منذ فترة ليست طويلة قابلت شبابًا، وتشعب الحديث بيننا، أحسست فيهم صدقًا نادرًا ينعكس على سلوكهم وعلاقاتهم وحركة حياتهم، ولكني رأيت أن حديثهم يلفّه اليأس، فقد كانوا يشْكُون: كيف تمر بهم الأيام وتستنزفهم الليالي دون أي بصيص من أمل!

 منذ فترة ليست طويلة قابلت شبابًا، وتشعب الحديث بيننا، أحسست فيهم صدقًا نادرًا ينعكس على سلوكهم وعلاقاتهم وحركة حياتهم، ولكني رأيت أن حديثهم يلفّه اليأس، فقد كانوا يشْكُون: كيف تمر بهم الأيام وتستنزفهم الليالي دون أي بصيص من أمل!

ثم سألوني عن مدي تفاؤلي أمام كل ما يحدث في الواقع من أمور تدفع بأكثر الناس أملًا إلى يأس محقق؟! هكذا، وكأنهم يريدون أن يعرفوا هل مازال أملي على قيد الحياة!!

هنا أحسست تقصيري أن أبقي ناظرًا إلى جهود أولئك الشباب وهي تذبل أمامي، فأقبلت أسير وولجت باب هذا الموضوع: "الأبوة الدعوية"([1])، ودعوت الله أن يمنحني الشجاعة كي أقول ما يجب أن يقال؛ لأن من يشم رائحة الدخان ثم لا يُنذر من حوله، فهو مشارك بشكل ما في إشعال الحريق!!

فكانت هذه المقالة "من أقاصي اليأس إلى منتهى الأمل"؛ حرصًا على سلامة الدعوة والداعية، وتذكيرًا وذكرى لكل الأحبة، سواء أكانوا مربّين أم متربيّن، فالله -سبحانه وتعالى- لم يحدد هُويّة المُذكِّر ولا هوية المُذكَّرين حين قال -جل وعلا-: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات:55]، كما أن العلاقة بين أجيال المربيّن والمتربين، لا تتحدد ملامحها إلا من تلاقح الأفكار والخبرات، فقد يبدع المتربي ويطور بعض وسائل الدعوة، كما لا يستطيع منصف للحق نكرانَ فضل المربيّ بما وضعه من بذور الخير، وما استخلصه من العبر والخبرات، فنصائح المربي لا تلغي جهد المتربي ولا تتهم عقله، وإنما هي محاولة لوضع مصباح الكتاب والسنة في زجاجة التطبيق النبوي ومشكاة سنن الله في الإنسان والحياة.

بَوْحُ نَاصِح:

شعرت بحاجتي للبوح؛ فانطلق قلمي ليخط على أوراقي شيئًا من آلامي، وطيفًا من أحلامي؛ فكانت هذه السطور التي يحاول صاحبها أن يرتفع بشيخوخته مكانًا يكشف منه لبنات الخطأ والصواب في مسيرة حياته، ثم يبني من لبنات الحق جدارًا لا يقدر على هدمه السفهاء.

ولذلك أقول لك يا بُنيّ..

إني أرى نفسي فيك، وأراك تسير في درب سلكته ومررت على ثغراته، ومنّ الله عليّ بمعرفة كثير من مسالكه ومنعطفاته، لن أطلب منك أن تكون أسير فهمي ومسلكي، ولن أزعم لك أني أحتكر الـفـهـم الصحيح وحدي، لكني أدعوك دعوة هادئة إلى تدبر كتاب الله -عز وجل- الذي أنزل ليمنحنا الـحـيـاة: (يَـا أَيُّـهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ).

لقد التقيتُ في وادي الأيام أناسًا صالحين، وتجمعت حبات أفكارنا حتى جعل منها الرحمن بمنته جبلاً منيعًا، وكان دعاؤنا الدائم أن يكتب الله له البقاء، وكان عملنا الدائم هو إقامة السدود في وجه الفيضانات التي تهدده بالذوبان.

قد يكون العجز قد أصابنا في بعض الأيام، ولكنا لم نيأس من المحاولة، ولم نغلق الأبواب والنوافذ ونقول: إن كل ما حولنا ظلام دامس، بل كنا نرى أن أقدارنا على مقاسنا سعة وضيقًا، وأنها ملابسنا التي خيطت من أيام حياتنا، ومن اختياراتنا في تلك الأيام.

وأنا اليوم أكررها لك: لن يكون ما نحن فيه إلا عثرة يجبر ربنا فيها عظام وعينا الكسير، ثم ما يلبث جرحنا أن يندمل لنقف على أقدامنا بلا عرج ونواصل سيرنا.

لقد كنتُ كأبناء جيلي أمتلئ ألمًا وعذابًا، وذهولًا عن حقائق الأشياء، ثم بدأتُ في ملاحظة نفسي وتبيّن متناقضاتها ونزعاتها المتباينة ورغباتها التي لا تشبع، فسألتُ ربي غطاءً من الخير أسحبه على ذاتي لأتقي شرور نفسي حتى أكون جديرًا بحمل رسالة الدعوة.

وهنا فجّر الله عيون الخير بداخلي، وجعل من نفسي أرضًا تسقط عليها قطرات من الوعي لتعطيها الخصب الفكري والإنساني الذ يثمر -بفضل الله ومنته- طعامًا للروح يسد جوعها، ويعينها الله به على اجتياز المعوقات.

في تجربة حياة تزيد عن ستين عامًا، كنت دائم السير بالقليل الذي أستطيعه، فجبر ربي عجزي فضلًا منه ورحمة؛ فالتقيت أكثر أحلامي والحمد لله ذي المنّة.

أحاول الآن أن أستحضر لك أشياء منها، فأجدها شاردة من الذاكرة لا تمسك بها ورقة ولا يقيدها قلم، وكأنها هاربة من قيود الكتابة والتدوين، أو ربما هي ترى في دخولها عالم الأوراق فقدانًا لحريتها!!

ولكني فيما يأتي من نقاط سأحاول أن أوضح لك صورة التجربة لتظهر لك أكثر، فخذها بقوة وعلقها على جدار وعيك، وراجعها في كل لحظة بِرًا بي وبنفسك.

واعلم أن ومضة واحدة من عقل مدرك قد يقرأ بها الإنسان سطرًا من كتاب الحياة يرشّد سيره فيها، ويعافيه من ألم الندم.

ليس لي عليك من مأخذ أو لوم، بل أنا فخور بك وبما أنت عليه من حياة نظيفة طيبة.

أنا أعلم أن لك عقلك وأفكارك، ولك رؤاك وأحلامك، ولكني أعلم أيضًا أنك لم تدخل تجربة الحياة بعد، فأنا هنا أحاول من خلال الكلمات أن أصوغ لك من تجربتي ملابس واقية من حر الحياة وصقيعها.

فتعال يا بُنيّ، أنا وأنت، لنسير في الطريق إلى الله، فتشهد لنا خطواتنا شهادة غير مجروحة أننا حاولنا معرفة الطريق إليه، وتزكي شهادتها أقدامنا التي سارت إلى مرضاته.

 وَهْمُ الْكَمال:

السعي إلى الكمال مطلوب، ولكن توقع الكمال المطلق وهم، فمن لم يخطئ لم ينجح! جميل أن تتوب، ولكن لا تخجل من الندوب، فهي دليل اكتساب المهارات وتراكم الخبرات، فكل ابن آدم خطاء، والعظمة الحقيقية أن تضيف إلى رصيد حياتك تلك المرات التي جعلتَ النقص فيها سُلمًا نحو الكمال.

ولذلك أقول لك يا بُنيّ:

تمر النفس بحالات متعددة، ترتفع أحيانًا، وتهبط لحظات، يرتفع بك إيمانك إلى الأعلى، فتجد نفسك في القمة، وتحاول أن تمسك باللحظة حتى لا تهرب منك، ثم يهبط بك إلى الأسفل، فتستحيل كتلة من التناقضات والنقائص. وهكذا، تحملك حوادث الأيام إلى أماكن من نفسك لم تزرها قط؛ فتكتشف نفسك التي لم تتعرف عليها من قبل، وعندها، تدرك أنه لا بد من استئصال ما ترسب في نفسك مما لا يصح التعايش معه.

ثم تأتيك لحظة تجد فيها كفة المعركة تميل إلى غير صالحك؛ فتضيق عليك الأرض بما رحبت، وتضيق عليك نفسك، فاحرص عندها ألا تسترسل في ذنوب شتى، أو تقع في المصيبة الأكبر فتترك الطاعات، وإِن ارتكبت معصية فلا تترك الطاعة؛ لا تنهزم مرتين.

إن من أسوأ عقوبات الذنوب أنها تفقدك تقديرك لنفسك؛ لأنها تتركك في حالة من احتقار النفس مما يكون سببًا فى جديد من الذنوب، وهذه بدورها يكون من شؤمها أن تبعدك عن الطاعات، ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَتْبِعِ السَّيِئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا".

فهذه "الحسنة" بعد "السيئة" تعيد لك تقديرك لنفسك، فاحرص ألا يتأثر مسار طاعتك بمسار معصيتك، وإن كان لك -على سبيل المثال- ورد من القرآن والذكر؛ فلا تتركه إذا وقعت في ذنب: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)، وفي الخبر أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَوْلَا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ؛ لَخَلَقَ اللهُ خَلْقًا يُذْنِبُونَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ". واجعل رحلة عبوديتك هي رحلة غرس لنبت الطاعة والإيمان، ومداواة لآفات الذنوب والعصيان، والنفس هي التربة التي تغرس فيها الخير وتداويها من الآفات المفسدة لها وللزرع.

فإذا رأيت صواب نفسك؛ فاحذر الكبر، وإذا رأيت خطأها؛ فاحذر القنوط، وإيّاك أن تتحول معرفتك بنفسك إلى أداة قتل لا طوق نجاة، إلى سرطان يجعل الجسد يأكل نفسه، والحال المفترض أنه جهاز مناعي للبصيرة والمقاومة، فأنا وأنت "إنسان" مخلوق بصفات وقدرات فيها شيء من الضعف، مخلوق لأسعى وأتزكى في رحلة الحياة، ومن الممكن أن أخطئ وأن أزل وأن أضعف، كما أن من الطبيعي أن تكون لديّ القدرة التي تمكنني من السعي لعلاج النقص والضعف والقصور.

فإذا وسوس لك الشيطان: لقد قهرتك وملأت جراب حياتك خطايا حتى علا الصدأ قلبك؛ فليكن ردّك عليه: إني ذاهب بجراب ممتلئٍ خطايا إلى رب رحمته وسعت كل شيءٍ، ولن يغلب خطاياي رحمة سقفها كلّ شيء.

وإذا أوقفتك أخطاؤك على حافة اليأس؛ فاستمع لرحمة الله تناديك، واستشعر أنه سبحانه أرحم بك من الأم علي وحيدها، استشعر ذلك من قوله تعالي: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53]، واستشعره من الحديث الذي رأي فيه رسول الله امرأة تحتضن طفلها خوفًا عليه، فقال لأصحابه: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟"، قالوا: لا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها". رواه البخاري ومسلم.

واعلم أنه ما ضاع أكثر السائرين إلى الله إلا لأن رواحل أنفسهم قد اعتقلتها الشهوات، فلم يقدروا على السير لافتقادهم.

الوعيّ الفعال:

ليس كل ما يُعلم يقال، وليس كل ما يُقال، يُقال في كل وقت، في بعض الأوقات يكون الصمت هو الواجب، بينا في أوقات أخرى يكون الكلام هو الواجب؟!

ومن خلال التوفيق بين واجب الصمت وواجب الكلام تتكون الرؤية الواعية كما ينطبق الواقع على المرآة بلا اختلاف.

ولذلك أقول لك يا بُنيّ..

حين يفقد الإنسان البصيرة، لا يستطيع أن يمشي خطوة واحدة إلا وحبل الرِق تقوده من رقبته، وعصا السيد تضربه على القفا، فإذا لم يراجع خطواته؛ ذهبت به قدماه بعيدًا عن رسالته، ولو حاول الرجوع إليها بعد رحلة التيه فلربما وجد يد السرقة قد أخذتها منه لتترك له مسخًا مشوهًا لا يشبه رسالته من قريب ولا بعيد!!

نعم، إن غياب الوعي يحملنا إلى متاهات بعيدة عن الصواب، فلا ندرك الخطأ إلا بعد فوات الأوان، وعندها يملؤنا الألم حين نجد أنفسنا في ذات المكان الذي ظننا أننا تركناه إلى الأمام!!

أعترف لك أني في مثل عمرك لم أكن أعلم الكثير عن واقعي الذي كان يحتاج إلى من يتابعه موقفًا موقفًا وخطوة خطوة، بل كان يحتاج من يلاحقه كلمة كلمة!!

ولكن الله منّ عليّ فألهمني رشدًا أعقل به أهوائي، وأتعالى به على علل نفسي؛ فرأيت الواقع من حولي لا أسرار فيه ولا خفايا.

ولا شك أنك تعلم أن الفرق بين الإنسان المتقدم، والإنسان المتخلف، هو أن الأول يتعلم مما يمر به أو بغيره من خبرات؛ فيثبت ما يساعده على النجاح ويعززه ويؤيده، ويحذف ويتلاشى ما كان خطأ.

أما الثاني، فيكرر ما أخطأ فيه، فلا يتغير إلى ما هو أحسن.

أتدري حالي الآن؟!

أرأيت إلى طائر يطوي جناحه على أفراخه وإن كان هذا الجناح ضامرًا وضعيفًا؟!

إن حالي الآن يشبهه تمامًا، فأنا أحاول أن أدفئك داخل نفسي، وأن أصنع لك عشًا من النصيحة حتي لا تبقي في عراء الحياة تطالك أيدي الرماة.

يا بني، إذا لم تحدد هدفك؛ كانت كل الطرق عندك سواء، وإذا لم تعرف إلى أى ميناء تتجه، فكل الرياح غير مواتية، فانتبه لما تراه اليوم من أوراق جافة ذابلة يعرضها عليك الكاذبون ويزعمون لك أنها أوراق رسالتك، وما هي من رسالتك في شيء، بل هي من زبالة أذهانهم هم، ولم يروها يومًا ماء الشريعة الطاهر المحمل بالعدالة ومكارم الأخلاق، ليخرج البشرية من متاهات الظلم إلى جنات العدالة والقيم.

بُنيّ الحبيب، أسوقها لك مجملة في كلمات قلائل: آمِن وإن ألحد الناس، ووثق صلتك بالله وإن قطعها الناس، وتيقّن أن سفينة نجاتك لا تكون إلا بألواح "الوعي" ودُسر "الأخلاق والقيم".

هذه همساتي لك، فإن استطعت سماعها؛ فآمل أن تُسمعني فهمك لها عاليًا من فوق مئذنة "وعيك"، ومن قلب "عملك وسعيك" ومن خلال:

ممارسة فن الممكن:

حين نرى ما حولنا بعقلية "السهولة" التي لا تتطلب بذل أي جهد، أو "الاستحالة" التي تعني أن لا فائدة من بذل الجهد؛ نزهد في الموجود من الوسائل ونحلم بالمفقود منها؛ فنعطي أنفسنا إجازة مفتوحة من أي عمل نافع، بينما النظرة الصحيحة أن بين الممكن والمستحيل هناك "طيف" مما يمكن عمله للاستفادة من الممكن في القفز إلى فضاء المستحيل.

ولذلك أقول لك يا بُني: إذا لم تبصر تعلق الموجود بالمقصود، فستحقر الوسيلة الموجودة وتضع من قيمتها، وأما الوسيلة التي تتوق إليها، فسترى فيها الفائدة والجدوى وأنت لا تملكها، ومن ثم ترى أنه لا فائدة من العمل فيما لا يفيد لأنك تريد إنجازات عظيمة! بينا التفكير الراشد هو أن الإنجازات الصغيرة هي مكونات الإنجازات العظيمة ولبناتها الأساسية، فالنجاح يكمن في القيام بالإنجازات الصغيرة المنتظمة والمتتابعة.

ولستُ بالطبع ضد الطموحات الكبيرة والآمال العريضة، ولكني ضدها –فقط– حين تزهّدنا فى الممكن الصغير، وتدفع بنا إلى التعلق بالمستحيل الكبير؛ ذلك أن النتيجة ستكون فوات الصغير والكبير معًا.

إنه لا ينبغي لأحد أن يتكلم فى الأمور المستحيلة التى لا يستطيع إنجازها وتحقيقها قبل أن يبذل وسعه، ويستنفد طاقته في الممكن والمتاح، لأن عمل ما هو ممكن اليوم، يجعل ما ليس ممكنًا اليوم ممكنًا غدًا.

فإذا تعلمنا "تخصيص نصف ساعة يوميًا لأداء واجب معين، وخصص كل فرد منا هذا الجزء من يومه في تنفيذ مهمة منتظمة وفعالة؛ فسوف يكون لدينا في نهاية العام حصيلة هائلة من ساعات العمل لمصلحة الحياة الإسلامية في جميع أشكالها العقلية والخلقية والتقنية والاقتصادية والمنزلية.

وستثبت "نصف الساعة" هذه عمليًا فكرة الزمن في العقل الإسلامي، أي في أسلوب الحياة في المجتمع، وفي سلوك أفراده، فإذا استُغل الوقت هكذا فلم يضع سدى ولم يمر كسولًا في حقلنا، فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي، وهذه هي الحضارة([2]).

إن حجم خطواتنا في الطريق لأهدافنا إنما يكون بقدر نجاحنا في استخدام ما نملك، و"عمل ما هو ممكن -مهما كان ضئيلًا- وعدم الانتظار حتي تتحسن الظروف والإمكانات؛ لأن مباشرة الممكن توسع دائرة العمل، وتذلل عقباته"(1).

ولذلك، فإنه من الأهمية بمكان أن "يتعرف الإنسان على مجالات حركته وعطاءاته، والتي يمكن تمثيلها بثلاث دوائر هي: "دائرة السيطرة"، و"دائرة التأثير"، و"دائرة الاهتمام".

فأمّا دائرة السيطرة: فتشمل الشؤون والأوضاع والعلاقات الشخصية التى يشعر المرء بالقدرة على التحكم بها، فالواحد منا يستطيع توزيع وقته وإدارته على حسب ما يرى من واجباته ومسؤولياته، كما أنه يستطيع إقامة علاقات جديدة مع بعض الناس وقطع علاقات قائمة، كما أنه يستطيع أيضًا التحكم بأمواله والأشياء التي يملكها.

وإذا عدنا إلى تكاليف الشريعة الغراء وجدنا أنها تتعلق في معظمها بدائرة السيطرة، فالمرء مسؤول عن حواسه واستخدامها، والعبادات المالية والبدنية مشروط وجوبها بالاستطاعة الشخصية، كما هو واضح فى الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد.

وأمّا دائرة التأثير: فهي المجال الذى يمكن للواحد منا أن يمارس نفوذه الأدبي والمادي فيه، أسرة المرء وطلابه وموظفوه وأرحامه وجيرانه وقراؤه ومستمعوه ومن على شاكلتهم يشكلون دوائر تأثيره. ولا شك أن قدرة تأثير المرء فى أسرته أعلى من قدرته على التأثير في جيرانه أو أرحامه، وتأثيره فيمن يستمع إلى حديثه فى الإذاعة أقل من تأثيره فى طلابه الذين يجلس معهم كل يوم ساعة أو ساعتين.

وأمّا دائرة الاهتمام: فإنها أضعف الدوائر الثلاث، وهي الدائرة التى نتصل بها من خلال معتقداتنا وطموحاتنا وأحلامنا واهتماماتنا وهمومنا وعواطفنا؛ فكلنا يحب أن يعرف أحوال إخوانه المسلمين في أصقاع الأرض، وكثيرون منا يتفاعلون مع مآسيهم، ويفرحون لتقدمهم وازدهارهم، لكن قلة قليلة من أولئك المهتمين والمتفاعلين تستطيع تقديم خدمات أو مساعدات ملموسة لمسلمين يعيشون فى قارة أو بلد غير بلدهم"(1).

ولذلك فإنه من الضروري في دائرة اهتمامنا أن نتعلم "كيف نضبط أنفسنا من الاندفاع نحو تضييع الوقت وبذل الجهد والمال فى دوائر ومجالات عقيمة، أى تتصل بدائرة اهتمامنا، وتنعزل عن دائرة تأثيرنا. 

ولا يعني ذلك أن ننصرف عن كل ما لا نستطيع التأثير فيه، ولكن يعني الوعي بالفوائد التي سنحصل عليها، والوعي بأهمية الاقتصاد فى هذا الشأن، والبحث الجاد فى كيفية تحويل دائرة الاهتمام إلى دائرة تأثير(2)، تلك الدائرة التي نحاول أن نمارس فيها "فن الممكن" باستخدام الوسائل التي نملكها، ومحاولة الوصول إلى أهدافنا من خلال التدرج خطوة خطوة، والتخلص من أوهام الطفرة وضربة الحظ وتوقع التحسن المفاجئ، والحذر من:

الهروب إلى الأمام..

حين تتطابق ظواهرنا مع بواطننا، وتستوي علانيتنا وسرنا؛ نمتلك "النفس السوية"؛ لأننا عندها نعيش حالة من "التصالح مع النفس"، أمّا حين تتعدد الأقنعة التي ترتديها نفوسنا؛ فنجيد التمثيل والتزوير، فنحن نعيش الفصام النكِد والازدواجية المقيتة، أتدري ما المسمى الشرعي لمصطلح التصالح مع الذات؟! إنه "الصدق"..

ولذلك أقول لك يا بُنيّ: ربما رأيت شحوبًا في وجه واقعك؛ فزهدت نفسك فيه، وأفقدك هذا الزهد طموحك، ورأيت ما تريد الوصول إليه سرابًا فوق رمال، أو طائرًا بلا جناح يحلّق به!!

ربما تشعر حينها أن محاولة الحياة من خلال الصدق هي محاولة في الفراغ؛ فتشعر بالحيرة بين لذة الصدق، وبين تكاليف الحياة به!

أتدري ما نصيحتي لك وقتها؟! نصيحتي هنا، أن تبدأ رحلة السير لقطع المسافة بين الصدق والواقع؛ لأنك خلال هذه الرحلة ستكتشف معالم الحكمة شيئًا فشيئًا، كمن يرى السماء بعد تبدد السحاب الكثيف والرعد الرعيب والبرق الواهج!!

نعم، قد تقابلك العقبات، ولكن هذه العقبات ستوضح لك صورة حلفائك وملامح خصومك، ربما تجد أن بعض الحلفاء قد تحولوا إلى خصوم؛ فحاول اكتساب "مهارة إدارة الخصوم"، وتهيأ لمقابلتهم وإياك والهروب إلى الأمام.

كأني أري تعجبك، وأسمع تساؤلك: كيف يكون هروبًا، ويكون في ذات الوقت إلى الأمام؟!

نعم -بنيّ الحبيب- يكون الهروب إلى الأمام حين نقوم بأعمال هامشية بدلاً عن العمل الجوهري، فنوهم أنفسنا أننا لم نترك العمل، بينما نحن في حقيقة أمرنا قد هربنا من مسؤوليتنا، لأننا تركنا "حقيقة" العمل إلى "وهم" العمل، أو حاولنا أن نمثل دور "الضحية" لاستدرار عطف الآخرين!!

لا أنكر أن بيننا من تحملوا الكثير من الظلم، ولا أغفل أن واقعنا قد يحمل للكثيرين منا شعورًا باليأس وعبثية المحاولة، ولكن في هذه اللحظات الصعبة يأتينا أمر ربنا: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ)، (لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ) [القلم: 48، 49]. المشكلات إن لم تواجهها، فإنها لن تكف عن مواجهتك، بل ستطاردك وتحاصرك.

ولن تقدر على صنع مستقبل مشرق إلا أن تعيد إنتاج الحاضر المظلم، وأن يبقى أملك في نفسك قويًا مهما كان الحاضر سيئًا، فإذا انغلق أحد الطرق الموصلة إلى الأمل، فإن طرقًا أخرى تنفتح ليراها كل ذي لب؛ فيدرك ما يمكن عمله للخروج من واقع اليأس المظلم في بطن الحوت إلى شجرة اليقطين المثمر ونور الحق: (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ)، (وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ) [الصافات 145، 146]. ذلك أن:

أقاصي اليأس، منتهى الأمل:

وسط موانع الأمل والعمل، وكواتم التنفس والهمس، ومصدّات رياح الحق، فإن وصيتي لك هي الإتمام الصامت في غير وقوف عن السير، وهي الوصية التي أرسلها أبو بكر -رضي الله عنه- من وراء الصحراء إلى خالد بعد انتصاراته في العراق، فقال: "ليهنك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم، يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل عملاً، فإن الله له المنّ، وهو ولي الجزاء".

فتأمل كيف ينصحه بالإتمام الصامت دون عجب ولا منّ!!

واعلم يا بني، أنه ليس من الحكمة أن يتعجل الإنسان السير في طريق لم يتثبت أنه طريق الحق؛ فيمضي فيه خطوات ثم لا يلبث أن يرجع عنه ويمضي في غيره، لكنه ليس من الحكمة أيضًا أن يبقي عمره مترددًا لا يحسم أمره، وإنما على الإنسان أن يتثبت من طريقه، فإذا تيقن أنه طريق الحق ثبتَ على عليه وإن طال، واستمر يبني السفينة حيث لا بحر! ولم يلتفت إلى استهزاء الذي لا يعرف!

أعلم أن صورة واقعنا غبراء الوجه، وأدرك أن ما علق بها من تراب الكذب وروائح الفساد يملأ النفس ألمًا، ولكني أنصحك وأنصح نفسي ألا ندع ملامح الصورة البذيئة للواقع تملؤنا بالألم، وأن نجعل من محاولتنا عَصاة نتكئ عليها لنقف مرة أخرى، ثم نخطو خطوة في طريق الأمل، فليس في الدنيا شر محض، فـ(البؤس) آخره سين، صالحة لبدء (سعادة)، و(الأمل) أوسطه ميم، لتكون نهاية (الألم)، فلا تضيّق مساحة الأمل في حياتك حتى لا تسقط في جوف اليأس.

وفي أصعب اللحظات، وأقسى المواقف، تذكّر:

هذه اللحظة التي أنت فيها كان هناك لحظة قبلها، وسيكون هناك لحظة بعدها، اللحظات الصعبة مثل السحب القاتمة، تمر ويشرق الضياء، لا تستبد بك اللحظة، تعبّد إلى ربك بحسن الظن، و"إن لم تحسن ظنك به لأجل حسن وصفه، فأحسن ظنك به لأجل معاملته معك، فهل عوَّدك إلا حسنًا؟! وهل أسدى إليك إلا مننا؟!

وليكن إيمانك الثابت ويقينك الراسخ أنه: من أقاصي اليأس، يولد دومًا منتهى الأمل.


([1]) اخترت هذا العنوان "الأبوة الدعوية" تنبيهًا على أن العلاقة بين المربّين والمتربّين لابد أن تكون علاقة أبوة كريمة تعطي ولا تمنع، وتمنح ولا تبخل.. تقابلها علاقة بُنّوة كريمة، تشكر ولا تجحد، علاقة لها احترام بار كاحترام الوالدين؛ فنحن إذا لم نحاور آباءنا، لن نصل إلي "الوعي" الذي ينظف عقولنا من أدران الجهل، وينقي قلوبنا من أشواك القلق والقطيعة، وإذا لم نلاقح أفكارنا بأفكارهم سيطول شقاؤنا في الحياة دون الوصول إلى أحلامنا.

([2]) شروط النهضة، مالك بن نبي ص141.

(1) عصرنا والعيش في زماننا الصعب، د. عبد الكريم بكار ص111.

(1) مفاهيم قرآنية في البناء والتنمية، د. عبد الكريم بكّار، ص153ـ163، بتصرف يسير.

(2) المصدر السابق، ص162، 163.

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة