حين تنحصر اهتمامات أفراد مجتمع ما في التماعة القطع الزجاجية المصفوفة في بيوتهم "الشاشات"؛ ويصل افتتانهم بنقاوة الصور وسرعتها وزهوها لدرجة الأسر؛ يفقد العقل مقاييسه التي تهديه سبيل الرشاد..

حين تنحصر اهتمامات أفراد مجتمع ما في التماعة القطع الزجاجية المصفوفة في بيوتهم "الشاشات"؛ ويصل افتتانهم بنقاوة الصور وسرعتها وزهوها لدرجة الأسر؛ يفقد العقل مقاييسه التي تهديه سبيل الرشاد..

فإذا زاد على هذه الشاشات خيوط الشبكة العنكبوتية؛ وقع الجميع في أسر "فأرة" يمسكون بها، لا ليحصلوا على المعرفة، وإنما ليقعوا في أسر الشهوات..

وهكذا يقع أفراد المجتمع في أسر الشبهات والشهوات في واقع   

تكثر فيه ألاعيب السحرة، وتغيب عنه عصا موسي..

يرتدي فيه مقدمو البرامج ملابس السحرة فيدمدمون ويسجعون، ويتوسلون إلى ما يريدون بالصورة الساخرة التي هي أنكي من الكلمة الصريحة، والتعليق اللاذع الذي هو أسرع من طعنة نافذة، والمقال الذي يستغرق ربع عمود ليكون أجدى من كتاب مسهب، ووضع الخبر في مكان ليزداد خطره عن مكان آخر، وإبراز بعض الإحصاءات الميدانية لتحل محل الأدلة المنطقية.!

وهكذا.. كلما تراجعت المؤسسات التعليمية، والعائلية، عن ممارسة سلطانها في تكوين الأفراد ومعارفهم وثقافاتهم وقيمهم؛ فتقدم الإعلام ليملأ هذا الفراغ، وليصوغ حياة الإنسان وعالمه ومشاعره وأحاسيسه، بل وعقله وأفكاره من خلال ما يمكن أن نطلق عليه..

السلطان العاري

حين تفقد المجتمعات العقلية النقدية التي تزن بها الأمور؛ يقوم الإعلام الموجه بدور كبير في تسهيل عمليات الإيحاء والاستلاب والاستهواء لأفراد تلك المجتمعات"، وهو ذات الدور الذي قام به من قبل سحرة فرعون، فهم يسحرون أعين الناس، ويزيفون وعيهم، ويحتلون إدراكهم من خلال تسليط الأضواء على مساحات معينة من الواقع، وإطفاء الأضواء في مناطق ومساحات أخرى بهدف خلق الصورة المطلوبة لقتل الوعي النقدي في المشاهد؛ ليصبح في حالة تلقي سلبي لكل ما يراه على الشاشة أو معظمه.. ومن ثم يتعوّد على ألا يتعدى دوره المشاهدة.. وفي أقصى تقدير التحسر على ما يحدث والدعاء على من يفعلون والغضب ممن يسكتون.. وفقط..!!

وهكذا.. صوت... صورة.. عبارة.. أسلوب.. عناصر إعلامية أخرى.. الخبر الصادق بجانب مائة كذبة.. الكل في خدمة الإقناع بلا مضمون.. و"محاولة الظهور بالشكل المنطقي"..  كما حاول أبو جهل أن يبدو في غزوة بدر حين قال: "اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة"

.. أو محاولة الظهور بمظهر الإنسانية.. كما قال عقبة بن معيط في الإسلام: "فرق الناس، وخرّب الديار، وجعل الولد يقتل والده"

.. أو محاولة أن يكون ما يقال متناسباً مع العقلية البشرية.. ومؤتمر دار الندوة الذي حاول الاتفاق على تعريف القرآن دليل على هذا التناسب.." نقول كاهن.. ليس بزمزمة الكهان.. نقول مجنون.. ليس بخنق الجنون.. نقول شاعر.. ليس بالشعر ولا سجعه.. ثم اتفقوا على أن يقولوا: سحر، قائلين: إنه يفرق بين المرء وأبيه وأخيه وزوجته"

.. ولا بد مع كل ذلك من الأسلوب المؤثر السهل، والعبارة التي تخرج من الفم ليتلقفها الجميع، فتصبح على جميع الألسنة.. وعبد الله بن سلول هو أستاذ هذا التعبير الإعلامي، وهذه العبارة من عباراته "سمّن كلبك يأكلك"

ويمكننا أن نرى هذه الأساليب مجتمعة حين يكون الحدث إسلامياً حيث:

التهوين من شأن الحدث: مثلما قال أبو لهب تعقيباً على إعلان الرسالة من النبي (ص) من فوق جبل مكة: تباً لك طول يومك، ألهذا جمعتنا؟، وكأن حدث الرسالة لن يبقى إلا يوم إعلانه " طول يومك "، الأمر الذي لا يستحق الجمع " ألهذا جمعتنا ".

وعلي ذات الطريق.. يسير الإعلام الكاذب؛ فيغدو المستعبَدون قطيعاً مستمِعاً، وقافلة عمياء ضلت طريق الرشاد؛ فتاهت في مسارب الأكاذيب والأوهام..

فإذا تبقى للإنسان بعضاً من الوعي بعد كل هذا المكر بالليل والنهار؛ فإنه يتم تخديره بواسطة الفن بكل أنواعه وأشكاله، وفن الدعاية الذي يشبه إلى حد كبير "التنويم المغناطيسي" أو السحر الذي يخيّل للمشاهد أن ما يراه ثعباناً، بينما هو في الواقع حبلاً..!!

وهكذا.. بسط الإعلام سلطانه بخطوات متتابعة وخطوات كخطوات الشيطان..

ولكن الأمر ليس بيد شيطان الإعلام، ولا بيد أحد.. إنه بيد من يقدّر الأشياء تقديراً؛ فتسير الذرة ويسير الجبل حسب تقديره.. وكيد الإعلام مهما بلغ هو كيد ضعيف.. {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]... وسلطانه هو "السلطان العاري" الذي لا يتمكن إلا ممن لا يعرفون سنّة الخلاص من مكائده، فيقابلون ضعفه بالبلاهة والغفلة عن طرقه الملتوية، التي يلبّس بها الأمر عليهم، فيظهر لهم في كل مرة بلون؛ ليحولهم إلى ضحايا غرق الحقيقة في بحر الهراء والتفاهات من خلال..

صناعة الأكاذيب

" إذا كانت النقطة الدموية الحمراء فى البيضة تدل على فسادها، فكيف الأمر إذا كان داخل البيضة كلها أحمر اللون؟ وهل لنا أن ننظر إلى الإعلام اليوم من هذه الزاوية.. أم أن الإعلام أبيض ناصع، والنقطة الحمراء الفاسدة جزء صغير هامشي، لا يؤثر فى سلامة الإخصاب والابداع؟"(1)

إنها نقط حمراء كثيرة يحويها خطاب إعلامي مزيف، يروج للأكاذيب عبر إزاحة حواسّ المتفرج، وإلغاء الاستقلالية والحيادية لتلك الحواسّ، والوقوف في وسط الطريق بين الإدراك بالرؤية بالعين والسمع بالأذن والتعبير باللسان، وحتى في استخدام العقل بحكمة وموضوعية، والاستعاضة عن ذلك بسديم ضبابي يخدّر الحواس.. ثم وسط هذا الضباب الكثيف، يتم التلاعب عن قصد بالحقائق، وإبدال الواقع بغيره..

ولأن كل فرد مهموم بتفاصيل حياته اليومية، فإنه لا يملك الوقت لمتابعة ما يقدم له واكتشاف الحقائق "فيكون أمر مرور تلك الأكاذيب يسيراً، وغير قابل للفضيحة والانكشاف. وحتى إذا اكتشفت الأكاذيب، فإن سيل الأخبار، والأمطار السوداء التي تسقط يومياً من غرف إعداد البرامج الترفيهية، على رأس المشاهد، تجعله مغموراً بسيل عارم من دوامة عدم التركيز، بل عدم الاهتمام. وتأخذ الموسمية دورها حيث تتصاعد الاهتمامات حول قضية ما، ثم تختفي فجأة لتحل بدلاً منها أخرى"(2).

إن الإعلام يثير حماس المشاهدين لمدة أسابيع متواصلة من خلال حدث ما، وأنباء منطقة بعينها، ويعرض عليهم الصور ذاتها مرات ومرات، فينفعل المشاهدون بما يحدث هنا أو هناك.. وفجأة، يختفي ذلك وتسدل عليه ستائر النسيان لتحل محله صور أخرى وأخبار أخرى، حتي يصبح الأمر مجرد صور .. صور تمحو صورًا.. تحاول منظمات الأخبار من خلالها أن توهمنا أنها تنقل إلينا المعلومات بطريقة محايدة وطبيعية، وتعرض  نفسها كما لو كانت نوافذ حقيقية علي العالم، بينما هي رسم صورة للعالم كما يريد أصحاب المصالح  الذين يقومون باستثمار" الإعلام فكرياً، وسياسياً، لأغراض مصالح وغايات محددة، بل وتحويل الإعلام ومؤسساته إلى استثمار اقتصادي بحت شأنه شأن صناعة وتجارة السيارات والملابس وغيرهما..

وتتجلي تلك العلاقة بين سلطة المال في طريقة نقل الأحداث، فتختفي الموضوعية لتحويل الإهتمام، أو حشد العواطف وتعبئتها بشكل عدواني ضد قضية هامشية أو ثانوية لا تتصل بما يحدث من آثام ترتكب ضد حرية الإنسان"(3).

لقد أصبح الإعلان التجاري هو الحبل الذي يمكن شدّه لخنق إمكانية بقاء المؤسسات الإعلامية واستمرارها، وأضحت مراحل صناعة الإعلان التجاري بذاتها وسيلة مهيمنة على حريّة واستقلالية وسائل الإعلام.. وفي كل تحالف بين شركات الإعلان ومؤسسات الإنتاج البرامجي، تكون السيادة المطلقة والفاسدة في أغلب الأحوال هي للمال وأهدافه الربحية المجردة عن المبدأية.. ويحاصر الإنسان بفيضان عارم من الإعلانات التى يجد نفسه معها مضطراً للإنسجام معها، وتتحول القضية من الإقناع إلى سلب القناعة، وبخاصة بعد أن قامت بتوظيف دراسات علم النفس وعلم الاجتماع وغيرهما من العلوم، وأصبحت قادراً علي "صناعة" اهتمامات الفرد،  و"صياغة"  أفكاره،  "وتغيير" سلوكه من خلال حيل إعلامية تجذب اهتمام المتابعين وتلهيهم عبر..

الإلهاء والاحتواء

تشير الأم بإصبعها إلي سقف الحجرة، وتقول لطفلها: هل ترى العصفورة؟، ثم تنقل الأم إصبعها يميناً ويساراً.. هل ترى العصفورة؟.. والطفل مشغول بمتابعة إشارات أمّه، ويحاول أن يرى العصفورة كثيرة الحركة.. وبعد دقائق ينام الطفل..!!

قد يرى البعض أن هذه لعبة بريئة تعتمد علي أن الطفل يسهل تشتيت انتباهه بسرعة وبسهولة.. "إلا أن المدهش في هذه الأيام أن هذه اللعبة أصبحت تمارس مع مجتمعات بأكملها، والمدهش أكثر أنك تري عدداً كبيراً من كبار المفكرين ورؤساء تحرير بعض الصحف يجولون بأعينهم في كل الاتجاهات بحثاً عن العصفورة المجهولة"(4)...  وما زلنا نري تلك العصافير تملأ صفحات الجرائد وشاشات التلفاز والكومبيوتر، وكل عصفورة تحمل عنواناً مثيراً فهذه عصفورة الختان، وتلك عصفورة جواز التدخين في نهار رمضان.. إلي آخر تلك العصافير التي تملأ زقزقاتها آذاننا، وتتبعها أعيننا في كل مكان؛ فلا ندري أين نحن؟، ولماذا جئنا إلي هنا؟، وأين نذهب؟، وماذا نريد؟!

إننا كثيراً ما نقع ضحايا لعبة "الإلهاء والاحتواء".. تلك اللعبة التي تبدأ "بافتراض الغفلة والسذاجة لدي الضحية، ثم محاولة جذب انتباهه عن مشكلته الأصلية إلي شيء أقل أهمية لكنه أكثر إثارة، وبما أن الضحية يفترض فيه ضعف الذاكرة، وتشتت الانتباه، وعدم وضوح واستقرار الهدف الأصلي، لذلك يتوقع القائمون علي اللعبة أنه سينسي وينشغل بوسيلة الإلهاء.. وإذا لم يتأكد هذا الاحتمال فإن الضحية يحتاج إلى عملية "استهواء" وهي أكثر تعقيداً وإبهاراً من الإلهاء فهي تستدعي مقالات وندوات ولقاءات تليفزيونية ومنتديات على الانترنت ورسائل على البريد الالكتروني..، كما يحتاج أصحاب اللعبة إلى شخصيات لها صفة السحر من رجال السياسة أو رجال الدين أو رجال الإعلام أو نجوم  الفن أو لاعبي الكرة، ويقوم هؤلاء بتمرير ما يريد أصحاب اللعبة للضحايا المستهدفين دون أن يشعروا أو يتألموا أو ينتبهوا..!!

وإذا لم تفلح عملية الاستهواء يتم اللجوء إلى "الإغواء".. وهي عملية تحتاج لرشوة الضحايا، والرشوة هنا إما أن تكون مالية "مكافآت أو إكراميات أو علاوات أو انتدابات أو سفريات "، أو وظيفية " تعيينات أو ترقيات "، أو اجتماعية " تلميعات وصناعة نجوم "، أو سياسية " مناصب حزبية أو تسهيلات انتخابية ".... وإذا نجحت كل الخطوات السابقة تكون النتيجة في النهاية هي "الاحتواء" حيث يجلس الضحايا في حجر القائمين باللعبة، أو يرتمون في أحضانهم، أو يغطون في نوم عميق"(5) يسمح لوسائل الإعلام باختلاس كل ما يملكون من وعي في صورة تصل إلى..

احتلال العقول

يشابه الصراع الفكري بشكل ما  "الأسطورة الشهيرة التي يصف فيها أفلاطون، بطريقة رمزية الحالة الغريبة التي يكون عليها بعض الناس، حينما يتصورون الواقع، حسبما يُصور لهم لا طبقاً لحقيقته، فهم يعيشون في نظر الفيلسوف العتيق، في قعر غار، ملتفتين إلى جدرانه قهراً، فلا يرون سوي الأشباح المتحركة عليه دون أن يفكروا أن الأشخاص يأتون ويذهبون وراء ظهورهم، وأن ناراً أوقدت بين باب الغار وأولئك الأشخاص هي التي تلقي ظلهم في صورة أشباح متحركة على الجدران، ودون أن يشعروا أن الحقيقة ليست في تلك الصور الوهمية، ولا في النار التي تصورها لأبصارهم المسحورة، بل هي خارج الغار، في ضوء النهار، تحت الشمس الساطعة...

ولو عاش أفلاطون في زماننا لأتيحت له الفرصة أن يضيف لأسطورته صوتاً يتخافت ويهمس همساً: صوت الملقن أو المفسر الذي يدلي بالتفسيرات، أو بوجه أدق يدلي بالإيحاءات المناسبة لأصحاب الغار ليزيد في خبالهم خبالاً... وهذا ما يقوم به الإعلام حينما يبدي لنا ما يريد من الصور الوهمية، ويصف لنا الأشياء كيفما يريد بصوت المتخافت."(6)

وفي كل مراحل الصراع لاحتلال العقول تكون العوامل النفسية هي الأهم(7)، وتكون "هناك مختبرات متخصصة في الكيمياء السياسية تخصصاً عميقاً، تعد الإيحاءات النفسية وتشحنها في شعور الجماهير بالطرق المناسبة، بحيث يكفي أن يضع أحد الاختصاصيين إصبعه علي زر خفي، فتنطلق في شعورهم شحنة من الغضب، أو من الإجلال والخشوع، حسب ما تكون الشحنة "(8).. ومن ثم تتحرك الجماهير طبقاً للإيحاءات؛ فتكون النتيجة هي استنزاف "كل الإمكانات الفكرية والمادية في معارك وهمية، تُسمع فيها قعقعة السلاح ودوي الحرب، ولكن الصراع فيها يكون مع أشباح تحركها أمام الأبصار المسحورة يد خفية ماهرة... ثم يسمع الجميع صرخة الانتصار التي لا تعني ـ في أغلب الأحيان ـ سوى أن شبحاً قد اختفي عن المسرح حتى يتيح الشعور بالانتصار عليه.. في لعبة تشبه إلى حد كبير "ما يسمي "لعب صور الظل" أي تلك الصور التي يمكن للاعب ماهر أن يصورها من ظل يديه وأصابعه، بوصفها قصة يراها الناظر على الحائط، ويمكن أن يزيد اللاعب الماهر في إعجاب ذلك الناظر، إذا كان عنده الصوت المناسب مثل لاعب "جراجوز"، ليعقب على الصور التي تلقيها يداه وأصابعه على الحائط بما يناسب من التعليقات. "(9) إن من يقرأ في ملفات الصراع، ومذكرات الجاسوسية، لن تغيب عنه حقيقة "إن الإعلام يتصرف في طاقاتنا الاجتماعية لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسة عميقة، وأدرك منها مواطن الضعف، فسخرنا لما يريد، كصورايخ موجهة، يصيب بها من يشاء، ثم يحتال لكي يجعل منا أبواقاً يتحدث فيها، وأقلاماً يكتب بها، إنه يسخرنا وأقلامنا لأغراضه، يسخرنا له، بعلمه، وجهلنا !! "(10)

إن "كل مناسبة جديدة تكشف لنا عن وسائل جديدة، وعن خطة مجددة، وعن شباك محدثة، فوسائله تتنوع حسب الظروف، وطبقاً للمناسبات، وهو لا يحافظ إلا على المبادئ الأساسية التي يطبقها في كل مناسبة وفي أية ظروف.

وعليه فتكون محاولة جنونية، لو هدفنا في هذا العرض إلي أن نضع قائمة إحصائية للوسائل التي يستخدمها، وللخطط التي يطبقها، بل سيبقي صراع اغتيال العقول يغشاه الظلام الذي يغشي الحقائق، التي لم نهضمها من خلال التجربة، ولم تصل بعد إلي إدراكنا، ما دمنا نفتقد..

الوعي النقدي

التفكير في الحقائق، سواء بالوصول إليها و القبض عليها بيد من حديد.. أو بتمييزها من غير الحقائق، للانتفاع بالحقائق، هو التفكير المجدي.. ذلك أن "واقعنا شديد الالتباس بين الادعاء والحقيقة.. وبينهما هامش كبير وواسع من التزييف والمغالطة، نراه اليوم فى مختلف ألوانه عندما نقارب الإعلام، ونجاوز حسناته وآثامه، وندرك حجم الضرر والأذى الذي يصيبنا كل يوم نتيجة حجم السيل الإعلامي المضلل الذي يهاجم محيط إدراكنا ومعرفتنا، وشغفنا الذي لا يتوقف في إدمان متابعة الأخبار والأحداث."(11).

إن الإنسان يستطيع أن يتحمل قدراً بعينه من "الضغط الفكري" المنهال عليه عبر وسائل الإعلام، ثم يفقد القدرة على أن يتبين الأشياء والمفاهيم ليصل في النهاية إلى "متوسط فكري" ردئ، وعن يمين وشمال من هذا المتوسط الفكري الرديء تنمو "تيارات فكرية" وتحاول أن تشق طريقها إلي أفئدة المأسورين بسلاسل هذا المتوسط الفكري الرديء، وهي لا تملك من وسائل هذا الإعلام إلا نذراً قليلاً؛ فتتخذ بعض هذه التيارات لنفسها طريق العزلة الفكرية حيث تقطع نفسها عن تيار الإعلام العام صحافة وإذاعة وتليفزيون.. فلا يقرأون الصحف، ولا يستمعون الأخبار..!!

