مداخل العلوم أحد أهمّ أولويات برامج التعليم المؤثّرة في مخرجات التعلّم، والتحصيل المعرفيّ لدى المتلقي. كما يرتبط مفهوم المداخل في علم النفس المعرفيّ بنموذج مستويات تجهيز ومعالجة المعلومات..

لم يكن التعلّم القويم إلاّ قائمًا على منهجيّة أصيلة متّزنة في تناول العلوم وموضوعات الفنون المعرفيّة، وإنّ أبرز ما عُني به المؤلفون إفرادهم كلّ فن([1]) معرفيّ بمقدمات تكون كالمدخل إليه بين يديّ المتعلّم، يصطلح عليها بالمداخل([2]) أو المقدّمات، فمداخل العلوم تُعنى ببيان موضوع الفن -المقدَّمة بين يديه- وأسسه المنهجيّة من الإطار والمصادر والمنطلقات الأساسيّة لتعلّمه، لينتهي المتعلّم من خلالها إلى تصور إجمالي عن موضوعات العلم ومسائله ومبادئه..

 ولمصطلح المداخل دلالات وإطلاقات أعمّ؛ فمداخل التعلّم: "الطرق التي تصف كيف يقوم المتعلّم بالتعامل مع المهمّة التعليميّة"([3])، أي ما يقابل المخرجات التعليميّة، ولا ريب أن مداخل العلوم أحد أهمّ أولويات برامج التعليم المؤثّرة في مخرجات التعلّم، والتحصيل المعرفيّ لدى المتلقي. كما يرتبط مفهوم المداخل في علم النفس المعرفيّ بنموذج مستويات تجهيز ومعالجة المعلومات.

مداخل العلوم تُعنى ببيان موضوع الفن -المقدَّمة بين يديه- وأسسه المنهجيّة من الإطار والمصادر والمنطلقات الأساسيّة لتعلّمه، لينتهي المتعلّم من خلالها إلى تصور إجمالي عن موضوعات العلم ومسائله ومبادئه

ومع تطور المفهوم واستعمالاته فإنّ البحث في مداخل التعلّم واستراتيجياته تعددت نظرياته وأدواته وأساليبه، إذ تشير في مجملها إلى دوافع مختلفة لدى المتعلّم تتعلق بالدراسة، والرابط المؤثّر الجامع بينها هو مدى تعرّف المتعلّم على مادة درسه وتفهّم أسسها، إذ "أن هناك تأثّرًا كبيرًا في مخرجات التعلّم بشكل عام والتحصيل بشكل خاص بأسلوب الطالب في التعلّم"([4]). ومما لا شكّ فيه أنّ للمداخل بالمعنى الذي نحن بصدده تأثيرًا في مخرجات الدرس المعرفيّ، بل يمتنع تطلّب علم ما دونها! فوجود حلقات معرفيّة أوليّة معتمّة في مسار البناء المعرفيّ؛ يصعّب عملية التحصيل ويشوّه مخرجاتها..

ترتكز مداخل العلوم إجمالاً على مقصدية البناء الفكري المنهجي للطالب والتأصيل التأسيسي للدرس المعرفيّ، وتكتسي هذه الحلقة المعرفيّة -أي المداخل- أهمية بالغة من التأثير في الدرس المعرفيّ، تجعل البدء بها أولويّة منهجيّة ومعرفيّة، لغاياتها التالية:

- التعريف بمبادئ العلم والإلمام بمقدماته: فقبل الشروع في تعلّم علم ما أو القراءة فيه، يتوجّب الوقوف على موضوعه، وقد أوجبوا على من طلب علماً أن يتصوّره بوجه ما، ويعرف غايته ومادته([5])، كما "الدخول في عمل من غير تبيّن وبيان، هو عين الفوضى، التي تلغي كلّ مقومات النهج فيه"([6]).

وتصدّر في جملة المقدمات التي تتضمنها المداخل جميع ما يُحتاج إليه بالنسبة للعلم نفسه، وهي المبادئ التي يُبدأ بها قبل الشروع في مقاصد العلم، فهذه بمثابة عملية تصوّرٍ مسبق للدّرس المعرفيّ..

-تعرّف مفردات العلم وبنيته الأساسيّة: فقد جرت أدبيات المداخل أن تتناول على جهة الإلمام بالمفاهيم مفردات العلم، وقوانينه الإجماليّة، ولطائف ممّا يتوجّب التنبّه له من دلالات استعمالات منظريه ومناهجهم، فإنّ لكل علم لغة ومصطلحات لا يفهمها إلاّ أهله العارفون به المتخصصون فيه. كما أنّ الفهم الجيّد للبنية المعرفيّة للفن بفهم سليم لمفرداته وقضاياه، يقود إلى استشكالات معمّقة تحرّك الإبداع العلمي الذي ينتج معرفة جديدة.

-ضبط المتعلّم مسار التحصيل وأولويّاته في تناول العلوم: ولكيلا تختّل عمليّة البناء العلميّ لابدّ للمتعلّم أن يعرف بم يبدأ وبم ينتهي في طلبه، فأمام ما يواجه المتعلّم من تراث ضخم يكون المدخل مرجعاً هامًا في تحديد هذه الأولويات، بالتدرج في العلم المتعيّن على الطالب لتتأسيس معارفه، والمدرّس لطلابه ليكون ربانيًا([7]).

فمن أقدم على تعلّم الفقه على مذهب ما، ولم يعلم كيف يتدرج في طلبه، ضاعت سنين درسه في التنقل العشوائي بين الكتب وملحقاتها([8])، ولم يستفد من انتقائه الارتجالي إلا الحيرة! فلم يميّز مدارس المذهب وأمهات مصادره، والمعتمد منها فيه، وما منه الفتوى، والمشهور الذي عليه عمل.. إلخ. فيتوجب حينئذ على الطالب البدء بالمداخل الفقهية ليتنظم درسه؛ وليكون أقدر على البحث في الاجتهاديات ومعرفة مضانها..

فمن أقدم على تعلّم الفقه على مذهب ما، ولم يعلم كيف يتدرج في طلبه، ضاعت سنين درسه في التنقل العشوائي بين الكتب وملحقاتها

-رسم صورة شموليّة للمتعلّم عن المادة المعرفيّة المبتغاة: بمنح الدارس رؤية كلية تبصّره بموضوع العلم، ومدارسه ونظرياته الإجماليّة، ومسالك التأليف فيه ليتعرّف من خلالها مراده من تعلّم ذلك العلم، مما يكرس في المتعلّم تأطير مكتسباته المعرفيّة واستشكالاته ضمن رؤيته الشموليّة لمسيرته العلمية في التحصيل.

- الإجابة عن سؤال التأسيس، أي كيف تأسست العلوم: فكتب المدخل تجيب بوجه كيف بنيت المعرفة ومن بناها؟ وتضع العقل أمام تفهّم حركة تدوين العلم واستمداده.. وليس أجلّ من المعرفة إلاّ كيف وجدت المعرفة -كما قيل.

- استنهاج فكر المتعلّم بتمكينه من التفكير الواضح المنظّم، وتعويده على التنظيم المعرفيّ في الحجاج والنقاش وتناول المسائل وعرضها.. 

 ففي الجملة يمكن اعتبار المداخل كإجابة أوليّة على سؤال المنهج في إطار الرؤية المعرفيّة المقننة التي تُؤمّن للدارس انطلاقته المعرفيّة، وحتى تقوم الدراسة على أساس متين صحيح، وتمضي إلى ما يراد لها من كمال ونفع.

ولأهمية مداخل العلوم نجد العلماء اعتنوا بتأليفها قديمًا وحديثًا، فلا يكاد يخلو علم إلاّ وأُلّف فيه ما يكون كالبوابة لطالبه، وجعلوا ذلك ضرورة لا يتصور الطلب بدونها.. فليس أعظم خللاً بإهمال مداخل العلوم من قطع المتعلّم عن مصادر المعرفة الأولى التي تسهم في تكوين العلماء، بل يعيق تجاوزها عن تحصيل المعرفة السليمة فضلاً عن صناعة معرفة تستجيب لواقعنا! 

ولا ريب أنّ التزام منهجيّة تعليميّة منضبطة، والعودة إلى تأصيل الدّرس المعرفيّ، وتصحيح المنطلقات وفق أسسِ وقواعدِ التعليم الأصيل، هو الضّمان الحقيقيّ الذي يجعل عمليّة التغيير الفكري عمليّةً صحيحة ناجحة، تضع الأمة أقدامها على طريق إحياء دورها الحضاري.



-([1]) يراد بالفن حيثما أطلق في هذا المقال: التخصص العلمي أو المجال المعرفي..

-([2]) جمع مَدْخَل من [دخل]، وهو لفظ جامع لمعنى مقدمة الشيء وما منه يؤتى..

 ([3])- Entwistle, N.J. (1997). The Approaches and Study Skills Inventory for Students (ASSIST), Centre for Research on Learning and Instruction, University of Edinburgh ,Edinburgh, p3.

 ([4])- Entwistle , N.J. (1981). Styles Of Learning and Teaching . New York : John Wiley & Sons,

انظر: فهد العبدلي، نمذجة العلاقات بين مداخل تعلم الإحصاء ومهارات التفكير الناقد والتحصيل الأكاديمي، ماجستير 2012، ص 15.

-([5]) ابن النجار، مختصر التحرير (الكويت: مكتبة أهل الأثر للنشر والتوزيع، ط1، 2008م) ص20.

-([6]) الأنصاري، فريد، أبجديات البحث في العلوم الشرعية (المغرب: مطبعة النجاح الجديدة، ط1، 1997م) ص24.

-([7]) لما جاء في صفة الرباني في قوله تعالى: ﭐﱡﭐ   [آل عمران: 79]، الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره. انظر: صحيح البخاري: كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل.

-([8]) كالشروح والحواشي والمختصرات.. إلخ

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة