وإذا كانت الأمّة الإسلامية اليوم تعيش حالة الهزيمة، في ظل حالةٍ من القسوة، والصَّلَف، والجبروت؛ فإنّه لا يصح أن تتسرب هذه الهزيمة إلى النفوس فتهدمها، وإلى القلوب فتحطِّمها، بل يجب أن تبقى واقفةً خارج حدود النفس،
الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، وبعد:
فلم يكن لمجرد الردّ، ولا لمقابلة التعالي بما يكافِئُه من الاعتداد
والاعتزاز؛ وإنما كان – قبل ذلك – للصِّناعة، والبِناء: صناعة الرجال، وبناء الأجيال، وتربية أعضاء الجسد
الإسلاميّ على العزة، والثقة، والرسوخ، والشموخ.
وإذا
كانت الأمّة الإسلامية مكلّفةً بأعظم مهمةٍ في الوجود، وهي إخراج العِباد من العُبودية
للعِباد إلى العُبودية لربِّ العِباد؛ فإنّها لن تكون على الحال الذي يؤهِّلها
لذلك الدَّور الفَذّ إذا كانتْ واهنةً ضعيفةً، تملأ الهزيمة كِيانها، وتعشِّش في
أوصالها.
ولقد
جاء ردّ المسلمين على أبي سفيان في هذا السياق، سياق التربية على الاستعلاء
بالإيمان، والاعتداد بالدِّين، والاعتزاز بالعقيدة، والتحصن الدائم المستمر بشرف
الانتماء للإسلام من كل دواعي الهزيمة النفسية، وهواتف الانهيار، والاغترار، ففي
صحيح البخاري، ومسند أحمد، وغيرهما ورد الخبر عن البراء بن عازب -رضي الله عنه-
يروي فيه ما جرى في اللحظة التي تلقّى فيها المسلمون الهزيمة؛ حيث وقف أبو سفيان
يفخر، ويباهي بانتصاره، ويصيح بالمسلمين: اُعلُ هُبَل، اُعلُ هُبَل، عندئذ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه المكلومين المقروحين: «ألا تجيبون له»، قالوا: يا رسول
الله، ما نقول؟ قال: "قولوا: الله أعلى وأجلّ"، قال: إنّ لنا العُزّى
ولا عُزّى لكم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ألا تجيبون له؟»، قال: قالوا: يا
رسول الله، ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم». [صحيح البخاري (4/66)].
وبعدها نزلت الآيات التي عقّبت على الحدث الجلل -حدث الهزيمة في أُحُد-
وجاء في طليعتها هذه الآية: (ولا تَهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم
مؤمنين) جاءت من عند الله تعالى على هذا النحو؛ لتُرَبِّت على قلوب الموحدين،
وتميط عنها الوَهَن والحَزَن، وتحول دون وقوع ما لا يمكن أن يقع بالناس ما هو أخطر
منه، وهو الهزيمة النفسية.
وقد يستولي على قلبك العجب من هذا السياق المعجز، الذي يجد طريقَه إلى القلب
في سلاسةٍ ويُسرٍ؛ لكونه تنزّل من لَدُن حكيمٍ خبيرٍ، يعلم ما توسوس به النفوس،
وما يجيش في القلوب، وإنك لتقرأ هذه الآية فتشعر بالراحة والرَّوح، وإنك لتَستروِح
بها وقت الشدّة، فلا تشعر بشيءٍ من حرّ المأساة.
وهكذا تجد القرآن دائمًا يحوط المؤمنين بكل ما يُحرِزهم من دواعي الهزيمة
النفسية، فتأمَّلْ كيف يحذِّر نبيه، وينهاه عن الضعف النفسي أمام انتفاش الباطل
وزهوه: (لا يغرنَّك تقلب الذين كفروا في البلاد)، (فلا يغررك تقلّبهم
في البلاد)، وتأمَّلْ كيف يدفع عنه الحزن، ويمنحه الثقة: (قد نعلم إنه
ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون)، ثم
لا يقرّه الحق -تبارك وتعالى- على الانسياب مع دواعي الحزن المحبِط: (لعلك باخِعٌ
نفسك ألا يكونوا مؤمنين)، (فلعلك باخِعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا
بهذا الحديث أسفًا).
وإذا كانت الأمّة الإسلامية اليوم تعيش حالة الهزيمة، في ظل حالةٍ من القسوة، والصَّلَف، والجبروت؛ فإنّه لا يصح أن تتسرب هذه الهزيمة إلى النفوس فتهدمها، وإلى القلوب فتحطِّمها، بل يجب أن تبقى واقفةً خارج حدود النفس، عاجزةً عن اختراق حجابها المحصّن بأسوار العِزّة، وقِلاع الإِباء، يجب أن تظلّ هكذا؛ حتى تزول -بإذن الله- آيسةً من الدخول، متعرِّضةً في كل لحظةٍ للدفع والمقاومة، من نفوسٍ لا تستسلم للهزيمة.
إذا كانت الأمّة الإسلامية اليوم تعيش حالة الهزيمة، في ظل حالةٍ من القسوة، والصَّلَف، والجبروت؛ فإنّه لا يصح أن تتسرب هذه الهزيمة إلى النفوس فتهدمها، وإلى القلوب فتحطِّمها، بل يجب أن تبقى واقفةً خارج حدود النفس، عاجزةً عن اختراق حجابها المحصّن بأسوار العِزّة، وقِلاع الإِباء، يجب أن تظلّ هكذا؛ حتى تزول -بإذن الله- آيسةً من الدخول، متعرِّضةً في كل لحظةٍ للدفع والمقاومة، من نفوسٍ لا تستسلم للهزيمة.
إننا لم نهزَمْ أمام الاستعمار يومَ أن تفوَّق علينا بسِلاحه، وعَتاده،
وأعداد جنوده، لم نهزم يومَها أمامه؛ رغمَ احتلاله لبلادنا، وقتله للأبرياء
وللأشراف منّا، وإنّما هُزمنا يوم أن سيطر علينا الإعجاب، واستولى على قلوبنا
الانبهار بما لدى هذا المستعمِر من جديدٍ في كل المجالات، يوم أن قطع هذا الانبهار
صِلَتنا بنفوسنا، فذابت في عدونا، يوم أن استبدّ بنا الهوان، واستحكم منّا الوَهَن.
لذلك - ولأنّ المعركة طويلةٌ، وبالغة الشراسة - يجب أن نتسلَّح، ونُسلِّح الجيل بالاعتزاز، والاعتداد بما منّ الله علينا به من هذا الدِّين، وهذا الحق، وهذه النعمة الكبرى، فهذه النفسية أسرع إفاقةً بعد مصيبة، وأوشك كرةً بعد فرّة، وأَقْدَر على الانطلاق إلى النصر من منصَّة الواقع الغارِق في الهزيمة، وأوفر همّةً للنهوض والوثوب.
إننا لم نهزَمْ أمام الاستعمار يومَ أن تفوَّق علينا بسِلاحه، وعَتاده، وأعداد جنوده، لم نهزم يومَها أمامه؛ رغمَ احتلاله لبلادنا، وقتله للأبرياء وللأشراف منّا، وإنّما هُزمنا يوم أن سيطر علينا الإعجاب، واستولى على قلوبنا الانبهار بما لدى هذا المستعمِر من جديدٍ في كل المجالات، يوم أن قطع هذا الانبهار صِلَتنا بنفوسنا، فذابت في عدونا، يوم أن استبدّ بنا الهوان، واستحكم منّا الوَهَن.
نحن أولى بهذا من الشعب اليابانيّ الذي حوَّل جحيم "هيروشيما" و"نجازاكي" إلى طاقةٍ دافعةٍ نحو التقدم،
والرقيّ، والتفوق العلمي، والتكنولوجي، والاقتصادي، ومن الشعب الألماني الذي استعلى
على الهزيمة، ووقف على حطام بلاده عقب الحرب العالمية الثانية مستشرِفًا مستقبل
أمّةٍ، وَثَبَتْ من القاع إلى القمّة في سنواتٍ قليلةٍ.
أجل.. نحن أولى بهذه الهمة العالية منهم؛ لأننا أصحاب رسالةٍ عالميةٍ
عالية الراية، وأصحاب دِينٍ هو الوحيد الذي كتب الله له السِّيادة على الدِّين
كله.
ومن هنا ندرك السرّ في أنّ آيات سورة آل عمران، التي نزلت في التعقيب على
هزيمة أحد -التي كان أحد أسبابها الأخذ بمشورة القائلين بالخروج للقاء المشركين
خارج المدينة- اشتملت على هذا التحصين المهم: (فاعفُ عنهم واستغفرْ لهم وشاوِرْهم
في الأمر).
فالمنهزمون نفسيَّا لا يتغافرون، ولا يسمحون لأنفسهم أن يخرجوا من اللحظة
التي وقعت فيها الهزيمة، ويظلّون أسرى لها، ولتداعياتها أبدًا، ويفقدون الثقة
بأنفسهم، وبعناصر قوتهم.
أمّا التغافر، والتصافح، والتشاور، وتبادل الثقة، وغرس العِزّة والإباء فهو فعل الأمّة القوية، الممتلئة إيمانًا بوجوده، وبأهمية هذا الوجود.
فلا تهنوا.. بل انطلقوا في طريق العمل لهذا الدِّين العظيم، مغتبطين بما منّ الله عليكم من الهدى، ودِين الحقّ.
إضافة تعليق