"الحُكمُ على الشيء فَرْعٌ عن تصوُّره" هي قاعدة فقهية معروفة؛ يقول ابن العثيمين ~ في شرح تلك القاعدة: «الحُكمُ على الشيء فَرْعٌ عن تصوُّره؛ فلا تَحْكُمْ على شيء إلا بعد أن تتصوَّره تصوُّرًا تامًّا؛ حتى يكون الحُكم مطابقًا للواقع، وإلا حَدَثَ خَلَلٌ
"الحُكمُ
على الشيء فَرْعٌ عن تصوُّره" هي قاعدة فقهية معروفة([1])؛ يقول ابن العثيمين ~ في شرح تلك القاعدة: «الحُكمُ على الشيء فَرْعٌ عن تصوُّره؛ فلا تَحْكُمْ
على شيء إلا بعد أن تتصوَّره تصوُّرًا تامًّا؛ حتى يكون الحُكم مطابقًا للواقع،
وإلا حَدَثَ خَلَلٌ كبيرٌ جدًّا»([2])؛ فلا بُدَّ من التصوُّر الذهني الواقعي للحالة
المُعَيَّنة التي حصلت فيها المسألة؛ لأنَّ مَن أساء التصوُّر أساء الفَهْم، ومَن
أساء الفَهْم أساء الحُكم؛ لذلك فإنَّ «أكثر أغلاط الفتاوى من التصوُّر»([3]). وبناءً على القاعدة المذكورة؛
فإنه لا بُدَّ أن تكون المُدخَلات التي يُبنَى عليها التفكير سليمة؛ لكي تكون مُخرَجات
ونتائج التفكير سليمة أيضًا، حتى يُطلَق الحُكم الصحيح على المسألة.
وتربويًّا؛ تُستعمَل
تلك القاعدة فيما يُسمى بـ"ضَبْط التصوُّرات الذهنية"، وهذه التصوُّرات الذهنية تتمثَّل في "المُدخَلات"، وتُستعمَل مع المُتَرَبِّين لمُعالَجة تصوُّراتهم الخاطئة عن الأحكام
والعبادات والأمور المُتعلِّقة بالدِّين والحياة عامةً.
ومُعالَجة التصوُّرات
الذهنية الخاطئة إجراءٌ تربويٌّ قد مَارَسَه النبيُّ r مع الصحابة y؛ فعن أنس بن مالك > أنه قال: جاء ثلاثة رَهْطٍ([4]) إلى بيوت أزواج النبي r يسألون عن عِبادة النبي r، فلما أُخبِروا كأنهم تَقَالُّوها([5])، فقالوا: أين نحن من النبي r؟ قد غَفَر اللهُ له ما تقدَّم
من ذنبه وما تأخَّر، قال أحدهم: أمَّا أنا؛ فإني أصلي الليل أبدًا([6])، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفْطِر([7])، وقال آخر: أنا أعتَزِل النساء
فلا أتزوَّج أبدًا. فجاء رسول الله r فقال: «أَنتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ
كَذَا وَكَذَا؛ أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي
أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ
عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»([8]).
بالتأمُّل في الحديث
السابق؛ نجد أنَّ الاضطراب الذي حَدَث في قرارتهم كان بناءً على مُدخَلات خاطئة
بُنِيَت على تصوُّراتٍ ذهنيةٍ مثاليةٍ عن العبادة، فكانت المُخرَجات أنهم ظنوا أنَّ
العبادة لا تُؤَدَّى إلا بالشكل المثالي الذي ظنوه! وقد عالج النبيُّ r تصوُّراتهم الذهنية داخل
عقولهم؛ فقال: «لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ».
ويَحدُث اضطرابُ التصوُّرات
الذهنية عند المُتَرَبِّين على صورتَيْن:
الصورة
الأولى (المثالية): وهي تعني مثالية الصورة الذهنية في تطبيق الأعمال التعبُّدية أو الطموح أو
الوُسْع المبذول؛ بسبب الفَهْم الخاطئ لأمثلة عُلُو الهِمَّة بأنها هي القاعدة أو
أنها هي الحد الأدنى المطلوب للعبادة؛ فينشأ في ذهن المتصوِّر تصوُّرٌ بأنها لا تُؤَدَّى
إلا على نفس صورة المثال المطروح؛ فعبادة قيام الليل -مثلًا- رُوِيَ فيها أنَّ عُمَر
بن الخطاب > كان يَمُرُّ بالآية من وِرْده بالليل فيَسْقُط حتى يُعادَ([9]) كما يُعادُ المريضُ([10]). ورُوِيَ أنَّ عثمان بن عفان > قَرأَ القرآنَ ليلةً في ركعةٍ لم يُصَلِّ غيرها([11]). فتجتمع تلك المُدخَلات -وما
شابَهَها- وتُشكِّل عند المُتَرَبِّي تصوراتٍ خاطئةً "مثاليةً" عن عبادة قيام الليل، ويَظن أنه لا تتم العبادة إلا بتلك الطريقة التي
سمعها بالأمثال التي ضُرِبَت سلفًا، حتى لو رَكَع بضع ركعات خفيفة في الليل لَشَعَر
بتأنيب الضمير؛ بأنه لم يَصِل إلى مستوى التصوُّر الذهني "المثالي" المَبني في عقله عن قيام الليل، وقد يُحبَط ويتوقَّف عن العبادة من الأساس؛
فحَدَثَت المُخرَجات الفاسدة بسبب عدم ضبط المُتَرَبِّي للمُدخَلات، وبسبب التقصير
في إفهام المُتَرَبِّي بأنَّ كل تلك الأمثلة هي مجرد أمثلة لتحفيز همته للمواظبة
على قيام الليل، حتى ولو قام بركعةٍ أو ركعتَيْن.
إشكالية مثالية التصوُّر
الذهني؛ تتمثَّل في تحويل أمثلة عُلُو الهِمَّة في ذهن المُتَرَبِّي إلى الحد
الأدنى الذي لا تُمارَس العبادة إلا به، فإمَّا أن يُؤدِّيها كما سَمِعَها في
المثال المطروح عليه وإلا فلا، فيُحاوِل المُتَرَبِّي جاهدًا الوصول لتلك
المستويات الصعبة والاستدامة عليها، وهو ما لا تَسَعه طاقته البشرية؛ مما يترتب
عليه تَرْك العبادة بالكلية، بل قد يصل الأمر إلى الانتكاس وترك الالتزام بالكلية،
ولن يُشَادَّ الدِّين أَحَدٌ إلا غَلَبَه؛ كما قال رسول الله r: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ
يُشَادَّ الدِّينَ([12]) أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ([13])، فَسَدِّدُوا([14]) وَقَارِبُوا([15]) وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا
بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ([16])»([17]).
وقد حَدَث ذلك الإشكال
مع حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِيِّ > لمَّا تَشكَّل عنده تصوُّر خاطئ عن الإيمان، فظن في نفسه النفاق، فصَحَّح
له الرسولُ r هذا التصوُّر بأنَّ الإيمان يَزيد
ويَنقُص؛ فعن حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِيِّ -وكان من كُتَّاب رسول الله r- قال: لَقِيَني أبو بكر، فقال:
كيف أنت يا حنظلة؟ قلتُ: نافَقَ حَنْظَلَة، قال: سبحان الله ما تقول؟! قلتُ: نكُون
عند رسول الله r يُذَكِّرنا بالنار والجنة حتى
كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فإذا خرجنا من عند رسول الله r عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ
وَالضَّيْعَاتِ([18])، فنَسِينَا كثيرًا، قال أبو بكر: فَوَاللهِ
إنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هذا، فانطلقتُ أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله r، قلتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يا رسول
الله، فقال رسول الله r: «وَمَا ذَاكَ؟»، قلتُ: يا رسول الله،
نكُون عندك تُذَكِّرنا بالنار والجنة حتى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فإذا خرجنا من عندك
عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كثيرًا، فقال رسول
الله r: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ
تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ
عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً»، قالها رسول الله r ثلاثَ مرات([19]).
أدرك سيِّد المُرَبِّين
r الخلَلَ الذي وقع في ذهن حَنْظَلَة
بمثالية الصورة الذهنية لإيمانيات الفرد المسلم، وسرعان ما صَحَّح له r التصوُّر بأنَّ الإيمان يَزيد
ويَنقُص، وأنَّ الحالة الإيمانية المُثلى لا تدوم لأحدٍ من المؤمنين.
يَحدُث ذلك التصوُّر
الخاطئ أيضًا أثناء دخول شهر رمضان المُبارَك، فيَدخُل المُتَرَبِّي مُستحضِرًا في
ذهنه عبادة السَّلَف الصالح في رمضان، وأنَّ الآثار المَروِيَّة عن عبادتهم هو
المستوى الأدنى المطلوب منه تنفيذه، وإذا لم يُطبِّقْه فقد خَسِر! رغم أنَّ الفوز
برمضان لا يتطلَّب سوى صيام الشهر واجتناب المعاصي وتجديد التوبة، وصلاة القيام
وإطعام الطعام وقراءة القرآن -ما استطاع إلى ذلك سبيلًا-، أمَّا أن يَحدُث خَلَلٌ
في ذهن المُتَرَبِّي باستحضار نماذج من عبادات السَّلَف الصالح في رمضان واعتبار
هذه النماذج هي الأصل أو الحد الأدنى؛ فهو خطأ جَسِيم؛ وقد يُعرِّض الفرد للانتكاس
لعَجْزه عن القيام بالتصوُّر بالمطلوب في ذهنه!
أَضِف إلى ذلك؛ أنَّ
لكُلِّ عَبِدٍ بابًا تعبُّديًّا مَنَّ الله به عليه، هذا الباب يختلف عن غيره؛
فأحدُهم فَتَح الله عليه في قيام الليل، وآخَر فَتَح الله عليه في صيام التطوُّع،
وثالث فَتَح الله عليه في قضاء حوائج الناس؛ وعندما يَحدُث تصوُّر ذهني خاطئ بعدم
القدرة على المُواظَبة على عبادة لم يفتح الله بها عليه؛ يشعر المُتَرَبِّي
بالتقصير والنفاق!
وحتى لو كانت همته
عالية؛ فهو عالي الهِمَّة فيما فتح الله عليه من عبادة، وأمَّا العبادة التي لم
يكن فيها عالي الهمة؛ فهو يصيب منها الحد الأدنى، وبالتصوُّرات الذهنية الخاطئة
المُتضخِّمة عن تطبيق العبادات سيكون عُرْضَة للانتكاس والإحساس بالذنب والنفاق
بسبب عجزه عن تطبيق تلك التصوُّرات المَغلوطة في ذهنه.
من التصوُّرات الذهنية
الخاطئة أيضًا؛ تصوُّر التلذُّذ بالعبادات؛ فأحدُهم يسمع عن نماذج من السَّلَف
الصالح في التلذُّذ بالعبادة، وعندما يُمارِس العبادة لا يَجدُ ما سمعه عن تلك النماذج؛ فيحزن أو يشعر بخَلَل في نفسه!
والخَلَل هنا ليس في نفسه، ولكن فيمَن طرح عليه تلك النماذج دون ضبطها ضبطًا
صحيحًا في ذهنه؛ لأن درجة التلذُّذ بالعبادة تتطلب درجةً عاليةً من الإيمان قد لا
تكون مُتوَفِّرةً عند أغلب السامعين لتلك النماذج، وقد حَدَث ذلك مع السَّلَف
الصالح أنفسهم؛ حيث قال ثابت البُنَانِي ~: «كابَدتُّ قيام الليل عشرين سَنةً([20])، وتَنعَّمتُ به عشرين سَنةً أخرى»([21]).
كما أنَّ الأصل في العبادة
أنها تُقام -ابتداءً- بالمُجاهَدة والمُكابَدة وحَمْل النفس على فِعْلها؛ حيث إنَّ الأصل في فِعْل الطاعات
واجتناب المُحَرَّمات أن تكون ثقيلةً على النفس؛ كما قال النبيُّ r: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ،
وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ»([22])؛ ومعنى الحديث أنه: «لن يَصِل المرء إلى الجنة إلا بارتكاب المَكاره، ولن
يَصِل إلى النار إلا بارتكاب الشهوات، وكذلك هما مَحجوبَتان بهما؛ فمَن هَتَك الحجاب
وَصَل إلى المَحجوب؛ فهَتْك حجاب الجنة باقتحام المَكاره، وهَتْك حجاب النار بارتكاب
الشهوات. فأمَّا المَكاره فيَدخُل فيها: الاجتهاد في العبادات والمُواظَبة عليها والصبر
على مَشاقِّها، وكَظْم الغَيْظ، والعفو، والحلم، والصَّدَقة، والإحسان إلى المُسيء،
والصبر عن الشهوات، ونحو ذلك. وأمَّا الشهوات التي النار مَحفوفة بها؛ فالظاهر أنها
الشهوات المحرمة: كالخمر، والزنا، والنظر إلى الأجنبية، والغيبة، واستعمال الملاهي،
ونحو ذلك»([23])، ولا تَصِل النفس إلى مكانة التلذُّذ
بالعبادة إلا بعد فِطامها، وقد تحتاج إلى سنين، وقد لا يَصِل إليها العبدُ لكونها
مِنحةً ربانيةً قد يَمُنُّ الله U بها عليه أو لا.
من صُوَر تلك المشكلة
أيضًا؛ قَوْلَبَةُ التديُّن في شكلٍ مُعيَّنٍ؛ وهذه إشكالية تَحدُث للكثيرين؛ حيث يتشكَّل
في ذهن المُتَرَبِّي أنَّ الهَدْي الظاهر يساوي الالتزام بالدِّين، رغم أنَّ الهَدْي
الظاهر هو جزء صغير من الدِّين؛ وبالتالي يحكُم على غيره -ممَّن لا يطَبِّقون الهَدْي
الظاهر- بالبُعد عن الالتزام، رغم أنه من المُتحمل أن يكون الذي يحكُم عليه هو
أكثر اتباعًا للسُّنة في عباداته! وتلك الإشكالية لم يَسْلَم منها أغلب أبناء
التيار الإسلامي، خاصةً في بداية التزامهم! وكم خَسِرَت الكِيَانات الدعوية من
كوادر بسبب تلك الإشكالية التي رَسَمَتْ نَمَطًا مُعيَّنًا للتديُّن وحَصَرَتْه في
هيئة مُحدَّدة، ومِن المُمكِن أن يكون تاركها معذورًا بسبب الظروف الأمنية أو تضييق
أسرته عليه! ولا نُنْكِر أهمية السَّمْت الظاهر للمُنتسِب إلى حقل الدعوة، ولكن ما
لا يُمْكِن قبوله أبدًا هو حَصْر التديُّن في سُنَن مُعَيَّنة وجعلها هي الضابط
الوحيد للعمل لنُصْرة الدِّين والانتساب للحاكِمية؛ وهذا كله نِتَاج التصوُّرات
الذهنية المَغلوطة!
الصورة
الثانية (رَد الفعل تجاه المثالية): لمَّا خاف المُتَرَبِّي من تعرُّضه
للإحباط عبر التصوُّرات الذهنية "المثالية"، أو مَرَّ -فعلًا- بتجربة مثالية
مُحبِطة؛ مال إلى النموذج البسيط الذي يرضى فيه بالقليل، ولا يتطلَّع فيه إلى
المستويات العالية من العبادة أو الطموح أو الأهداف؛ وهو -للأسف- رَدُّ فِعْلٍ
عنيفٍ ليس فيه توسُّط.
وقد مال كثيرٌ من
الشباب -في الآونة الأخيرة- إلى هذا النموذج "العادي"؛ كَرَدِّ فِعْلٍ تجاه التصوُّرات الذهنية "المثالية" التي بَثَّتْها محاضرات وكُتُب التنمية البشرية وقَصَص النجاح؛ عبر تضخيم
التصوُّرات وترديد العبارة الشهيرة: "أخْرِج المارِد الذي بداخلك"؛ فجاء
رَد الفعل عنيفًا لمَّا اكتشف الشبابُ صعوبةَ -أو استحالة- تحقيق تلك الصورة "المثالية" المرسومة في أذهانهم؛ فاختاروا النموذج "العادي" في جميع مستويات حياتهم!
وإشكالية هذه الصورة أخَفُّ
من الصورة الأولى؛ فهو يحتاج إلى التحفيز وعُلُو الهِمَّة، ولكن بشكلٍ مُنضبِطٍ
وتصوُّرٍ وَسَطيٍّ؛ لأنَّ الإسلام وجَّهَ إلى عدم الرضا بالدُّونِيَّة عندما يكون
الفرد قادرًا على فِعْل ما هو أفضل؛ يقول ابن الجوزي ~: «من علامة كمال العقل؛ عُلُو الهِمَّة، والراضي بالدُّونِ دَنِيء!»([24])؛ وكما قال المتنبي:
وَلَمْ أَرَ في عُيوبِ النَّاسِ عَيبًا ... كَنَقْصِ القَادِرينَ على التَّمَامِ
وقد علَّمَنا النبيُّ r في سؤالنا الجنةَ أن نسأل اللهَ
الدرجات العُلا منها؛ فقال r: «الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ
كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مِنْهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ الْفِرْدَوْسُ
أَعْلَاهَا دَرَجَةً وَمِنْهَا تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ الْأَرْبَعَةُ، وَمِنْ
فَوْقِهَا يَكُونُ الْعَرْشُ، وَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ»([25])؛ فهذا توجيه نَبَوي جليل بعدم
الرضا بالدُّونِيَّة. وأيضًا قد ضَرَب لنا النبيُّ r مَثَلًا مع عبد الله بن عُمَر { حين حفَّزَه إلى قيام الليل؛ فقال
r: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ، لَوْ
كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ»، فكان عبد الله بن عُمَر { بعد ذلك لا ينام من الليل إلا
قليلًا([26]).
وأخيرًا: إنَّ المُرَبِّي يَقَع على عاتقه مسئولية ضَبْط تلك المُعادَلة المُعقَّدة؛ وهي مُعادَلة ضَبْط التصوُّرات الذهنية وتشكيلها وتوجيهها نحو الوَسَطية، وأنْ يُفْهِمَ المُرَبِّي مُتَرَبِّيه أنَّ الإسلام يَحْوِي التصوُّر الذهني السليم في طَيَّات القرآن الكريم والسُّنة المُطهَّرة؛ فالله تعالى هو مَن قال: واجعلنا للمتقين إماما([27])، وهو مَن قال أيضًا: وألحقني بالصالحين [28])، وهذا ليس تناقُضًا، وإنما هو تكامُل، وجَمْعُها بتصوُّرات ذهنية وَسَطية هو حَلُّ تلك المُعادَلة المُعقَّدة -في ظاهرها-.
([3]) محمد بن الحسن الثعالبي. الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي.
دار الكتب العلمية، بيروت. ط1، 1416هـ. 2/571.
([10]) ابن الأثير. الكامل في التاريخ. تحقيق: عمر عبد السلام تدمري.
دار الكتاب العربي، بيروت. ط1، 1417هـ. 2/436.
([16]) استعينوا على مُداوَمة العبادة بإيقاعها في الأوقات التي
تَنشَطُون فيها؛ كأول النهار وبعد الزوال وآخر الليل.
([19]) رواه مسلم. باب: فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة،
وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات والاشتغال بالدُّنيا. حديث رقم (2750).
([21]) ابن رجب الحنبلي. لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف.
دار ابن حزم للطباعة والنشر، بيروت. ط1، 1424هـ. ص43.
إضافة تعليق