تميزت التربية التوحيدية في المرحلة المكية للدعوة الإسلامية ببنائها الأرقمي. و(الأرقمية) مصطلح نعبر به عن المنهج التربوي، الذي سار عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تربية الجيل الأول من الصحابة، بدار الأرقم بن أبي الأرقم

تميزت التربية التوحيدية في المرحلة المكية للدعوة الإسلامية ببنائها الأرقمي. و(الأرقمية) مصطلح نعبر به عن المنهج التربوي، الذي سار عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تربية الجيل الأول من الصحابة، بدار الأرقم بن أبي الأرقم، قبل الهجرة إلى المدينة المنورة؛ حيث كان يجتمع بأصحابه أولًا في الشعاب سرًا، وبعد حصول مواجهات بينهم وبين الكفار، انتقل بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى دار الأرقم المخزومي على الصفا.

والتربية الأرقمية: هي التكوين المقصود به صناعة العقلية القيادية خاصة، من خلال المتابعة الدقيقة لكل فرد على حدة، بتشكيل شخصيته تشكيلا ًيقوم على منتهى صفتي القوة والأمانة، ومن هنا لم تكن الأرقمية تُعنى بإنتاج العقلية الجندية، إلا بقدر ما هي طريق لاكتساب العقلية القيادية فيما بعد. وفي هذا الصدد يقول الدكتور أكرم ضياء العمري: (وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم-، يربي أصحابه على عينه، ويوجههم نحو توثيق الصلة بالله، والتقرب إليه بالعبادة... تمهيدًا لحمل زمام القيادة، والتوجيه في عالمهم... فالعشرات من المؤمنين في هذه المرحلة التاريخية كانت أمامهم المهمات الجسيمة، في تعديل مسار البشرية) [السيرة النبوية الصحيحة (1/159)].

التربية الأرقمية: هي التكوين المقصود به صناعة العقلية القيادية خاصة، من خلال المتابعة الدقيقة لكل فرد على حدة، بتشكيل شخصيته تشكيلا ًيقوم على منتهى صفتي القوة والأمانة، 

والمادة التربوية التي كانت معتمد الجيل الأول -كما أسلفنا- كانت هي القرآن. وللقرآن المكي طبيعة خاصة من الناحية التربوية، فهو كان يسهم بشكل مباشر في تكوين العقلية القيادية، ويساعد على ذلك؛ إذ التشريع المكي في الغالب، كان كليات ابتدائية، وعزائم تكليفية.

يقول الإمام الشاطبي: (وهذا كله ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية مع الأحكام المدنية، فإن الأحكام المكية مبنية على الإنصاف من النفس، وبذل المجهود في الامتثال، بالنسبة إلى حقوق الله أو حقوق الآدميين. أما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع، لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات، والمشاحنات، والرخص، والتخفيفات وتقرير العقوبات، في الجزئيات لا الكليات، فإن الكليات كانت مقررة محكمة في مكة) [الموافقات (4/236،237)].

ثم قال: (كان المسلمون قبل الهجرة، آخذين بمقتضى التنزيل المكي، على ما أداهم إليه اجتهادهم، واحتياطهم، فسبقوا غاية السبق، حتى سموا السابقين بإطلاق، ثم هاجروا إلى المدينة، ولحقهم في ذلك السبق من شاء الله من الأنصار، وكملت لهم بها شعب الإيمان، ومكارم الأخلاق، وصادفوا ذلك وقد رسخت في أصولها أقدامهم، فكانت المتممات أسهل عليهم، فصاروا، بذلك نورًا، حتى نزل مدحهم، والثناء عليهم، في مواضع من كتاب الله، ورفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أقدارهم، وجعلهم في الدين أئمة، فكانوا هم القدوة العظمى في أهل الشريعة) [الموافقات (4/239)].

فواضح من خلال هذين النصين، أن القرآن المكي، كان له أثر كبير في تخريج الطاقات القيادية من الصحابة الأوائل خاصة؛ وذلك لما له من طبيعة كلية، مبنية على عزائم ابتدائية.

وهو أمر طبيعي، فكل دعوة كانت في مرحلة التأسيس، لابد لها من السعي إلى تربية الخلايا الأولى، التي سيتولى أفرادها مهمة الإنتاج والاستيعاب فيما بعد؛ فيكون التأسيس التربوي الأول بطبعه تأسيسًا قياديًا بالدرجة الأولى. ووعيًا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذا الهدف، كان يتحرى في دعوته أول الأمر، من تبدو عليه مخايل العبقرية القيادية، ورغم أن الدعوة كانت منذ انطلاقتها الأولى لكل الناس، إلا أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يسير وفق منهج القرآن المكي في بناء القادة أساسًا، سواء كان المدعو من الفقراء أو الأغنياء، وسواء كان من السادة أو من الأرقاء، حتى إذا أسلم الرجل، من أي شريحة اجتماعية كان، سعى به تربويًا، نحو هذا الاتجاه. وثمة نصوص حديثية تشير إلى هذا المعنى، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا) [متفق عليه]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم أعز الإسلام بعمر) [رواه الحاكم بسند صحيح]، وفي رواية: (اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: بأبي جهل أو بعمر) [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح].

إن المنهج الأرقمي، المبني على نظام الجلسة التربوية، ومدارسة النصوص القرآنية، والحديثية، حيث كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يشكل شخصيات المتربين من أصحابه الأوائل، فردًا فردًا، ويصنعهم على عينه؛ قلتُ: ذلك المنهج، هو الذي خرّج قادة الدعوة الإسلامية الأوائل؛ فالعبقرية القيادية، لم نرها في الغالب الأعم، إلا في شخصيات المهاجرين السابقين، فهم الخلفاء الراشدون، وهم الفقهاء المعلمون، والمستنبطون المجتهدون، ولذلك حينما اختلف المهاجرون والأنصار حول خلافة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بُعيْد وفاته، قال أبو بكر الصديق -وهو يعلم ما يقول-: (نحن الأمراء، وأنتم الوزراء)، ردًا على قولهم: (منا أمير، ومنكم أمير) [البخاري 3668]، وكان من خطبته -رضي الله عنه- يومئذ: (أنتم إخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في دين الله، وأحب الناس إلينا، فأنتم أحق الناس بالرضا بقضاء الله، والتسليم لفضيلة إخوانكم، وأن لا تحسدوهم على خير) [فتح الباري (7/31)].

ومدارس الفقه الإسلامي، والتفسير، والتشريع، والقضاء، ومعظم الأصول العلمية للدولة الإسلامية، إنما أسسها المهاجرون الأرقميون خاصة، بدءًا بالخلفاء الراشدين، كفقهاء، وقضاة مجتهدين، وانتهاءً بالشخصيات الأرقمية الأخرى، الذين صاروا، كما قال الشاطبي: (أئمة، فكانوا هم القدوة العظمى في أهل الشريعة) [الموافقات (4/239)].

وأما الأنصار، فقد كانت لهم الجندية، والاتباع، في الغالب الأعم، فهم أهل نصر، ومبادرة، وجهاد. وهذا لا يعني أن أحدًا من الأنصار لم تنبغ عبقريته إطلاقًا، وإنما هناك قلائل نبغوا، وصاروا قادة في مجال ما؛ كمعاذ بن جبل، فقيه الأمة، الذي كان كما قال -صلى الله عليه وسلم- فيه: أعلم الأمة بالحلال والحرام، ولذلك أرسله معلمًا، ومربيًا، وقائدًا، لأهل اليمن، والسبب في ذلك، يرجع إلى ما طبق من الأرقمية في المدينة المنورة إلى جانب المنهج المنبري، كما سوف نوضح بحول الله، بيد أن المقصود من الأحكام السالفة واللاحقة، هو العموم الغالب، لا العموم القطعي التام. هذا، وقد كان المنهج الأرقمي يعتمد أساسًا على النص القرآني لاستيعاب الناس بالإسلام، وكذا لترقيتهم في مدارج الإيمان.

وقد حكى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- انبهار جمع من كفار قريش بالقرآن الكريم، حينما تلاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم في حديث متفق عليه قال: (قرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- النجم بمكة، فسجد فيها وسجد من معه)، وفي رواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس) [متفق عليه].

وقد أسلم الناس في المرحلة المكية، بسبب سماعهم القرآن؛ قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (فلما سمعتُ القرآن، رق له قلبي، فبكيت، ودخلني الإسلام) [سيرة ابن هشام (1/408)].

وعندما التقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفد الخزرج بمكة أول مرة، قال لهم: (أفلا تجلسون أكلمكم؟!). قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله -عز وجل-، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن... ثم انصرفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا. [سيرة ابن هشام (2/38)].

وهكذا، نرى أن القرآن كان هو المادة الأساس التي اعتُمدت في إدخال الناس إلى الإسلام، وأن ربطهم منذ اللحظة الأولى كان بالله مباشرة، من خلال كتابه العزيز، ثم إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- اعتمده وحده كمادة تربوية للترقي بأصحابه في مقامات الإيمان، كما اعتمد نصوصه المكية في تشكيل شخصياتهم، وبنائها تربويًا، في الجلسات الأرقمية العظيمة: (وكانت الآيات، وقطع السور، التي تنزل في هذا الزمان، آيات قصيرة، ذات فواصل رائعة منيعة، وإيقاعات هادئة خلابة، تتناسق مع ذلك الجو الهامس الرقيق، تشتمل على تحسين تزكية النفوس،وتقبيح تلويثها برغائم الدنيا، تصف الجنة والنار، كأنهما رؤى العين، تسير بالمؤمنين في جو آخر، غير الذي فيه المجتمع البشري آنذاك) [الرحيق المختوم ص66].

فكانت سور، من مثل سورة الفرقان، التي تصف عباد الرحمن بأنهم: (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان:63]، وتحدد لهم مجموعة من الصفات الربانية، من قيام الليل، وخوف من عذاب الله، وتوحيد له سبحانه، وعدم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وإنفاق في سبيله، وحفظ للفروج من الزنا، وترك شهادة الزور، واللغو، ونحو ذلك. كما كانت سور أخرى، تُثَبَّتُ الصحابة الأرقميين في محنهم بمكة، مثل سورة البروج، التي كما قال الأستاذ سيد قطب -رحمه الله-: (تشع حولها أضواء قوية، بعيدة المدى، وراء المعاني، والحقائق المباشرة، التي تعبر عنها نصوصها، حتى لتكاد كل آية -وأحيانًا كل كلمة في الآية- أن تفتح كوة على عالم مترامي الأطراف، من الحقيقة) [الظلال (6/3871)].

فكان القرآن إذًا هو المادة التربوية للاستيعاب الداخلي والخارجي معًا، عليه يقوم المنهاج النبوي التربوي، وتميزت مرحلته المكية بالتطبيق الأرقمي، من حيث الاصطفائية، ثم التتبع الدقيق، والمعالجة الخاصة لكل فرد على حدة، قصد صناعة القادة من الجيل الأول، الذين أرسوا قواعد الدولة الإسلامية بعد.

وكما كان ذلك ساريًا في مكة قبل الهجرة، كان ساريًا أيضًا في المدينة المنورة، سواء تعلق الأمر بالاستيعاب الخارجي، كما تبين مما سبق، أو الاستيعاب الداخلي، والتزكية الفردية، من خلال الجلسات الأرقمية. وقد روى البخاري في صحيحه، كما أسلفنا، أن أول من قدم المدينة مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، وكانا يقرئان الناس القرآن.

وروى ابن هشام قال: قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه -صلى الله عليه وسلم- القوم -يعني وفد الأنصار- بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم مصعب ابن عمير، وأمر أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى مصعب بالمدينة: المقرئ. [سيرة ابن هشام (2/42)].

فمصعب -رضي الله عنه- كان يطبق نظام الجلسات لمدارسة القرآن، وهو يشكل شخصيات قيادية من الأنصار. وكان ذلك نقلًا للمنهج الأرقمي الذي بقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة يمارسه في تربيته للناس، بيد أن ذلك لم يستمر على حاله طويلًا؛ إذ سرعان ما هاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، لا ليلغي المنهج الأرقمي، ولكن ليشفعه بالمنهج المنبري، الذي صار أكثر اعتمادًا من الأول، في تربية المسلمين وتزكيتهم. وهنا يزول ما يحصل من تعارض، حينما نجد أن ثمة تطبيقات للأرقمية بالمدينة المنورة من جهة، وأن قادة من الأنصار، تخرجوا عليه، وكانوا أئمة في مجالات أخرى من مجالات الدين.



[1] بتصرف من مبحث المراحل المنهجية للتربية النبوية، من كتاب التوحيد والوساطة في التربية الدعوية – د. فريد الأنصاري.

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة