لا شك أن إدراك قيمة الشيء مدعاة لتحمل المسؤولية تجاهه، وأنّ الإحاطة بقدر العملية التربوية بشكل عام، وتربية البنات بشكل خاص لهو سر نجاح المربي في مهمته، وهو ذاته سر نجاح الأمم؛ لأنها أولت صناعة إنسانها اهتمامًا عاليًا.
لا شك أن
إدراك قيمة الشيء مدعاة لتحمل المسؤولية تجاهه، وأنّ الإحاطة بقدر العملية
التربوية بشكل عام، وتربية البنات بشكل خاص لهو سر نجاح المربي في مهمته، وهو ذاته
سر نجاح الأمم؛ لأنها أولت صناعة إنسانها اهتمامًا عاليًا.
الإنسان -ذكرًا
وأنثى- مسؤول عن تطويع وتطوير ذاته، ومنوط به التأثير في تشكيل ثقافة مجتمعه
ومستوى تحضّره. بيده القدرة على تحسين حياته وتجويد أدائه والارتقاء بهمومه
وغاياته، وهو في هذا يحرّك من حوله.
وإن للإناث
دورًا بارزًا ملحوظًا في نكهة المجتمعات وخفقان روحها، يُمسكن بزمام صنعة الإنسان
دون تفرّد، هن المؤثر الوازن في رسم ملامح الحياة، بالنساء ترتقي الأمم وبهنّ
تنحدر، وهي نموذج الحكمة والفطنة، وهي الفتنة وعنصر التيه والسقوط. فإذا ما أدركنا
أنّ شقائق الرجال هنّ صاحبات البصمة القوية في منظومة الحياة، آمنّا أن تربيتهنّ
وتعهد نفوسهن بالتهذيب والتوجيه هو أمر جلل عظيم، وإليه نوجّه الطاقات، وفيه نولّد
الفنون والمهارات، وعليه نبني الطموح والآمال.
لذا فإنّ الهمّ
الذي يحمله الأسوياء في أي مجتمع ساعٍ للسلام والعمران، هو همّ تربية الجيل الصاعد
بشكل عام وتربية البنات بشكل خاص؛ لينمو النشء على الاستقامة المنسجمة مع الفطرة،
استقامة على تلك الجِبلّة التي أودعها الله في الإنسان؛ كي تضبط إيقاع حياته؛
يرتفع اللحن مع التفكير والرغبة في الإبداع والتجديد، وينخفض سلم الشدوِ ليصل حد
الطمأنينة والسكينة، سمفونية مضبوطة لا نشاز فيها، ونفوس على الفطرة لا قيود
تمنعها من التحليق، بل ضوابط ترسم حدود إطارٍ يحفظ للنفس سلامتها، ويقيها الشذوذ
والاضطراب المهلك.
همُّ
التربية يحمله دومًا الحريصون؛ ليصنعوا مجتمعاتهم على القوة في كل ميدان، ويولي
هؤلاء تربيةَ البنات حيّزًا من الاهتمام يتناغم مع حجم إدراكهم لخطورة دور البنت
في صناعة المجتمع، بدءًا من حياتها الشخصية، حتى يصل وُسع نفسها إلى منتهاه في
العلوم والأداء والعطاء والاستخلاف؛ إذ تضمن الرعاية التربوية للبنت السعادة
ولذويها ولمجتمعها السلام والاطمئنان، هي صانعة الرجال، على يديها تغرس القيم
وتعزز الأخلاق، وبيدها تقتل القيم الحامية، وبها يهدّم حصن الأخلاق وقلعة الفطرة السويّة،
فتحيد بها البشرية عن جادة الطريق، وتضل، أو بها تستقيم وتهتدي فتصل إلى المعالي
في أقصر وقت وأقل جهد.
ولهذه
التربية العلية أسس رئيسة وأركان ترفع بناءها:
أولها: النية المتولّدة من الشعور بالحاجة والإدراك لعظم
الغاية:
فكلما استحضر المنشغلون بصناعة النفوس أهدافهم
الاستراتيجية المسبوكة في صياغة واضحة، كانوا إلى غاياتهم أقرب، وكلما سلكوا طريقًا
تعهّدوا التذكير بهذه النية، وتابعوها فيهم أثناء المسير، ثم حاسبوا أنفسهم على
الالتزام بها حتى نهاية المسلك، وكأن النيّة هي المحرّك الحقيقي والموجّه الضابط،
وكأنها الجامعة للطاقات الحافظة لها من التبعثر والانعتاق؛ لذا حصر رسولنا الكريم
الأعمال وصحتها وقبولها عند الله بالنية: "إنما الأعمال
بالنّيات، وإنّما لكل امرئ ما نوى...". [متفق عليه].
فالنّيّة سر السداد، بل
هي كُنه التوفيق، وهي رزق رباني يحرص عليه المجتهدون المخلصون، وهي في لغة العصر
تقابل "الرؤية" التي يعتمدها القائمون على أي مشروع ويعدّونها من أدبيات
العمل الناجح.
فإذا أبطن
المربي نيّته في الإحسان ليصنع من الصغيرات نماذج من نساء ربّانيّات، قدوات لكل
المسلمات، هاديات مهديات، صالحات مصلحات، متفاعلات مع مجتمعهن في كل ميدان، سيجد
أن هذه النية الدقيقة أوحت له بالأساليب والوسائل التي سينتهجها رغبة في تحقيق ما
نوى.
وإذا عقد
نيته على إرضاء الله في صناعة نفوس سوية سالمة من أمراض القلوب، متمردة على كل
مظهر من مظاهر الظلم والجهل، قوية في تمكين العدل في ذاتها، متعاونة مع غيرها لترسيخ
العدالة في مجتمعها، فإنه لا محالة سيوهب سبل العمل الخالص، وسيرزق أصناف الفنون
لتحقيق الغاية السامية.
النية قد تكون باقة من النيات، لا غرابة في ذلك؛ فقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- تجار نيات، وهي تجارة العلماء العاملين، وهي تجارة الصادقين المخلصين، والنية تجمعك بمن يحمل الهم ذاته، ويسعى لذات الغاية، فالأرواج جنود مجندة.. والنية تحميك من الضياع، فلن تبطن في نفسك هدفًا ربانيًا إلا ويتعهدك الشيطان ليفشل مساعيك، ويلحق بك الخسارة، ويغويك عن سواء السبيل التي اتفقت مع روحك على المضي فيها وسألت ربك الصراط المستقيم.
ثاني الأسس: ضبط مفهوم "التربية" في أذهان المربين:
وإدراك أبعاد
العملية التربوية وعناصرها الرئيسة والفرعية، ومعرفة أنها عملية بناء الإنسان على
علم وفهم للحياة وتأسيس للمفاهيم، بناءً على المنهج الرباني الذي يستمد من القرآن
والسنة: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الجمعة: 2].
وعلى المربي أن يعلم أنّ التربية صنعة دقيقة
وتزكية فطينة، وتوجيه حريص، والتربية كما تبدأ من الصفر في تكوين شخصية الإنسان؛
فهي تُعنى بالضرورة بمتابعة نشأته حتى يشتد عوده ويقوى صلبه وتصير التربية
والتزكية على كاهله هو؛ لذا نرى أن التربية تقويم الاعوجاج قبل أن يشتد، سواء أكان
اعوجاجًا في الفهم والرؤى أم تعداه إلى الحركة والسلوك، والتربية تهتم بغرس القيم وتثبيت
الفطرة وحمايتها، كما تعنى بالبناء على الموجود، فتعزيز الذكاءات والمهارات العليا
والحياتية هو ميدانها الفسيح، ميدان يزخر بالمواقف التربوية والمحكات التي يصقل
خلالها الفرد ليستقيم بعد كل محطة ويزداد قوة على قوة، التربية فن جميل تغمره
البهجة، كيف لا والغاية منه صناعة النفوس الربانية، وهذا يحتاج إلى نية صادقة وعلم
بفنون التربية والإلمام بوسائلها القويمة، والصبر على مراحلها وتجنّب التذمّر
والتمنّن على النشء.
إنّ إدراك جماليات العملية التربوية يجعل
روح المربي مشرقة برّاقة، تتحلّى بمكارم الأخلاق، كيف لا والمربي هو القدوة في
حركاته وسكناته، يتزيّن بالعلم والفهم، صيّر همته العالية سلمًا لجيل ناشئ يرى فيه
صرحًا شامخًا، فهو لهذا ورع يتحرّى آداب المعلم وإن لم تكن المهنة "معلمًا"،
وهذا لعمري إدراك لسعة التربية ومداها الرحيب، ومعرفةُ أنّ الكل يمارس التربية
كلٌّ بقدر، والجميع يشارك في هذا الفن بشكل من الأشكال، ومن هنا كان للتربية عند
المختصين دوائر اهتمام، الدائرة الأولى البيت والعائلة ثم الشارع، ويقصد به العالم
المحيط من مدرسة ومؤسسات مجتمع مدني، وتعداه في وقتنا الحاضر إلى شبكات التواصل وعالم
التقنيات الحديثة.
ولأن البنات طرف مرهف، وشِق الإنسان الرقيق،
لزم على المربي مراعاة فنون التربية بدقة، والانتباه وكأنه ينقش رسمًا لطيفًا على
سبيكة ذهب، فهو لن يجور في القص والتشذيب، ولن يتعامل مع المادة التي بين يديه إلا
بحرص شديد لعلوّ قيمتها وندرة معدنها، وهذا ما على المربي أن يستشعره وهو يصنع
نفوس البنات ويربي صانعات مجد الأمة وسيدات المشهد، ولو من وراء حجاب، فكما قال
معروف الرصافي:
وليس ربيبُ عاليةِ المزايا ***
كمثل ربيب سافلة الصفات
وليس النبت ينبت في جنانٍ ***
كمثل النبت ينبت في الفَلاة
فإن علَّمها كان تعليمُه لها بحب واحترام وأمل لها بالعظمة والقوة؛ فلا يميل للتخفيف عنها إذا ما كسلت، ولا تأخذه رقتها إلى التسهيل عليها والحد من إرهاقها بنيل العلوم، وإنما يجذبها للعلم جذبًا، ويعين روحها على الاعتياد والتصبّر، ثم يكافئ ويثيب ويهش ويبش، فهي الرقيقة التي إن رأت التعزيز على بذلها ازدادت إقبالاً، وإن أراد المربي تفهيمها فبالصبر والابتسامة والاستمرار والتنوّع في الأساليب، وإن عدّل لها سلوكًا فبالحب والحرص والإشفاق، يتحسس أحوالها دون تجسس وتصيّد للمساوئ، لإيقاع العقوبة، وكأنه يريدها ملاكًا لا تخطئ، أو كأن المربي نفسه لم يزلَّ يومًا في حياته!! وهنا يتبيّن لنا مدى فهم المربي لمصطلح التربية الحقة
ثالث الأسس متعلق بالنية والرؤية وهو رسم صورة للفتاة في المستقبل، ورؤية دورها وحضورها عين اليقين:
وهذا من إحسان
الظنّ بالله، يجعل النظرة للبُنيّة تمتلئ حبًا وحرصًا واحترامًا وأملاً، من هذه
النظرة الودودة تبعث الرسائل الذاتية للفتاة، فتتناغم مع همّ المربين وكأنهم
يشحنونها بالطاقة الكامنة فيهم، ويزيدهم ربهم من فضله فيكون أن تغلب التلميذة
أستاذها، وتبزّ البنت مربيها، فقد تسرب لروحها شيء من روح المربي، وسعت لتحقيق
غايته من وجودها وكأنها جزء منه، هذا هو حال المربي الصادق؛ يبذل ما يبذل من جهد
دون كثير عناء، ففي عينه وفي نبرات الصوت وردّات الفعل ما يسنده ويلبي الحاجة دون
تكلف زائد، وهذا لا يمنع تحصيل الركن الرابع للتربية.
قد يتبادر إلى
الذهن سؤال يسأله في العادة من قطعوا شوطًا في تربية البنات، وهو: كيف نجمع بين ما
نريد لها وما تريد هي لنفسها؟! وهل يمكن أن يكون ما تريده هي مخالفًا لما نريد؟!
الجواب معقود بطبيعة التنشئة؛ فلو نمت هذه النبتة في بيئة سليمة منسجمة مع الغاية تنظيرًا وتطبيقًا، ولو أحيطت هذه النبتة الواعدة ببيئة مرنة تمزج الأصالة والمعاصرة في حياة ترضي الله: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162]، ولو جعلها مستعدة للعيش في زمانها واستخدام وسائل العصر لخدمة الغاية من وجودها، ولو هيّأها لتميّز الحق من الباطل، ودرّبها بعد الاختيار على الاتباع، وغرس فيها الاعتزاز باتباع الحق؛ لأنه طريق الرب الخالق الذي تعهّد بحمايتها من الضلال، لكنّا فخورين واثقين بمخرجات التربية التي اجتهدنا في إتقانها والإحسان فيها، قد نختلف مع البنات في الجزئيات؛ فقد خلقن لزمان غير زماننا، لكننا حتمًا لن نختلف في الثوابت والأصول التي ترسم ملامح صفات الشخصية الربانية.
الأساس الرابع يكون في معرفة المربي مفاتيح الشخصيات وإدراك تنوعها:
ورؤية لون كل
بنت يخصّه أمر تنشتها، مستثمرًا النمط واللون في تحديد معالم النجاح من خلال التفاعل
معها في المواقف مهما كانت، فالمواقف
الحياتية تتنوّع وتتذبذب بين المسرات والأحزان، وبين النجاحات والإخفاقات، وبين
السلامة والامتحان، من هنا يكون علم المربي بأنواع الشخصيات مدخلاً لجعل أي موقف
في صالح البنت، فيجنّبها العقد النفسية والتفكير المنحرف.
فإذا علم المربي سمات الشخصية ودقق في ملامحها ولمس
أنواع الذكاءات فيها، تيسّر عليه كشف الخبايا مما تحب وتكره ومما تميل إليه من
علوم وهوايات ومواهب، حينها يكسب ودها لأنه عرف كيف يخاطب فيها العقل والجسد
والروح، بهذا كسب رسول الله قلوب أصحابه، وظنّ كل واحد منهم أنه أحبّهم وأقربهم
إلى رسول الله، فكانوا الجيل الفريد. وبهذا لن يهمل المربي المتبصّر بأنماط
الشخصية رياضات البدن، كما لن يهمل رياضات الذهن والروح، هنا يجد بنتًا تتكامل
فيها المواصفات الحسنة، ويتساقط منها شيئًا فشيئًا ما علق بها من أدران الحياة.
وهذا ينقلنا للأساس الخامس، وهو تدريب الفتاة على
التفكير المستمد من العلم الشرعي:
ويكون بحرص المربي على صقل الفكر وتدريب
البنت على طرائق التفكير على أساسٍ من العلم الشرعي بما تتدبّر وتفهم من القرآن
وسنة المصطفى؛ لتكون قوية رابطة الجأش في مهب ريح العولمة المحملة بالمخاطر، هذه
البُنيّة الرقيقة لها عقل قادر على تحريك العالم، فلا يجوز للمربي أن يهمل عقل
البنت ويهمّش إشغال الفكر بما يخدمها ويخدم أمتها، وبما يتناغم مع طاقاتها وميولها،
وعليه أن يدرك أنّ التربية الخالية من إعمال عقل البنات في كل ميدان ومجال طيب،
يجعلها فريسة للغزو الفكري الذي بات قريبًا منا، بل غرق فيه بعض أبناء المسلمين، فجهاز
صغير بين يدي الفتاة يريها العالم بكل تفاصيله، فإذا لم نصنع النفوس القوية
بتفكيرها كما هي قوية بعاطفتها؛ لن يكون للبنات حضور، ولن تكون قلعة صامدة قوية،
وإذا خسرنا إناثنا فقد خسرنا الذكور، فقد روى أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال
من النساء". [متفق عليه].
الأساس
السادس: التوفيق بين الأصالة والمعاصرة:
وذلك باعتماد
مصادر التربية ومصادر التعليم والتوفيق بين الأصالة والمعاصرة في المناهج
والأساليب، ولن يفلح مربٍّ غفل عن القرآن معينًا رقراقًا لمكارم الأخلاق وشريعة
الحياة، ولن يفلح -والله- إن نسي السنة العصماء والسيرة المطهرة لنبينا العظيم ولسيرة
أمهات المؤمنين القدوة الزاهية لبنات المسلمين، ثم تكون السير والتاريخ والأدب واللغة،
فهذه العلوم هي أساس بناء الهُويّة في بنات المسلمين؛ حتى لا تذوب في بحر الانفتاح
على حضارات العالم وثقافات الشعوب، بل تختار منها ما يتواءم مع دينها وهويتها، ولن
تقدر على هذا إلا بنتٌ ذكيّة فطنة، حصّلت هذه العلوم وتمكنت منها.
تنشأ بنت الإسلام على علوم الشرع، ثم يكون البناء عليها من
علوم الدنيا، فالقرآن كتاب مقروء، والكون قرآن ملموس منظور. والحديث في هذه الأسس يطول ويطول.
الأساس السابع: الدعاء:
إلا أن الأساس الثامن يختمها كما يُختم الرحيق والمسك، هو ركن الدعاء، يدعو المربي للفتاة بالهداية والتوفيق والسداد، (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) [الفرقان: 77]، يدعو لها سرًا وجهرًا، في حضورها وفي غيابها، ويعلّمها أن تدعوَ لنفسها، وأن تأنس بذكر الله، وأن تستعين به ولا تعجز، فاستحضار معية الله ومناجاته -سبحانه- أساس تربوي يختم به المربي مرحلة البذل، فيكون به التسليم والتوكل، وتفويض الأمور إليه -جلّ في علاه-.
سهاد أبو زيد
احسنت