وهو اختيار يبدو سهلاً في تطبيقه، ولكن آثاره على الذين يتخذونه غالباً ما تكون مدمرة للغاية، وخاصة عندما تختلف الأسس الفكرية بين التيارات الجانبية وبين المتوسط الفكري السائد اختلافاً مبيناً. فالبيئة الفكرية في مجتمع تطبع أفراده بطابعها الخاص، وتهيمن عليها هيمنة ظاهرة وباطنة، ولا يمكن إلغاء آثارها في النفس بمجرد الاعتزال سخطاً علي المتوسط الفكري السائد ورغبة في فكر أرقي وأسمي.. !!"(11)..

 إن البديل الأفضل لهذا الاعتزال هو بذل الجهد الطويل الأمد على المستوى الاجتماعي، والقيام بعملية توعية على المستوى الفردي، للقضاء على مكامن التخلف النفسي التي تمكن وسائل الإعلام من أن تفعل فعلها بشكل خفي في نهر "الأخبار والحوادث "، ومن خلال ألاعيب أخري كثيرة تتغير كل يوم تمشياً مع قاعدة أن كل فخ عرف مكانه يصبح دون جدوى، وأن كل جهاز يقع تصميمه في يد العدو يفقد صلاحية استعماله ضد هذا العدو.

إن من الأمور الهامة التي يجب أن تتضمنها ممارساتنا التربوية، إخضاع سطوة الإعلام(12) لمناقشة جادة؛ لكيّ لا نسلّم أنفسنا لأي وسيلة إعلام، ونقبل كل ما تأتينا به..

ولا يتأتى ذلك إلا من خلال امتلاك الوعيّ النقدي لكل ما حولنا من أساليب اغتيال العقول، التي تقوم بتزوير الحقائق، وتحطيم القيم، وغسل الأدمغة، والتحليق بعيداً عن الهموم الحقيقية للمجتمع..

لقد كنت وأنا طالب في الجامعة أطالع صحف المعارضة.. وكنت أتعجب من أن معظم تلك الصحف تُظهر "الفساد الصغير" للسكوت عن "الفساد الكبير"..!! ولكن تجربة ربع قرن علمتني كيف أتعرف علي حقيقة شيء من هذا القبيل؟.. وأدرك أين تصنع ولماذا تصنع هذه البضاعة؟ ولماذا يُصر من يصنعها ألا يضع عليها خاتمه؟.. ولماذا يبقي مختفياً ولا يظهر في معركة اغتيال العقول ؟!!


 

الهوامش

(1) الفساد والحكم الصالح في البلاد العربية ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ ص 335  بتصرف يسير .

(2) (المصدر السابق ـ ص 333 .

(3) المصدر السابق ـ ص 332 بتصرف يسير .

(4) علم النفس السياسي ـ د.  محمد المهدي ـ ص 304 .

(5) المصدر السابق ـ ص 279 ـ 300 .

(6) الصراع الفكري في البلاد المستعمرة ـ مالك بن نبي ـ ص 96 ـ 98 بتصرف يسير .

(7) لأن العوامل النفسية بهذه الأهمية، فقد بدأ تطبيقها في مجال السياسة .. فيبدأ مؤلف " لعبة الأمم " كتابة مذكراته بذكر تفاصيل خضوعه لاختبار نفسي على يد ثلاثة من كبار علماء النفس الأمريكيين" .

(8) الصراع الفكري في البلاد المستعمرة ـ مالك بن نبي ـ ص 68 ، 69 بتصرف يسير .

(9) المصدر السابق ـ ص 75 ،  76 بتصرف يسير .

(10) شروط النهضة – مالك بن نبي –  ص 155 بتصرف يسير .

(11) مقدمات في البعث الحضاري -  د.  سيد دسوقي حسن ـ ص 20 ـ 22 بتصرف.

(12) مصطلح الإعلام هنا بمعناه الواسع بما في ذلك الصحف والتعليقات والتحليلات والآراء،  بل وكلّ ما يشمل الثقافة الفكرية.

 

 

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة