فإذا ما سلّطنا الضوء على شكل تلك المرأة المسلِمة في ميدان العمل الدّعوي النّهضوي، نجد حضورها باهتًا ضعيفًا، يظهر متفتتًا ممزّقًا ملوّنًا، يظهر هنا هنيهة ثم يتلاشى..

للمرأة دورٌ نهضويٌّ مُلِحٌّ في صناعة الحضارة الإسلاميّة العصريّة، وترميم صرح الأمّة من جديدٍ، كما شيّدته سابقًا مع رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، ومع الصحابة، والخلفاء الراشدين؛ حيث بذلت، وجاهدت، وتاجرت، وعلّمت الرجال، وصنعت النفوس، وراقبت التجارة، وعدّلت القوانين، وتحدّثت باسم النّساء نائبةً قويّةً تطالِب بالحقوق، وتضبِط موازين الحياة.

ما أحوجَ أمّتنا المتململة الراغبة بالنهوض إلى امرأةٍ قويّةٍ صاحبةِ حضورٍ، صانعةِ نجاحاتٍ بذاتها، وبمَن حولها، وبالأجيال القادمة التي تتعهّدها، تتحرّك عن فهمٍ، وعلمٍ، وعزيمةٍ، تحفّز من حولها، وتبثّ الهمم العوالي؛ لتصل بأمتها إلى قمم المعالي، متميّزةً بالصّلاح، ونقاء السّريرة، والفِطنة، وحسن التّدبير، والرّؤية الثّاقبة المشعّة بلا حدودٍ.

هذه المواصفات المأمولة التي قد تتحلّى بها المرأة المسلِمة، جعلت منها عملةً نادرةً، وغايةً منشودةً، فإذا ما سلّطنا الضوء على شكل تلك المرأة المسلِمة في ميدان العمل الدّعوي النّهضوي، نجد حضورها باهتًا ضعيفًا، يظهر متفتتًا ممزّقًا ملوّنًا، يظهر هنا هنيهة ثم يتلاشى، ليظهر هناك ثم يتلاشى، فلا نكاد نراه جسمًا متراكمًا متجذّرًا متمكّنًا، يُصنَع بأيدٍ حكيمةٍ، وينمو نموًّا استراتيجيًّا مدروسًا ممنهجًا.

ولضعف وجود الكوادر النّسائية أسبابٌ، ولغيابها عللٌ بيّنةٌ واضحةٌ بشكلٍ لافتٍ، لعلّ أبرزها ما يلي:

أولها وأبرزها: ثقافة المجتمعات، ونظرة النّاس للمرأة نظرةً ليست من الدِّين، وهذه الثّقافة تصنعها مقوِّماتٌ، فإن كانت سامّةً، نتج عنها معضلاتٌ ومعوِّقاتٌ، مثل تهميش حضور المرأة المسلِمة الفاعل، وحظر كل ممارسةٍ لها في بناء الأمّة، إلا فيما يراه العُرْف، الذي رسم ملامحه الجنسان معًا، بناءً على مستوى عقولِ ونفوسِ المشرِّعين، ولو أنّهم يستندون في كثيرٍ من الأمور إلى نصوصٍ شرعيّةٍ، لكنهم في غالبها يجيّرونها حسب أهوائهم، ويستحضرون ما يخدم فكرتهم، ويغيّبون ما لا يقوِّي ما يذهبون إليه، فتراهم عَربًا في فهمهم، أجلافًا في قراراتهم، يبتعدون عن نهج الرسول الكريم!.

ولن تتغيّر هذه الثّقافة حتى يأخذ المربّون على عاتقهم طمس معالمها بكل حِنكةٍ واقتدارٍ، وعلوٍّ في الهِمة والإرادة، متأسّين بهمّة الأنبياء المصلحين أولي العزم من الرُّسل.

ثانيها: تغييب المحاضن التّربوية التي تصقل الطّاقات وتكتشفها، وتعزّز القدرات، بعد غرس القيم والمفاهيم والمُثُل العليّة، ونلاحظ في كثيرٍ من بلادنا مشاريعَ ناشئةً قويةً في فكرتها، تُحارَب من جهاتٍ كثيرةٍ؛ خوفًا من صعود الكوادر والرموز بشكلٍ عامٍ، والمرأة بشكلٍ خاصٍّ إلى المنصّة، معبّرةً ومؤثّرةً في مجتمعها.

     لن أقول: إن المحاضن التي هي مصانع الكوادر والرموز، قليلةُ الوجود؛ لعدم استحضار الحاجة إليها، بل لأنها تُحارَبُ بكل شكلٍ من أشكال النّشاط الاجتماعي، والاقتصادي الضيّق، والمُعادي؛ مما أضاع طاقات المرأة المسلمة، وذوّب جهودَها في خضمٍّ متلاطمٍ من مفاهيمَ قاصرةٍ، فأصبح وجود الصنف القياديّ الفاعل من النّساء الرّموز شحيحًا، وكلما تفشّت ثقافة المجتمعات المغبونة، ندر وبَهت دور المرأة الربانية.

ثالثها: انتشار الأمراض الاجتماعية النّاجمة عن ضعف العلم، والإيمان، والتي عادة ما تعتري أجواء النّساء بشكلٍ عامٍ، وتنتشر بمقدارٍ ما يتناسب عكسيًّا مع وعيِ وإخلاصِ وفهمِ وبصيرةِ الكوادر العاملة من المربّين الحريصين.

ومن هذه الآفات النفسية: الحسد، والتنافس غير الشريف، واغتيال الشخصيات، والدسائس، والأكاذيب، والنّفاق، والتّزلف، والسعي لإفشال إحداهن حتى تصعدَ هي, ومحاولة إطفاء نور تلك ليسطع نجمها هي.

من هنا كان من الواجب على المربّي التنبّه لهذه الزاوية، وحماية مَن يصنعُهم، فإذا أراد أن يعزّز؛ فليكن بمقدارٍ، وبظرفٍ يتّقي فيه بعين المراقب اليقِظ تلك النّفس، فيجنبها الغرور، والتكبّر، والتعالي.. وعالم المرأة أحوج بهذا الاهتمام من غيره.

رابعها: غياب المنصات التّوعوية، وعدم استثمار الإعلام الهادف بشكلٍ عامٍ لتعزيز وجودها، وتقوية حضورها، واليوم تقوم معركة الأمم على البعد الإعلامي كعنصرٍ ضالعٍ في صناعة الحدث، وليس في تسليط الضوء على الحدث فقط، ومن هنا كان لزامًا على المنابر الإعلامية الهادفة استثمار وصناعة كوادرَ نموذجيّةٍ، تقدّم للأمة ما ينفعها، بعيدًا عن أجواء التّنافس غير الشّريف الذي يضجّ به عالم الإعلام اليوم.

عندما يقوم المربّي بكل حرصٍ على صقل طاقات الفتيات الصاعدات؛ لتكون الواحدة منهنّ عَلَمًا ونجمًا من نجوم الإعلام الهادف، ثابتةً على دِينها، وحبّها لحضارتها، يكون قد قدّم جهدًا محمودًا في صياغة كوادر ذهبية.

خامسها: غياب الدعم الماليّ والماديّ لأحلام تلك الكوادر، فيخبو بريقُها مع تكرار المحاولات والتعثّر في وجود رافدٍ اقتصاديّ، تحقق من خلاله هدفًا ساميًا، ناهيك عن عزوف رجال الأعمال عن خدمة المرأة، كنموذجٍ مُلهِمٍ، فكانت المنابر التي قد تحظى بها -على قِلّتها- لا تجارِي ما يقدّم للمرأة البعيدة عن دِينها وهموم أمّتها، فظهرت الرموز النهضويّة والدعوية بمظهرٍ تقليديٍّ باهتٍ، لا يليق بها، ولا برسالتها، ولا يتواءم مع صورتها، ودورها المنتظَر.

سادسها: ضعف استخدام الإعلام الرقميّ، وشبكات التواصل الاجتماعيّ، وشحّ الاجتهاد الممنهج لطرح طرقٍ إبداعيةٍ في استثمار هذه التّقنيات، التي هي نعمةٌ من نعم الله في عصرنا الحاليّ، وهي التي تؤمِّن للمرأة الداعية ميادينَ مفتوحةً للوصول إلى كل إنسانٍ عبر جهاز هاتفه الذكيّ، فأغلب السيدات يغامرن في بداياتٍ عشوائيةٍ، وانطلاقاتٍ بجُهدٍ شخصيٍّ، وقد يكون العامل الرئيس أيضًا في هذا الإخفاق رؤية المجتمع لها، ولمهمتها.

سابعها: ابتعاد المرأة عن العمل الجماعيّ الداعم لوجودها، ولجودة أدائها، تتجنبه خوفًا ورهبًا؛ فتراها تكتفي بالعمل الفرديّ؛ لقناعتها بأنه أسلم؛ والسبب قد يكون مبنيًّا على مقوّماتٍ سبق الإشارة إليها، مثل: إيثار السلامة من الاختلاط بمَن يعكِّر صفو عطائهم؛ بسبب الأمراض النفسية التي تنتشر بين النساء خاصةً، إضافةً إلى نظرة المجتمع السلبية للعمل الجماعي أحيانًا.

ولو نظرنا إلى رموز العمل النسوي في العالم الإسلاميّ، لوجدناهنّ نتاج مؤسساتٍ فكريةٍ تربويةٍ عملت على تنشئتهنّ بطريقةٍ ممنهجةٍ مدروسةٍ، واكتشاف طاقاتهنّ واستثمارها، ورسمت ملامح شخصياتهنّ وإبداعاتهنّ، وبنت فيهنّ عشق الغاية الربانية، والبذل لها دون خوفٍ، أو ضعفٍ، أو مللٍ.

ثامنها: لضعف الدعم الأسريّ دورٌ وثيقُ الصّلة في حجب المرأة الدّاعية عن السّاحة؛ مما يجعل النّماذج الظّاهرة الفاعلة قليلة العدد، ولا يخفى على أحدٍ أنّ المرأة المسنودة بأهلٍ وعائلةٍ وزوجٍ متفهّمين لقيمتها، مدركين لدورها، ستكون بصمتها أشد أثرًا بهم، وكلما زاد العلم، والفهم، والتضحية، والعمل الخالص في نفوس العائلة، كان أداء نسائهم أكثر وأعمق.

وما واقع نساء العالم العربي من أولئك الصفوة عنّا ببعيدٍ، تظهر إحداهنّ مجاهِدةً مضحِّيةً بوقتها، ومالها، ونفسِها، ويظهر في المشهد زوجُها، وأبوها، وبنوها، أو ترى الرّجل المِقدام المجاهد بماله، ونفسه في سبيل رسالته، فتقف معه زوجته التي تشبهه في السِّمات والمزايا؛ فالطّيبون للطّيبات دون شكٍّ، ولهم جميلُ التأثير على النّاس نحو الخير، والعطاء لأجل أنفسهم، ولأجل أمّتهم.

فإذا ما جُفّفت منابع الضعف، وتلاشت مسبباته، كان العلاج قد تمّ، وبقي على المربّين اتّقاء عودة المرض إلى جسم الأمة من جديدٍ.

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة