتظر" فعل الآخرين
في حياتي.
فأين
تعيش أنت؟! هل تعيش في مربع "المفعول به"، أم مربع "الفاعل"؟!
وإن كنت تعيش فى مربع المفعول به، فهل تعرف شروط الانتقال من مربع المفعول به إلى
مربع الفاعل؟!
إن
هذه الرحلة للانتقال من مربع المفعول به إلى مربع الفاعل، تحتاج أن تمتلك
اختياراتك، ولكي تمتلك اختياراتك، فلابد أن تجد تساؤلاتك، وإلا فستجد نفسك تبحث
بين اختيارات الآخرين الذين وجدوا تساؤلاتهم.
هل
عجبت أن تكون التساؤلات -وليس الإجابات- هي طريق الخروج إلى مربع الفاعلية؟!
إن
كل إبداع أو ابتكار كانت بدايته تساؤلًا، كانت بدايته تمردًا على مساحات الإجابات
المتوفرة، فهل آن لك أن تخرج من "ظل الإجابات" إلى شمس
"التساؤل"؟!
لا
سبيل غير المحاولة والمجاهدة: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69]، لتكون فردًا من
هذه الأمة: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ
أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ
وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران:110].
تأمل
كلمة "للناس"، لست تعمل على نفسك، ولست تابعًا لغيرك، أنت مُغيّر لغيرك،
وشاهد على الناس، بل أنت مطالب أن تكون مغيّرًا للمتقين (وَاجْعَلْنَا
لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان: 74].
وفي
الحديث عن حذيفة، وابن مسعود -رضي الله عنهما- قالا: قال رسولُ الله -صلى الله عليه
وسلم-: "لا يكُنْ أحَدُكمْ إمَّعَة، يقول: أنا مع الناس، إن أحْسنَ الناسُ
أحسنتُ، وإن أساؤوا أسأتُ، ولكن وَطِّنُوا أنفسكم إن أحسنَ الناسُ أن تُحْسِنُوا،
وإن أساؤوا أن لا تَظلِمُوا". [أخرجه الترمذي].
"لا
يكُنْ أحَدُكمْ إمَّعَة"، ولكن وطنوا أنفسكم "اعرف الظروف التي حولك،
وتصرف على أساسها"، إذا أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن تتجنبوا إساءتهم.
إن
أهم شروط الفعالية هي شعور الإنسان أنه يملك شيئًا يقدمه للآخرين، وأن هؤلاء
الآخرين بحاجه إليه، بينما إذا لم يمتلك ما يقدمه للآخر، فإنه ينطوي ويخمل، بل
ربما وصل به الأمر إلى الانتحار!
وهكذا كان الجيل القرآني الأول؛ شعروا بأن عندهم ما يحملونه لعالم؛ فقال أصغر جندي في عسكرهم معبرًا عن مهمته: "إن الله ابتعثنا لنُخرِجَ من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة". فهو رضي الله عنه يرى أنه مستنفر لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، يرى أن العالم في حاجة إليه، وأنه من:
القِلّة المؤثرة:
هناك فريقان في هذه الحياة، فريق في حالة انتظار،
تتلوها حالة اتباع لمن يدلهم على الطريق، وفريق آخر هم من ينتظرهم الفريق الأول
ليمشوا وراءهم فيما يختارونه من طريق! وهذا الفريق الثاني هم "القلة
المؤثرة" التي آمنت أنها تستطيع؛ فحاولت، فغيرّت.
وأنا أريدك أن تكون من هذا الفريق الثاني، الذي يعمل
كفاعل وليس كمفعول به، واضعًا حياة الأنبياء نصب عينيك، موقنًا أن شجاعتك على
الحلم، وهمتك في دفع الثمن، وإرادتك في التنفيذ، هي مفاتيحك للتغيير.
لا تستصغر ما تفعله، ولا تتعجل النتيجة، فكل شيء
يحتاج إلى الوقت والصبر؛ فالأبنية العملاقة تكونت من أحجار صغيرة رصت بجوار بعضها
على مر الأيام.
لا يدفعك الخوف من مواجهة تحديات الحياة إلى الانسحاب
منها لتعيش على هوامشها، أو تعطيها ظهرك وتنكفئ على ذاتك في حالة انتظار أن ينتهي
عمرك دون أن تخوض تجربة الحياة.
لا تفقد جذورك؛ فتميلُ مع كلّ ريحٍ بلا هُويّة وبلا
استقرار، فتدور بك دوامات التفاهة دون أن تملك نفسك عن الدوران.
واحذر.. فالتهديد لَم يَعد بعيدًا،
والمُستهدَف هذه المرّة هو ذاتك أنت التي تقرأ هذه الكلمات! وحين تصيرُ الذاتُ
مُستهدَفة، تصيرُ المُقاومة واجبًا.
فما سُبُل المقاومة؟! وكيف تواجِه قابل الأيام؟! وكيف
تنقذ نفسك من الفساد والتشوه للتعايش مع واقع فاسد مشوه؟!
إن أهم ما يجب عليكَ:
أن تعلم أن هذه العاصفة التي تواجهك إنما
تستهدف تماسكك الداخلي؛ فليكن حرصك الأول ألا تفقد تماسكك الداخلي، وأن يملأ نفسك اليقين
أنك قادر على عبور هذه الأزمة؛ فتُلملِمَ تَبعثُرَكَ، وتُسيطر على اتّزانكَ، لتبدأ
في عبور منطقة الخطر، ذلك أنك إذا لم تقاوم نظامًا، فستتكيّف معه؛ لأن الإنسان لا
يستطيع أن يعيش طويلًا بتصورات وقيم تخالف واقعه، وهو لا بد أن يسعى لتغيير الواقع
المخالف لتصوراته وقيمه، وإلا فإن استقرار الواقع المخالف لتصوراته وقيمه، يهدد
هذه القيم وتلك التصورات بالتغير.
ولذلك فإن عليك أن تحمي تصوراتك؛ لأن
الذي لا يُشكّل تصوراته، سيشكلها له الآخرون، ولستَ مهزومًا في معركة ذاتك وهويتك
وتصوراتك ما دمت تقاوم.
ولكي
تبقى مقاومًا لا بد أن تُربّي في نفسك وغيرك الشجاعة؛ فإذا شعرت أنت خوفًا أو يأسًا،
فاحذر أن تنقله للآخرين! وليكن سعيك الدائم أن تدعم مَن حولَك بكُلّ ما تستطيع،
وخاصّة الدعم النفسيّ والاجتماعيّ لرفع تقديرهم لذواتهم ولتحفيزهم لأن يَسعوا
لتمكين أنفسهم من الصمود في المراحل الصعبة.
فلا تبق -يا صديقي- في موقف "المنتظر"، ولا ترض أن تكون "مفعولًا بك"، بل اصنع أنت طريقة الحياة لنفسك ولمن تحب، وكن من "القِلة المؤثرة".
إضافة تعليق