.
ليست التربية بذاتها معضلةً ولا مشكلة؛ لأنّها في أصلها سلوكٌ اجتماعيّ فطريٌّ يَتَأدَّى بالسليقة، ويعطي نتائجه المباشرة كما يعطيها النهر المتدفق في الوادي الخصيب، هي إنْ اجتهدت في تصوير خطرها لم تزد على أن تقول: إنّها السهل الممتنع، وسهولتها تتمثل في تَوَفُّر آلاتها وتَيَسُّر أسبابها، وامتناعها يتبدى في العوائق التي تعترضها والمشوشات التي تحتوشها، ومتى استفحلت العوائق والمشوشات انقلبت التربية إلى معضلة كبيرة لا مجرد مشكلة صغيرة، وهنا تتضاعف المسؤولية على المعنيين بها.
مكمن المعضلة
ولو أنّنا تصورنا التربية عملية إنبات، وتخيلنا النشء غرسًا وزرعًا يتعهده المربون بالرعاية حتى يشتدّ، وتأكد لنا قيام الشبه من كل وجه بين الأمرين؛ لَتَبَدَّتْ لنا العناصر الرئيسية التي لا تتم العملية التربوية إلا باكتمالها وتكاملها، فالتربة التي ينبت فيها النشء هي الأسرة، أمّا المجتمع فهو الهواء الذي يتنفسه والفضاء الذي يتمدد فيه، ثم لا غنى له عن شمس العلم والإيمان التي تمده بالضوء اللازم لنموه، أمّا الماء والغذاء والدواء فبقدر تَوَفُّرِهِ وتَيَسُّرِهِ يكون النماء أسرع وتكون الثمرة أينع، ويبقى بعد ذلك ما يقف وراء الزُّرَّاع من أصحاب الرئاسة والسياسة والكياسة؛ موجهين ومرشدين وواضعين للخطط والمناهج.
فما الذي تَوَفَّرَ لدينا في بلادنا اليوم من هذه العناصر؟ هذا هو السؤال المزعج، وإنْ قَلَبْتَ السؤال فقلت: ما الذي بقي لنا في بلادنا منها؟ لكان أكثر إزعاجًا وأقرب لتصوير الواقع المرّ الأليم، لقد صار المربون من الآباء والأمهات والمعلمين والدعاة في حيرة وإبلاس وضيعة وإفلاس، لا يدرون ماذا يفعلون: أيعاندون الطبيعة بحجب النشء عن التمدد في المجتمع الذي تواطأ على تلويثه الساسة والإعلاميون و”البلطجية” والفنانون ومشايخ الفتنة؟ فينبتَ هَشًّا مُضَعْضَعًا لا ساق له يقوم عليها ولا ثمرة ترجى منه، أم يُخَلُّون بينه وبين أجواءٍ ملبَّدة بغيوم الفتنة؟ فَيَهْلَك ويُهْلِك! وتحت وقع الحيرة يتحسسون الطريق ويتلمسون السبيل، فلا يهتدون لرأي سديد أو مذهب رشيد، فلقد غشّى وجه الشمس غيوم من الشبهات والترهات والمزاعم والأقاويل؛ حتى غَدَتْ وقد دخلت في كسوف مستمر إلى وقت إشعار آخر، حتى الأسرة التي تُنْبِتُ الأجيال اخترقتها سهامٌ مُصَوَّبَةٌ من كل اتجاه، من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، من “الدعشنة” وما حولها من الخرف الفكري والقرف السلوكيّ إلى الإلحاد وما بين يديه من كل صنوف التفسخ والتحلل والخروج على الأخلاق والآداب ودين الله أجمع.
روافع تتحدى الموانع
لكنّ رحمة الربّ تبارك وتعالى تتدارك أرباب التربية، كيف لا واسم الربّ ذاته مأخوذ من التربية؟! فها هي الروافع تبقى شامخة تتحدى كل الموانع، أبرز هذه الروافع الفطرة التي فطر الله العباد عليها، هذه الفطرة تميل إلى الحق والعدل والخير والجمال، وتجنح إلى الصلاح والاستقامة والإيمان؛ لذلك وُضِعت في الآية الكريمة بين الدين القيّم والدين الحنيف: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. ولأنّ تأثير الأبوين في حرف الفطرة عن مسارها أو إبقائها على استقامتها هو الأكبر والأعمق؛ خَصّهما النبيّ بالذكر، مع كون تأثير الدولة والمجتمع لا يستهان به، فقال ﷺ: “مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ…”.
ويقوم إلى جانب الفطرة عاملان لا يضعفان إلى حيث يضعف التعاطي معهما. الأول: الرحمة التي غرسها الرحمن في روابط الرحم، والتي لها بالغ الأثر في فتح قنوات التفاهم الكامل والانسجام التام بين الأجيال؛ مما يُسهّل عملية الاقتداء والتأسي، وييسّر مرور التوجيه من الأعلى إلى الأدنى ومن السابق إلى اللاحق. الثاني: بقاء الدين حيًّا نابضًا غضًّا طريًّا، مهما تلوثت المذاهب والمشارب يبقى في أصله شمسًا مضية في قلب كل أب وأم، وقد جمع الله بين هذين العاملين في قوله: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}.
وسائل تربوية من قبيل السهل الممتنع
فإن أردت سلوك الوسائل الناجحة والأساليب الناجعة، فإيّاك أولًا أن تسرف في التلقين أو تُكثر من الإنذار والتحذير على حساب الوسائل التربوية الحقيقية، فما التلقين بكل صوره -من الوعظ والإرشاد والتوجيه والتعليم والترغيب والترهيب وسرد القصص والأمثال وغير ذلك- إلا وسيلة واحدة تقع من العملية التربوية موقع الدفة من السفينة، أمّا قوى الدفع التربوية فهي شيء آخر، تأتي القدوة في مقدمتها؛ لتؤكد الحكمة الإلهية في أنّ الرسل جاؤوا بشرًا لا ملائكة، حتى تتم عملية الاقتداء بلا معارض، لذلك كان جواب القرآن على المطالبين بأن يكون الرسول ملكًا: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا}، فما لم يكن المربي قدوة للنشء فلا جدوى من كل ما يمارسه من التلقين بصوره كافّة.
وإذا اعتبرنا النشءَ طاقةً تَوّاقَةً في فراغ عريض، فإنّه من الحكمة شغل فراغ الجيل واستنفاد طاقاته في ما ينفع ويُفيد، ولو كان ممارسة لرياضة يهواها، أو انغماسًا في موهبة يحسنها، أو غير ذلك مما يشغل الفراغ ويستفرغ الطاقات، فإنّ أخطر ما يدمر الجيل هو احتباس الطاقة واتساع الفراغ، لذلك قال رسول الله ﷺ: “نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ”، والطاقة تتنوع إلى جسمية حركية وإلى عقلية وإلى شعورية وإلى حتى جنسية، ومن هنا تأتي فضيلة الزواج المبكر، ويأتي بمحاذاتها واجب التيسير ورفع العنت حتى لا يهجر الجيل النكاحَ إلى موارد السفاح.
ولقد عَلَّمنا القرآن أسلوبًا في التربية غايةً في التأثير، وهو التربية بالحدث، أي باستثمار الحدث للطَّرْق على الحديد وهو ساخن، ففي أعقاب “أُحُد” والأكبادُ يفريها الأسى على نصر ضاع وأحباب قُتِلوا ونبيّ كريم نال الكفار منه، نزلت الآيات من آل عمران، لتبدأ بهذا التَّرْبِيتِ الحاني: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}، وتنتهي بهذه المكاشفة الحاسمة: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}. أضِفْ إلى ما مضى: التربية بالممارسة العملية، ثمّ ثقْ أنّك بما لديك مما أسلفنا وباستعانتك بالله قادر على مواجهة التحدي.
إضافة تعليق