منهجية التربية الفردية.. أبو هريرة رضي الله عنه أنموذجًا
عقدان من الزمان كان يقضيهما المسلم الجديد في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مدة كافية في تشكيله شخصية جديدة فريدة، شخصية تنتقل من قائمة الصفر إلى قائمة الأرقام الصعبة، وعلى هذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لزموه وأحاطوا به وجلسوا إليه وجاهدوا معه واتبعوا النور الذي أنزل معه.
لكن أبا هريرة رضي الله عنه لم يكن كذلك، فلم يثنِ ركبتيه في دار الأرقم، ولم يرفع سيفه في غزوة بدر، ولم يبلغ قلبُه الحنجرةَ في الخندق، ولم يُلبِ محرماً عام الحديبية! حيث لم يقدم إلى المدينة مهاجراً إلا عام خيبر، أي قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بأربعة أعوام، فكيف استطاع أن يتقدم في وقتٍ متأخر؟ وكيف أصبح من أعلام الصحابة في فترة وجيزة؟
أجاب هو عن ذلك فقال: «قدمتُ ورسول اللَّه بخيبر، وأنا يومئذٍ قد زدت على الثلاثين، فأقمتُ معه حتى مات، أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه وأغزو معه وأحجُّ، فكنت أعلمَ الناس بحديثه. وقد واللَّه سبقني قوم بصحبته؛ فكانوا يعرفون لزومي له فيسألونني عن حديثه، منهم: عمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، ولا واللَّه لا يخفى عليَّ كلُّ حديثٍ كان بالمدينة، وكلُّ من كانت له من رسول اللَّه منزلة، ومن أخرجه من المدينة أن يساكنه»[1].
وفي سياقٍ آخر قال: «إنكم تقولون: إنَّ أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله، وتقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدِّثون مثله؟ وإنَّ إخواني المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان إخواني من الأنصار يشغلهم عملُ أموالهم، وكنت امرأً مسكيناً من مساكين الصفة، ألزمُ رسول الله على ملء بطني، فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون، وقد قال رسول الله في حديث يحدثه يوماً: إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي جميع مقالتي؛ ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول. فبسطتُ نمرةً علي، حتى إذا قضى مقالته، جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله تلك من شيء»[2].
لقد بلغ أبو هريرة في العلم والرواية مبلغاً كبيراً، حيث بلغ عدد أصحابه - الذين نسميهم بلغتنا الحديثة: طلاباً، مع وجود فوارق في الدلالات بين الاسمين - ثمانمئة من الصحابة والتابعين[3]، ولئن استفتاه كبار الصحابة في المسائل فإنه أصبح بعد ذلك من رؤوس الفتوى، قال زياد بن مِينا: «كان ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة وجابر مع أشباهٍ لهم يفتون بالمدينة، ويحدثون عن رسول الله من لدن توفي عثمان إلى أنْ توفوا»[4].
وحين تُكلِم في أبي هريرة رضي الله عنه عقب الذهبي بقوله: «هذا لا شيء، بل احتج المسلمون قديماً وحديثاً بحديثه، لحفظه وجلالته وإتقانه وفقهه، وناهيك أنَّ مثل ابن عباس يتأدب معه، ويقول: أفتِ يا أبا هريرة. وأصح الأحاديث ما جاء: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وما جاء عن: أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. وما جاء عن: ابن عون، وأيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. وأين مثل أبي هريرة في حفظه، وسعة علمه؟»[5].
ولا يخفى على القارئ الكريم أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه كان من فقراء المدينة، ومن أهل الصفة الذين أوجعهم الجوع، وحديثه في تعرضه لأبي بكر وعمر ثم تعرضه للنبي صلى الله عليه وسلم في طريقهم طمعاً في أن يظفر منهم بدعوة له يستضيفونه ليأكل ما يسد جوعته مثبت في صحيح البخاري[6].
فتأمل أيها المبارك! رجل تبدأ مسيرته العلمية في سن الثلاثين، لا مسكن له إلا المسجد، ولا مال لديه، وقد فاتته مشاهد كثيرة، ومجالس عزيزة، ثم هو يسابق السابقين ويتقدم المقدمين، فيصير المقدم حفظاً وعلماً، ويصبح في مصاف المكثرين من العلم.
التغيير هو قرارك أنت:
مع كل الظروف غير الملائمة لمسابقة الكبار، وفق الله تعالى أبا هريرة رضي الله عنه لإبصار الفرص الموجودة في محيط ظروفه، فوجوده في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يهيئ له لقاءه برسول الله صلى الله عليه وسلم ، إضافة إلى فراغه من الشغل، إذ لم يكن يملك مالاً ولا متاعاً ولا عقاراً، فصنع من هذه المعطيات قراراً غيَّر حياته بالكلية، وهذا القرار يتمثل في ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظ حديثه واشتغاله بطلب العلم.
وهذا القرار التاريخي في حياة فردٍ كأبي هريرة رضي الله عنه يتطلب إصراراً وتحملاً لمشاق الطريق الموصلة للطموح والأهداف. إنها ليست بالأماني ولا بالرغبات ولا بالخيالات، وإنما إنفاق حر المال وربيع العمر وأطيب الأوقات في سبيل الارتقاء والتعلم والنمو، وقد كان طلب العلم وحفظ الحديث يمثلان البرنامج اليومي لأبي هريرة رضي الله عنه، فقد قال: «إني لأجزئ الليل ثلاثة أجزاء: فثلثٌ أنام، وثلث أقوم، وثلث أتذكر أحاديث رسول الله»[7]. وقد ذكر في سابق المنقول عنه أنه لازم النبي صلى الله عليه وسلم على ملء بطنه، والملازمة تعني التفرغ من شغل ما سواه.
إنَّ مؤهلك القديم ليس كافياً لوحده لأنْ تكون في المقدمة، أياً كان هذا المؤهل: الشهرة والخبرة والشهادة وسائر المؤهلات كالجاه والشرف ونحوهما. فإنَّ عجلة الحياة لا تقف، والإيمان يزيد وينقص ولا يقف، وإنَّ التحولات والتغيرات مستمرة، وإنَّ الداخلين في المنافسة لا يحصون، وإنك إما أن تكون مؤثراً أو متأثراً، لذا فإنَّ عليك أن تتخذ قرارك في التغيير، القرار الذي أنضجته الخبرة والمعرفة والمشورة، وإنَّ عليك أنْ تتحمل تبعاته ومشاقه. هكذا علمنا المثابرون.
مسؤولية الارتقاء الذاتي:
قد يظن بعض الأفراد العاملين - سواء كانوا مربين أو غير مربين - أن مسؤولية ارتقائهم الذاتي تقع على عاتق الجهة التي ينتمون إليها والمنظمة التي يعملون فيها.
وعند تحليل الأمر ونصب الميزان الحق فإننا نجد أنَّ على منظومة العمل أن تسهم في بناء الفرد العامل، وأن تقدم له ما تستطيعه من وسائل الارتقاء الذاتي، فهو - أي الفرد العامل - ابنها الذي تؤويه وتحتضنه، فوجب عليها أن تسهم في بنائه وتنميته، ولكنها غير مسؤولة بالدرجة الأولى عن ذلك.
أما المسؤولية التامة في مسألة الارتقاء الذاتي فإنما تقع على الفرد ذاته، فهو المسؤول الأول عن نفسه، وسيحاسب عنها في آخرته، ولا يسأل الآخرون عن جهله وخوائه وضعفه وتخلفه! وهذا من أبرز الدروس المستفادة من عرض هذا المفهوم في حياة أبي هريرة رضي الله عنه.
وأكبر شيء يقدمه الفرد لنفسه أن يستمر في الارتقاء ويستزيد منه ولا يقف عند خطة واحدة، سواء كان ارتقاؤه بالتعلم أو بالتنفل أو بمهارات الدعوة والتعليم والجهاد والإحسان، ولهذا أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستزيد من العلم ويسأله سبحانه الزيادة، فقال تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
ولئن كانت مسألة التعلم صعبة على نحو ما سابقاً فإنها اليوم أسهل ما يكون، ولم تعد توجد صعوبة، إلا في اتخاذ قرار التغيير، والإصرار على الاستمرار في هذا السبيل. ويستطيع الفرد اليوم أن يحضر مجالس العلم بنفسه، أو من خلال البث عبر الإنترنت، كما أنَّ بإمكانه قراءة الكتاب مطبوعاً أو منشوراً على الشبكة، وهكذا كثير من الأمور أتيحت اليوم لم تكن متاحة في ما سبق على هذا النحو، وقس على ذلك كافة مسارات الارتقاء. ولم يتبقَ عليك سوى أنْ تجعل هذا الهمَّ برنامجاً يومياً يرقيك وينميك.
وبالعودة إلى منظمة العمل التي ينتمي إليها الفرد العامل؛ يأتي السؤال: ما الذي يجب على منظومة العمل فعله تجاه الفرد العامل؟
والجواب يمكن تلخيصه في عدد من النقاط:
إيجاد الحافز الدائم للتعلم والارتقاء الذاتي.
إكساب الأفراد ملكات التعلم والارتقاء الذاتي.
إشاعة مبدأ: إما أن تتقدم أو تتأخر ولا خيار غيرهما.
جزء من برامج المستفيدين تهدف إلى الارتقاء الذاتي.
أن تكون منظمة العمل في ذاتها متعلمة على الدوام.
أن لا تكون مساحة العمل طاغية على مساحة الارتقاء الذاتي.
هذا ما يمكن أن تقدمه منظمة العمل للأفراد أو بعضه، أما أنْ يتكئ الفرد عليها في بنائه كلياً فهذا غير صحيح، بل هو الوهم والعجز وشيء من لوثة التصوف التي تسربت عبر الأجيال المتأخرة إلينا.
ومن أبرز الدروس من عرض هذا المفهوم في حياة أبي هريرة رضي الله عنه - كذلك - أنَّ المعلمين والمربين، والدعاة والعاملين لا يجوز لهم أنْ يتوقفوا عن التعلم والتطوير الذاتي والارتقاء، وإلا خبا وهجهم وانطفأ نورهم، إذ يمثل التعلم المستمر المولد الكهربائي الذي يمدهم بالطاقة والنور.
وكان أمره فرطاً:
ثمة فكرة خاطئة تجوب عقول بعض المعلمين والمربين والدعاة والعاملين، مفادها أنَّ العمل والاشتغال بواجباته مُعذِر في ترك سبيل الارتقاء والتغيير والتطوير، وهذا لعمر الله أفضى بهم إلى الانطفاء والضمور بعد أنْ كان وهجهم لا يقاوم.
قال الحسن في قوله تعالى: {فَإذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح: ٧]: أَمرَه إذا فرَغ من غزوه أن يجتهد في الدعاء والعبادة[8].
في التربية الإسلامية لا توقف عن الارتقاء والازدياد من الفضائل، ومن دقيق تربية الله تعالى لعباده المؤمنين أن نهاهم عن صحبة ناسٍ من شأنهم التفريط في أعمارهم والضياع في أوقاتهم والدنو في اهتماماتهم، لأن الطبع سرَّاق، وتسرب الصفات بين الأصحاب أمر معروف، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، قال ابن كثير رحمه الله: «{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} أي: شُغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا. {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} أي: أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعاً له ولا محباً لطريقته، ولا تغبطه بما هو فيه، كما قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: ١٣١]»[9]. فكما أنَّ البطالة مضرة؛ فإنَّ صحبة البطالين كذلك.
[1] الإصابة 7/359.
[2] البخاري 3/ 52 كتاب البيوع، باب ما جاء في قول الله تعالى: {فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] ح2047
[3] سير أعلام النبلاء 2/579.
[4] سير أعلام النبلاء 2/607.
[5] سير أعلام النبلاء 2/609.
[6] 8/96 كتاب الرقاق، باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم عن الدنيا ح6452.
[7] سنن الدارمي 1/87 المقدمة، باب العمل بالعلم وحسن النية فيه رقم 269.
[8] تفسير الطبري 24/498.
[9]
تفسير ابن كثير 5/154.
إضافة تعليق