إن أراد الداعية أن يغبط نفسه، فإنه يغبطها على قانون تجارته الفذ.. حقًا، إنه قانون مربح، خالٍ من الغموض؛ فتجارة الدعاة مع الله ليست كتجارة غيرهم، ليس فيها قلق من تخفيض سعر الدولار،
إن
أراد الداعية أن يغبط نفسه، فإنه يغبطها على قانون تجارته الفذ.. حقًا، إنه قانون
مربح، خالٍ من الغموض؛ فتجارة الدعاة مع الله ليست كتجارة غيرهم، ليس فيها قلق من
تخفيض سعر الدولار، ولا مخاطر مضاربات البورصة، ولا تعقيدات التحويل الخارجي.
سعر
أسهم الداعية ثابت، بل يزيد ولا ينقص، والوضوح في معادلات تجارته هو أعظم ضمانًا
من التأمين.
تعب
أكبر، رضوان من الله أكبر، بفائدة ربانية، أدناها تسعمائة بالمئة، كما في الآية
الكريمة: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ
عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام: 160]، وليست مجرد 7%
كما عند تجار الدنيا، إلى تسع وستين ألفًا وتسعمائة بالمئة، كما في الحديث الشريف:
"يضاعفها الله إلى سبعمائة ضعف".
ورضوان
الله يساوي أفراح الآخرة..
هذه
هي معادلاته، وقوانينه التجارية، ويالها من إغراءات ما بعدها إغراء!! ومن هنا لا
تجد أحدًا يفهم قوانين التجارة الإيمانية إلا وتراه مشمرًا مع المشمرين، مسرعًا
نحو أفراح الآخرة.
ويالها
من أفراح تتنوع لك كما تشتهي، تشتهيها نظرًا إلى ربك الجميل -عز وجل-، أو ملاقاة
لأنبياء ربك ورسله، أو رفقة للصديقين والشهداء، ومن سلف من الأمة من العلماء، كل
ذلك لك.
أو
تشتهيها كؤوس خمر، على سرير موضون، يطوف بهن عليك ولدان مخلدون، هذا وعشرة أمثاله
لك.
أو
تشتهيها قاصرة طرف، عذراء ناهدة، تحت أشجار نخل ورمان، خاليًا عند شاطئ نُهير، على
أنغام تغريد طير.. هي وأخواتها لك.
فاختر
ما تحب من سرعة سير؛ فإن يحيى بن معاذ قد نظر إلى القافلة، فوجد فيها الماشي،
والمهرول، والراكض، ثم نظر إلى درجات الجنة، فوجد أنهم: "إنما ينشطون إليه
على قدر منازلهم لديه"، فلكل درجة نشاط في السير إلى الله، درجة من الجنة لدى
الله.
درجات
طبقات:
فادفع
ثمن الواطئ، أو العالي، إن لك الخيار، إنما نذكرك أنه ملك، وما هو والله باستئجار،
ولكنا نعلم اختيارك، وما أنت بالذي يرضى الواطئ من الجنة.
أنى
لصاحب الاستعلاء في الدنيا أن لا يطمع بعليِّين في الآخرة؟! لكنها جسيمةٌ مطامعك
هذه، مثلما هي جسيمة أهدافك في الدنيا.
فاعلم
بأنك لن تنال جسيمة *** حتى تجشم نفسك الأهوالَ
شرط
وثمن:
فما
هو بقدم هول واحد إذًا، إنما ذاك في تربية فترة الابتداء، وإنما هي أقدام الأهوال.
هول
من بعد هول، ولا نَعِدُك في طريق الدعوة أن تطأ الورود، لكنها طبقة من بعد طبقة،
باب، فربض، ففردوس، فعليِّون يعدك الله إياها.. قد يكون هذا الهول تكذيبًا من
الناس لك، أو معاداة من الأهل، أو نفيًا من ظالم، أو سجنًا من طاغية.
وقد
يكون هذا الهول تعبًا يوميًا، أو فقرًا، أو نسيانًا لفرصة ثراء تمر بك، وأنت لاهٍ
بعمل الدعوة، أو عزوفًا عن جميلة حسناء، غرها زي الجاهلية، وددت أنها لو تعف،
فتكون لك زوجًا.
لهذه
الأهوال، كان طريق الحق ثقيلاً، لا يلجه إلا من اشتاق إلى الجنة، وكان ثقيلاً في
القديم أيضًا كما هو اليوم، ولذلك تجد وصفه عند من ربى الدعاة قديمًا، كما تجد
وصفه عند خلفهم الآن، فكان الحسن البصري يردد: "إن هذا الحق ثقيل، وقد جهد
الناس، وحال بينهم وبين كثير من شهواتهم، وإنه والله ما يسير على هذا الحق إلا من
عرف فضله، ورجا عاقبته".
فمن
عرف جمال العاقبة ولذتها سار، ومن سار سافر، ومن سافر جاب، ومن جاب تغبَّر، فمن ثم
لا يصدق اصطلاح (الداعية) إلا على من كان أشعث، وتلك هي ملامح صورته التي رسمها
الشاعر، فمن نظر إلى داعية مسلم وجده:
أخا
سفر جواب أرض تقاذفت *** به فلوات فهو أشعثُ أغبرُ
فهو
غير قاعد، فضلاً أن يكون راقدًا، وإنما يصرف ساعات نهاره وليله في التجول، داعيًا،
آمرًا، ناهيًا مربيًا، حاشدًا، فإذا رجع إلى بيته عند منتصف الليل، ورأى الغبار
يعلوه، ابتسم فمه، وضحك قلبه، وقال لنفسه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من
اغبرت قدماه في سبيل الله، حرمه الله على النار"، فينام مسرورًا بما جمع من
هذا الغبار، وينام غيره مسرورًا بما رصد في البنوك من دولار، ودينار.
ولو
شاء أن يجمع غباره يومًا بعد يوم، ليرش في كفنه إذا مات، لكان ذلك سائغًا لو عصم
نفسه من الغرور والله أعلم، وله سلف فعل ما فعل، وبه يقتدي، هو ملك الأندلس العادل
البطل: المنصور، أبو عامر، محمد بن أبي عامر؛ قالوا: "كان طول أيام مملكته
مواصلاً لغزو الروم، مفرطًا في ذلك، لا يشغله عنه شيء، وبلغ من إفراط حبه للغزو
أنه ربما خرج للمصلى يوم العيد، فحدثت له نية في ذلك، فلا يرجع إلى قصره، بل يخرج
بعد انصرافه من المصلى -كما هو من فوره- إلى الجهاد، فتتبعه عساكره، وتلحق به أولاً
فأول، فلا يصل إلى أوائل بلاد الروم، إلا وقد لحقه كل من أراده من العساكر".
غزا
في أيام مملكته نيفًا وخمسين غزوة، ذكرها أبو مروان بن حيان كلها في كتابه الذي
سماه "المآثر العامرية"، واستقصاها كلها بأوقاتها، وذكر آثاره فيها،
وفتح فتوحًا كثيرة، ووصل إلى معاقل كانت قد امتنعت على من كان قبله، وملأ الأندلس
غنائم.
وكان
في أكثر زمانه لا يبخل بأن يغزو غزوتين في السنة، وكان كلما انصرف من قتال العدو
إلى سرادقه يأمر بأن ينفض غبار ثيابه التي حضر فيها معمعة القتال، وأن يجمع ويحتفظ
به، فلما حضرته المنية، أمر بما اجتمع من ذلك أن ينثر على كفنه إذا وضع في قبره.
وأتت
وفاته بأقصى ثغور المسلمين، بموضع يعرف بـ"مدينة سالم"، مبطونًا، فصحت له
الشهادة، وتاريخ وفاته سنة 393هـ.
وإنما
هو غبار واحد، غبار معارك أبي عامر، وغبار سفر، وتجواب، وتجول الداعية، الآمر
بالمعروف، والناهي عن المنكر.
إضافة تعليق