تلعب أحلام اليقظة دورًا مهمًا في التخطيط وحل المشكلات؛ حيث يقوم الفرد الإنساني من خلال أحلامه اليقِظة باستحضار الخبرات الماضية، والسابقة، وربطها بالحاضر، ووضع البدائل..

يمارس أغلب الناس أحلام اليقظة ضمن الحدود المعقولة، ودون مبالغة، فتكون وظيفتها لديهم وظيفةً نمائيةً تطورية؛ فهي أرض خصبة للإبداع، ومحفزةً له وللتفكير غير المألوف، وأساس كثيرٍ من الأفكار الرائدة والابداعية، فكثيرٌ من المبدعين، والمخترعين، والمكتشفين، بدأوا بالخيال والتصور لأشياء غير مألوفة، ورسمِ صورٍ غير نمطيةٍ لأحداثٍ، أو أفكارٍ، أو مواقف؛ ما شكل لديهم دوافع ذاتيةً داخليةً لترجمتها وتنفيذها على أرض الواقع. ومن المعلوم تربويًا أن (الدوافع الداخلية) كإرضاء الذات، والإنجاز، والفضول المعرفي، وحب الاستطلاع، ومتعة التعلم؛ تعد محركات للسلوك الإبداعي، وشرطًا أساسيًا للتعلم الذاتي والمستمر.

وتلعب أحلام اليقظة دورًا مهمًا في التخطيط وحل المشكلات؛ حيث يقوم الفرد الإنساني من خلال أحلامه اليقِظة باستحضار الخبرات الماضية، والسابقة، وربطها بالحاضر، ووضع البدائل، ومن ثم بناء تنبؤاتٍ مستقبليةٍ؛ ما يساعده على التخطيط السليم للمستقبل.

وكلُّ شيءٍ زاد عن حده انقلب إلى ضده؛ حيث إن الاستغراق في أحلام اليقظة والمبالغة فيها يؤثر على فعاليات الذات، والتكيف النفسي، والمهني، والاجتماعي عند الفرد؛ فتضطرب لديه الصحة النفسية، وتظهر عليه أعراض مرضية كالقلق، والاكتئاب، أو الهستيريا، أو بعض الأفكار الانتحارية... إلخ.

تعد أحلام اليقظة من الظواهر النفسية التي تنشأ منذ الطفولة لدى الفتيات، وتتضح في مرحلة الطفولة المتأخرة، ومرحلة المراهقة؛ حيث تلعب المكونات النفسية، والظروف الموقفية دورًا في ظهورها لديهن. وتعد مرحلة المراهقة للفتيات مرحلةً حاسمةً في النمو الإنساني؛ فهي تشمل تغييرات داخليةٍ وخارجيةٍ، عميقة الأثر على الجانب العقلي، والجسمي، والفسيولوجي، والحركي، والاجتماعي، والانفعالي. وبسبب هذه التغييرات -إن لم نحسن استيعابها والتعامل معها بحكمة- قد تظهر بعض الظواهر النفسية، منها الاستغراق في أحلام اليقظة، والتي قد تشكل في بعض الأحيان منعطفًا خطيرًا لدى بعض المراهقات؛ لما لها من مآلات تشكل أساس كثيرٍ من الاضطرابات السلوكية، أو النفسية.

ما أحلام اليقظة؟!

أحلام اليقظة هي استغراق الفتاة في عالمٍ خيالي تنفصل فيه عن الواقع والبيئة المحيطة، وهي في حالة شبه يقظة. أما محتوى هذه الأحلام فهي آمال، أو طموحات، أو مواقف سعيدة، أو أمنيات صعبة المنال، أو شخصيات خيالية، وفي بعض الأحيان عدوان.

الهروب من الواقع والانطفاء:

ما الذي يجعل الفتاة تلجأ إلى أحلام اليقظة؟! وما الذي يدفعها إلى الانفصال عن الواقع والاستغراق فيه؟!

إن استغراق الفتيات في أحلام اليقظة يرجع في أساسه إلى جوانب شخصية، وسمات فطرية، وآليات دفاع متعلمة، وظروف موقفية تتجلى في الآتي:

 إشباع الحاجات:

الحاجة هي النقص، والعوز، والافتقار. وتعد الحاجات الإنسانية المحرك للدوافع المختلفة؛ حيث إن نشوء الحاجات سواء أكانت فسيولوجية، أم معرفية، أم نفسية، أم اجتماعية، أم عاطفية... إلخ، يشعر الفرد بالتوتر؛ ما يجعل الفرد يسلك سلوكيات محددة، وموجهة، ومنتقاة لإشباعها بطرق (صحية)؛ هذه الطرق اكتسبها الفرد وتعلّمها من الأسرة والبيئة المحيطة.

أما في حالة عدم اكتساب تلك الطرق للإشباع؛ فإن بعض الفتيات في مرحلتي الطفولة والمراهقة يملن إلى الاستغراق بأحلام اليقظة كوسيلة إشباع لكنها (غير صحية)؛ حيث إنهن لا يمتلكن الطرق الصحية، ولم يتعلمنها، ولم تسمح لهن خبراتهن المحدودة بالتعرف عليها، أو أن الإشباع غير ممكن في هذه المرحلة. هذه الحاجات هي: حاجات الحب، والأمن، والتقدير، والاحترام، والفهم، وتحقيق الذات، وكذلك الحاجات الكمالية والجمالية، وبعض الحاجات الفسيولوجية.

الشعور بالنقص والتعويض:

فسّر (كارل يونج) ميل بعض الناس لأن يسلكوا بطرق معينة بأنها سلوكيات تعويضية؛ وذلك لشعورهم بنقص ما، وقد يكون تعويضًا إيجابيًا أو سلبيًا. تعد أحلام اليقظة أسلوبًا من أساليب التعويض. إن عدم امتلاك الإمكانات والمهارات المختلفة وضعف القدرات (الأكاديمية، أو الجسدية، أو الشخصية، أو الاجتماعية)، أو عدم السيطرة عليها بحكم النمو، أو بسبب الظروف البيئية، أو المعايير المجتمعية، قد يُلجئ الفتاة إلى أحلام اليقظة؛ فتتخيل الفتاة نفسها أذكى، أو أجمل، أو أقوى، أو أكثر تأثيرًا، وأكثر جاذبية؛ وذلك ضمن خيال قصصي وتصورات ذهنية غير واقعية، كشكل من أشكال التعويض عن شعورها بالنقص والدون.

الكبت والتنفيس:

بعض الرغبات قد لا تستطيع الفتاة تحقيقها على أرض الواقع؛ حيث إنها غير مقبولةٍ اجتماعيًا، أو مرفوضةً دينيًا، أو من الاستحالة تحقيقها؛ مثل الرغبات العاطفية (حب لفنانٍ، أو شخصيةٍ اعتبارية يصعب الوصول إليها)، أو الرغبات الجنسية، أو الميول العدوانية، وما شابه، فتلجأ الفتاة للتنفيس عن المشاعر العاطفية، أو العدوانية، والرغبات المحرمة، أو المستحيلة من خلال أحلام اليقظة.

الإحباط وعدم الثقة بالذات:

يعرّف الإحباط بأنه شعور مزعج ينتاب الفرد عند إعاقة تحقيق هدف ما يسعى إليه، ويعد أحد الأسباب المؤدية للسلوك االعدواني.

إن مرور الفتاة بخبرة إحباط، واختبار ذلك الشعور المزعج في عمر مبكر (الطفولة والمراهقة) قد يولد لديها رغبة بالعدوان على مصدر الإحباط، وقد تَحُول معايير المجتمع دون التفريغ الانفعالي المباشر على أرض الواقع؛ ما قد يجعلها تلجأ إلى التفريغ والتنفيس الانفعالي من خلال أحلام اليقظة.

يرتبط بالإحباط تطور الشعور بعدم الثقة بالنفس، من خلال تشوه صورة الذات المدركة لدى الفتاة، بسبب ردود فعل من حولها واستجاباتهم السلبية حول أداءاتها المختلفة التي تعد هدفًا لها لاستجلاب رضاهم؛ ما يؤثر بشكل مباشر على مفهوم الذات، إضافة لشعور الإحباط لديها. وتعمل الرهافة الانفعالية والحساسية عند الفتيات على زيادة الأمر سوءًا عند تعرضها للإحباط وانخفاض مفهوم الذات الإيجابي؛ الأمر الذي يؤدي إلى جعلها أكثر انخراطًا بأحلام اليقظة.

توجيهات تربوية للمربيات:

كيف تتعامل الداعيات المربيات ممن تكفّلن الفتيات بالرعاية، وتصدرن مهمة توجيهن وإرشادهن، مع الفتيات اللواتي يستغرقن في أحلام اليقظة منهن؟!

إن فهم المربية لطبيعة المراحل العمرية والخصائص النمائية للفتيات، والفهم لهذه الظاهرة -أحلام اليقظة بصورتيها الإيجابية والسلبية- سيسهل عملها التربوي في الجانبين الوقائي والعلاجي في هذه التوجيهات التربوية:

تشجيع الأحلام الإيجابية البناءة:

المربية الحكيمة هي من تستثمر الجانب النمائي لأحلام اليقظة من خلال تشجيع الخيال الإيجابي، وتحفيز الفتاة لتتخيل مواقف إيجابية وفاعلة ومؤثرة ثم تركها تتحدث عنها مثال: أغمضي عينيك وتخيلي نفسك عالمة تخترع شيئًا مميزًا، فماذا ستخترعين؟! تخيلي نفسك معلمة تهتم بطلبتها، كيف ستتميزين؟!

كما يمكن استثمار هذا الجانب النمائي، من خلال تعريض الفتيات لمشكلات معينة وتركها تتخيل وتبني تصورات لحلها مثال: ماذا لو انقطع الإنترنت عن العالم، كيف سيتواصل الناس؟ وكيف يمكن بث الأخبار؟!

بناء التكيف الصحي:

أثناء الإعداد للبرامج التربوية للفتيات، لا بد من الاهتمام بالأنشطة والتدريبات التي تُعنى بإكساب الفتيات مهاراتٍ تكيفيةٍ صحيةٍ لمواجهة الضغوط، للحيلولة دون لجوئها إلى أحلام اليقظة كنوع من أنواع التكيف السلبي، هذه الأنشطة والتدريبات تعنى بمهارة التعبير عن الذات والمشاعر، والتنفيس الانفعالي، وتطوير الوعي بالذات وبالمشاعر، وكيف تواجه المواقف الضاغطة، وتعلم التركيز على الإيجابيات في المواقف الضاغطة، وتعرف جوانب القوة لدى الفتاة، وتجنب الأشخاص السلبيين، والتفسير الإيجابي للمواقف... إلخ.

 تعلم الإشباع الصحي:

تزويد الفتاة بطرق صحية لإشباع الحاجات؛ كحاجة الحب والانتماء التي يمكن أن تشبع من خلال تشجيع الفتيات على بناء العلاقات السليمة في مجتمع الفتيات ذاته، وكذلك مع المربيات، مع ضرورة الربط بمحبة الله في كل مرحلة.

وإشباع حاجة التقدير من خلال بناء مواقف من قبل المربيات وتوفير فرصٍ للجميع؛ بحيث تتميز فيها الفتيات كلٌ حسب إمكاناتها، وقدراتها، ومواهبها.

ويلعب المحتوى المعرفي في البرامج التربوية دورًا مهمًا في إشباع حاجات الفهم عند الفتيات؛ من خلال توفير محتوى معرفيٍ ملائمٍ ومتزنٍ، يُجيب على جميع تساؤلات الفتيات المختلفة سواء أكانت دينية، أم عقدية، أم اجتماعية، أم عاطفية، أم جنسية... إلخ. وكذلك يتجلى دور المحتوى المعرفي والمهاري لهذه البرامج في تعديل مفهوم الجمال، وإعلاء قيمته بصورته السامية؛ فالجمال ليس جمال الخلقة فقط، بل يتعداه لجمال الأخلاق، والفكر، والعمل، والإنجاز، والعطاء، والكون. إن تعديل مفهوم الجمال وترسيخه سيجعل عملية الإشباع لهذه الحاجة عند الفتيات أسهل وأيسر.

 تعلم تأجيل الإشباع:

إلى جانب تعلم الإشباع الصحي للحاجات، يجب أن تتعلم الفتاة منذ الطفولة المبكرة؛ أن بعض الحاجات عمومًا لا بد لها من تأجيل؛ فليست كل الحاجات تلبَّى، ولا كل ما تشتهيه يُعطى، ولا في كل الأوقات طلباتها مجابة. فلتتعلم الفتاة أنه بإمكانها أخذ ما تريد بعد وقت محدد، أو بعد مهمة معينة، أو بعد مرحلة ما.

تعمل التربية الواعية والتنشئة الاجتماعية السليمة في الأسرة والمحاضن التربوية المختلفة على تشكيل وتكوين مجموعة من القدرات لدى الأبناء؛ كالتحكم وضبط الذات، وتطوير الوعي بالذات، والقدرة على توجيهها وتنظيمها، (وهذا ما يسمى بتنمية عمليات ما وراء المعرفة)، والتدريب على تأجيل الإشباع ومقاومة الإغراء.

إن الاستجابة لكل ما يريده الطفل عمومًا يعني بالضرورة تنشئة فردٍ مسيطِرٍ على من حوله، أناني ومحكومٍ بشهواته، وغير قادرٍ على كبح رغباته، وهو بحسب الدراسات أقل حزمًا وأضعف تقديرًا لذاته؛ فإذا ما عجز عن إشباع حاجاته أو أُحبِط، لجأ إلى أحلام اليقظة كطريقة (غير صحية) للإشباع.

ثم إن الميل الجنسي والعاطفي أمر طبيعي عند الفتيات في مرحلة المراهقة بحكم النمو الجنسي والبلوغ، إلا أن اكتساب القدرة على تأجيل الإشباع عمومًا سينتقل أثرها إلى القدرة على تأجيل الإشباع الجنسي (بحسب نظرية انتقال أثر التدريب)؛ ما سيقلل احتمالية الانخراط في عملية إشباع جنسي من خلال أحلام اليقظة. وجدير بالذكر أن الخطورة في هذا النوع من الإشباع يمكن أن تتطور إلى ممارسات ضارة، كالعادة السرية ومشاهدة الأفلام الإباحية.

 كما يتضح الدور التربوي للمربية في تهذيب الشهوات من خلال التربية الإيمانية وترسيخ المفاهيم الإيمانية؛ كاستشعار رقابة الله، واستحضار الأجر والثواب، وغض البصر، والحجاب؛ ما يعفّ قلب الفتاة ويجعلها أكثر قدرة على ضبط العواطف والرغبات الجنسية.

رعاية طاقة النمو:

كبرعمٍ صغيرٍ إذا ما صادف عنايةً ورعايةً، انطلقت طاقة النمو فيه؛ ليتفتح ذلك البرعم مؤذنًا بنبت قوي سيثمر بعد حين بإذن ربه. نعم هو ذا نفس عمل المربية في إطلاق الطاقات الكامنة للفتاة، والتعرف على الإمكانات، والقدرات، وجوانب القوة فيها، وتعزيزها، واستثمارها، ومساعدتها على تطويرها، ومن ثم تعرّف نقاط الضعف، والعمل على تجاوزها بالتدريب أو التعلم؛ ما يتيح للفتاة الفرصة للإيمان بنفسها، وقدراتها الحقيقة، لا الخيال وأحلام اليقظة.

بناء التوقعات المتزنة:

من الضروري تفهم المربية للمرحلة النمائية التي تمر بها الفتاة وخصائصها ومتطلباتها النمائية، ومن ثم بناء توقعات واقعية حول إمكاناتها وقدراتها؛ لأن تكليفها بما لا تستطيع سيعمق إحساسها بعدم الكفاءة، وعدم الثقة، أو اختبار شعور الإحباط المرير الذي يقودها إلى أحلام اليقظة لتتجاوزه.

ختامًا... فإن الفتيات في هذا الزمان تحديدًا، يحتجن إلى رعايةٍ وعنايةٍ حثيثةٍ ودقيقةٍ؛ لما يواجهن من متغيراتٍ وعوامل وظروفٍ مختلفةٍ، وتحدياتٍ صعبةٍ، تؤثر على تكوينهن الدقيق، ووعيهن العميق. وكما نحتاج أن نراعي ونهتم بكل ما يظهر على ساحة الشعور لديهن؛ فإن اللاشعور يشكل قنبلةً موقوتةً لجملة اضطراباتٍ نفسيةٍ، وسلوكيةٍ؛ إذا لم نعلِّم هؤلاء الفتيات الطرق الصحية والصحيحة في التعبير والتنفيس، والتفريغ الانفعالي، ومواجهة الضغوط. 

إن الاهتمام بالفتيات هو اهتمامٌ بركنٍ عظيمٍ من أركان هذه الأمة؛ فهي الزوجة الحامية للعرين، وهي الأم المربية الحاضنة لخميرة التميز والإبداع لدى أبنائها، وهي الأخت الداعمة والمساندة، وهي المعلمة البناءة صانعة الأجيال.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة