التربية عمل شاق ومجهد ومكلف من ناحية الوقت والجهد، إن لم يكن المُربي فطنًا ويقظًا للأخذ فيه بأسباب القبول ضاع ذلك الجهد هدرًا، مصداقًا لحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)
التربية عملٌ شاقٌّ ومُكلِّفٌ
من ناحية الجهد والوقت، وإن لم يكن المُرَبِّي فَطِنًا يَقِظًا للأخذ فيه بأسباب
القبول فسيضيع جهده هدرًا؛ مصداقًا لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ،
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا
أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»([1])؛ فقد أَوْكَلَ اللهُ U مَن قصد بعمله غيره إلى نِيَّته؛ بدليل قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ». وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: «لاَ أَجْرَ إِلَّا عَنْ
حِسْبَةٍ، وَلاَ عَمَلَ إلا بِنِيَّةٍ»([2])؛ قال المناوي : «أي: لمَن لم يتقصَّد بعمله امتثال أمره تعالى
والتقرُّب به إليه»([3]).
وقد قُتِل رَجُل مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، فظنَّه الصحابةُ شهيدًا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «كَلَّا؛ إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا([4])»([5]). وآخَر قاتَلَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم قتالًا شديدًا، فلمَّا جُرح جرحًا غائرًا ولم يصبر عليه استعجل الموت فقتل نفسه؛ فأخبَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه في النار([6]). فهؤلاء قد ضاع جهدهم هباءً بسبب النوايا الدَّسِيسَة التي كانت تختبئ داخل عملهم الصالح.
وكثيرة هي النيات
الفاسدة المُختبِئة في الأعمال التربوية التي تصنع الحوائل بينها وبين القبول، والتي
يكون شؤم أَثَرها على المُتَرَبِّي قبل المُرَبِّي نفسه! فقد كان قاصٌّ يجلس قريبًا من مسجد محمد بن واسع ، فقال القاصُّ يومًا وهو يُوبِّخ جُلَساءَه: ما لي
أرى القلوب لا تخشع، والعيون لا تدمع، والجلود لا تقشَعِر؟ فقال محمد بن واسع: يا فلان،
ما أرى القوم أَتَوْا إلا من قِبَلك، إنَّ الذِّكْر إذا خَرَج من القلب وَقَع على القلب([7]).
ما السبب؟
السبب
الأول (طُول المُدة): فطُول وقت العملية التربوية سبب جدير لوقوع الكثير من المُرَبِّين في فخ
انحراف النية، وهي مشكلة جميع الأعمال التعبُّدية التي تتَّسم بالاستمرارية أو الدَّيْمُومَة،
والعملية التربوية قد تستغرق سنوات؛ مما قد يُؤدِّي إلى نسيان المُرَبِّي احتسابَه
النية مع المُتَرَبِّي بسبب تكرار العمل ودخوله في دائرة العادة. أَضِف إلى ذلك
امتزاجها بالطبائع البشرية المُتقلِّبة في مشاعرها وإحساسها.
السبب
الثاني (تفاوُت النفوس البشرية): فالعملية التربوية تتعامل مع النفوس والطبائع البشرية،
وهو أمر ليس له معايير ولا ضوابط؛ فالمُرَبِّي يختلط بنفوسٍ بشريةٍ مختلفةٍ، منها
مَن تتآلف معه نفسُه ومنها لا؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ فَمَا
تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ»([8])؛ وبسبب ذلك يَجِدُ المُتَرَبِّي
صعوبةً بالِغةً في ضبط نواياه تجاه المُتَرَبِّي وتجاه زملائه في المحاضن التربوية،
وقد يَجدُ المُرَبِّي صعوبةً في استحضار النية مع مَن تتنافر معه روحُه، وقد تتسرَّب
نوايا دَسِيسَة فاسدة مع مَن تتآلف معه روحُه.
نوايا دَسِيسَة:
العمل التربوي يحمل في
طَيَّاته أمورًا تَسْعَد بها النفس؛ مثل: (التسلية، وتوسيع شبكة العلاقات
الاجتماعية، والتوجيه وسماع الأوامر، واكتساب الوَجَاهة والوقار بين المُتَرَبِّين)،
وكل هذا خير إن تم ضبطه بالاحتساب، وتَندَسُّ تلك النوايا للمُرَبِّي مع امتداد
العملية دون تذكيرٍ بالإخلاص، وكما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ المؤمِنَ خُلِقَ مُفَتَّنًا
توَّابًا نَسِيًّا، إذا ذُكِّرَ ذكَرَ»([9])؛ فمن المنطقي أن يقع في فِخَاخ
تلك النوايا الفاسدة المُستتِرة داخل ثوب الطاعة، لا سيَّما مع عملٍ تعبُّديٍّ
يمتد لسنوات، والشيطان قد يعرض عليك الغواية في ثوب الطاعة؛ فهو «يَعرِض الشرَّ في مَعرِض الخير،
والتمييز في ذلك غامض، وأكثر العِبَاد به يَهلَكون»([10]).
والشاهد أنَّ المُرَبِّين
جميعهم يحتاجون إلى التذكير بمقصدهم الأول وهدفهم الرئيس، وتجديد عهدهم مع الله U، وإلجام نفوسهم بلجام الاحتساب
المُستمِر؛ «فالدعوات لا تقوم على مَن
يعتنقونها لأنها غالبة، ومَن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع، ومَن يعتنقونها
ليحققوا بها الأطماع، وليَتَّجِروا بها في سوق الدعوات تُشترى منهم وتُباع! إنما
تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصةً له، لا تبغي جاهًا ولا متاعًا
ولا انتفاعًا؛ إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه جل وعلا»([11]).
ومن النوايا الفاسدة الدَّسِيسَة
أيضًا؛ الغَيْرةُ بين المُرَبِّين؛ وليس المُراد هنا التنافس المحمود المنصوص عليه
في قول الله جل وعلا : (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) ﱢ([12]) الناتج عنه الأخذ بأسباب تنشيط المَحضن
نفسه، وإنما المُراد هنا هو السلوك الذي يُنْقِص من قَدْر إخلاص المُرَبِّي؛ مثل: (التنافس
في جَذْب المُتَرَبِّين والتسابق على حيازة بعض الطلاب المُتميِّزين لمَحضنه من أَجْل
كَسْب سُمعة حَسَنة لنفسه، أو جَذْب بعض الطلاب ذوي الروح المَرِحة والكاريزما
العالية رغم انتظامهم في محاضن أخرى)؛ فيصيب المُتَرَبِّين بالتشتُّت، أو بآثار
عكسية قد تَصِل إلى تَرْكهم المحاضن بالكلية.
وقد يَغَار المُرَبِّي
من أخيه المُرَبِّي إن كان نِتَاج مَحضن أخيه أفضل منه، وهذه الغَيْرة محمودة إذا كانت
من باب الأخذ بأسباب تنشيط مَحضنه -كما بيَّنتُ سَلَفًا-، أما أن يحزن مُرَبٍّ لتفوُّق
أخيه عليه في إخراج مُتَرَبٍّ ملتزمٍ بشرع الله ومهتدٍ بطريقه عز وجل؛ فهذا انحرافٌ صريحٌ عن النية
الصالحة في تعبيد الناس لله عز وجل؛ لأنَّ من الإخلاص أن يفرح المُرَبِّي
بهداية المُتَرَبِّي سواء كان على يديه أو على يد غيره؛ فالمُرَبِّي عليه البذل،
وعلى الله النتيجة، والله يؤتي فضله مَن يشاء؛ كما قال تعالى:ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)ﱢ([13]).
حتى تُضْبَط البوصلة:
النية هي شرط من شروط
قبول أي عبادة، فعبادة دون نية هي مجرد تشابه حركات وألفاظ للعبادة الأصلية؛ فالاغتسال
من الجنابة دون نيةِ رفعِ الحدثِ هو مجرد غسل للتبرُّد أو النظافة فقط، ولا يرفع الحدث،
وقِس على ذلك بقية العبادات؛ «فمن الشروط الأساسية لقبول الأعمال عامةً "الإخلاص"؛ حيث ينبغي أن يكون العمل خالصًا من الشوائب والدوافع الجانبية، وليس
تحصيل الإخلاص بالأمر اليسير، وإنما يحتاج إلى يَقَظة تامة ومُجاهَدة دائمة، وإلا
فما أسهل الانزلاق وانصراف النية أو تكديرها بمنفعة شخصية»([14])، وكما قال ابن الجوزي ~: «إنما يَتَعَثَّر مَن لم يُخْلِص»([15])، ومن أَجْل ألَّا يضيع جهد إخواننا
المُرَبِّين بسبب النوايا الدَّسِيسَة؛ سنرشدهم لبعض التوجيهات حتى تُضْبَط
البوصلة، وتَصِل سُفُن أعمالهم إلى بَرِّ الطاعة والقبول، ولا تضل طريقها.
فكما ذكرتُ سَلَفًا أنَّ
الأعمال التعبُّدية طويلة الأَمَد يتخلَّلها بعض النوايا الدَّسِيسَة التي تتسلَّل
مع الوقت لإفساد إخلاص الفرد؛ وحلُّ هذه المشكلة هو التذكير الدائم وتجديد العهد
مع الله U بالإخلاص، وعَمَل جلسات لمحاسبة
النفس ومراجعتها؛ وتلك حقيقة أقرَّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديثه: «إِنَّ المؤمِنَ خُلِقَ
مُفَتَّنًا توَّابًا نَسِيًّا، إذا ذُكِّرَ ذكَرَ»([16])؛ قال المناوي ~ في بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «توَّابًا نَسِيًّا، إذا ذُكِّرَ
ذكَرَ»: «أي: يتوب، ثم ينسى فيعود، ثم يتذكر
فيتوب»([17]).
وقد رَبَط القرآن
الكريم بين "قسوة القلب ونسيان المَقاصِد" و"طول الأَمَد"؛ فقال تعالى: ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهمﱢ([18])؛ وفي تفسير هذه الآية يقول صاحب
الظلال رحمه الله: «إنَّ هذا القلب البشري سريع التقلُّب، سريع
النسيان، وهو يشفُّ ويشرق؛ فيفيض بالنور ويرفُّ كالشعاع؛ فإذا طال عليه الأَمَد
بلا تذكير ولا تذكُّر؛ تبلَّد وقسا وانطمست إشراقته، وأظلم وأعتم !فلا بُدَّ من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع، ولا
بُدَّ من الطَّرقِ عليه حتى يرقَّ ويشفَّ؛ ولا بُدَّ من اليقظة الدائمة كي لا
يصيبه التبلُّد والقساوة»([19]).
وتكرار التذكير وتجديد
مُعاهَدة القلب والقصد؛ من أدوية النوايا الدَّسِيسَة التي ذُكِرَتْ من قبل، والتي
مع الوقت تصبح منافع دُنْيَوِيَّة يستفيد منها المُرَبِّي، بالإضافة إلى تذكُّر أنَّ
«كثيرًا من جاذبية الدعوة نابع من
اعتقاد المَدْعُوّين أنَّ ما يُدْعَوْن إليه لا يعود بالفائدة إلا عليهم، فهي دعوة
لإنقاذهم من النار، ولإصلاح معاشهم في الدُّنيا؛ ولذا فإنَّ نظرتهم إلى الدُّعاة
هي نظرة احترام وتقدير وإكبار؛ حيث يُضحُّون بأوقاتهم وراحتهم من أَجْل الآخرين،
وقد كان من سُنة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الإعلان لقومهم أنهم لا يبتغون
من وراء دعوتهم منفعةً خاصةً على أي صورة من الصور؛ حتى يسدُّوا الطريق من أوله
على المُرجِفين والمُرَوِّجين للدعاية المُضادَّة؛ وكان الشعار دائمًا:وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين[20])»([21]).
كما يجب على الكِيَان
التربوي تفقُّد أبنائه، وتذكيرهم بشكلٍ مُستمِرٍّ بإصلاح نياتهم؛ كي لا يصيب شؤمُ
غيرِ المُخلِص صفاءَ عملِ المُخلِصين؛ «فإنَّ للمجموعة قلبًا واحدًا مُشترَكًا، يَضُره مرضُ
البضْعَة الصغيرة منه كما يَضُرُّ مرضُ بَعضِ قلب الفرد ذاك الفرد، فإذا مرض داعية
برياء؛ تضرَّرَتْ جماعة الدُّعاة كلها بمرضه وتعثرت ومرض قلبها، حتى يتخلص منه
بتوبة أو إبعاد»([22]). وهذا كالذي رُوِي أنَّ بَنِي إسرائيل
قد أصابهم قَحْطٌ في عهد سيدنا موسى عليه السلام، وكان هذا القَحْط بسبب رَجُل
ظَلَّ يعصي الله U أربعين سنةً، وظَلَّ القَحْط مُستمِرًّا
إلى أن تاب هذا الرَّجُل؛ فلمَّا تاب أُمْطِروا مطرًا غزيرًا([23]).
([3]) زين الدِّين المناوي. فيض
القدير شرح الجامع الصغير. المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة. ط1، 1356هـ. 6/380.
([4]) أي: رأيتُه يُعذَّبُ في النار بسبب
ثوبٍ سرَقه أو أخفاه، وأخَذه من الغنائم دون عِلْم النبيِّ r ومُوافَقته، ولم
يؤدِّهِ ليُقسَم في الغنائم.
([6]) رواه البخاري. باب: إن الله يؤيد
الدِّين بالرجل الفاجر. حديث رقم (3062). ومسلم. باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه،
وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة. حديث
رقم (111).
([7]) شمس الدِّين الذهبي. سير
أعلام النبلاء. تحقيق بإشراف: شعيب الأرناؤوط. مؤسسة الرسالة، بيروت. ط3، 1405هـ.
6/122.
إيمان محمد رمضان عبد الحميد
جزاكم الله خيرا، ونفع الله بكم مقال أكثر من رائع.