المتأمل في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد اهتمامًا كبيرًا بمعيار الكفاءة في تولي المناصب، وأنه -صلى الله عليه وسلم- ربى أصحابه -رضوان الله عليهم- على هذا المبدأ.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آلة وصحبه أجمعين.

المتأمل في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد اهتمامًا كبيرًا بمعيار الكفاءة في تولي المناصب، وأنه -صلى الله عليه وسلم- ربى أصحابه -رضوان الله عليهم- على هذا المبدأ.

ولا شك أن الكفاءة شرط مهم لابد من توفره لمن يتولى ولاية معينة أو يقوم بأمر من أمور الدعوة والتعليم، وهي تختلف بحسب الواقع وبحسب الحاجة، تبعًا للظروف المختلفة.

تقديم الكفاءة على الثقة في السيرة النبوية:

وقد استعان -صلى الله عليه وسلم- بعبد الله بن أريقط وهو على غير ملة الإسلام ليكون دليله في دروب الصحراء وطرقها عند الهجرة إلى المدنية. ولما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة طلبها منه العباس ليجمع له بين سقاية الحاج وسدانة البيت فأنزل الله قوله تعالى: (إِن اللهَ يأمُرُكُمْ أنْ تُؤدُّوا الأمَانَاتِ إلى أهْلِهَا) [النساء: 58]، بدفع مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة، وهذا يعني وجوب إسناد كل عمل من أعمال المسلمين للأصلح والأكفأ لذلك العمل.

وكانت رؤيته -صلى الله عليه وسلم- أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لهذا العمل، ولم يضطر النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته ورسالته أن يولي ثقة غير كفء لعدم وجود الكوادر القيادية، العلمية، الدعوية، التربوية لإدارة الأعمال.

وعندما أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرسل ولاة إلى اليمن أرسل في البداية معاذ بن جبل ثم بعده أبا موسى الأشعري وأخيرًا علي بن أبي طالب؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يختار الأنسب صاحب الكفاءة، ولم يعرف عنه -صلى الله عليه وسلم- طوال حياته التزكية أو التعيين لكونه ثقة دون اعتبار الكفاءة.

فيجب على كل من ولي أمرًا من أمور المسلمين أن يستنيب ويستعمل فيما تحت يده أصلح من يجده، حتى يشمل ذلك كل مناحي أمور الدعوة من أئمة الصلاة، والمؤذنين، والمقرئين، والمعلمين وغير ذلك، والصلاحية في كل ولاية بحسبها، وبحسب المتاح من ذوي الكفايات النسبية، واستفراغ الجهد للوصول إلى أفضل الموجودين، لتحقيق المصلحة الراجحة.

ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية، أو سبق في الطلب، بل يكون ذلك سببًا للمنع، فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-، قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنا ورجلان من قومي فقال أحد الرجلين: أمِّرنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله، فقال: "إنا لا نولي هذا من سأله، ولا من حرص عليه"([1]). وقال لعبد الرحمن بن سمرة: "يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها..."([2]).

فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما أو صداقة، أو محاباة من يداهنه، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهى الله عنه في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27].

عن الحسن أن عبيد الله بن زياد عاد معقل بن يسار في مرضه الذي مات فيه، فقال له معقل: إني محدثك حديثًا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة"([3]).

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من ولي من أمر المسلمين شيئًا فغشهم فهو في النار"([4]).

وقد دلت سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن الولاية أمانة يجب أداؤها، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر -رضي الله عنه- في الإمارة: "إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها"([5]). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة". قال: كيف إضاعتها؟! قال: "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"([6]).

فكان إسناد الأمر، إلى غير ذوي الصلاحية، والكفاية مدعاة لاختلال الأحوال لدرجة تفضي إلى انفراط النسق الكوني، وفساده، وقيام الساعة، لعظم جرمه، وشدة وقعه.

إذا عرف هذا، فليس على من تولى ولاية أن يستعمل إلا أصلح الموجود، وقد لا يكون في موجوده من هو أصلح لتلك الولاية، فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام، وأخذه للولاية بحقها، فقد أدي الأمانة، وقام بالواجب في هذا، وصار في هذا الموضع من أئمة العدل المقسطين عند الله، وإن اختلَّت بعض الأمور بسبب من غيره، إذا لم يمكن إلا ذلك، فإن الله يقول: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : 16]، ويقول: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة : 286]، وقال في الجهاد في سبيل الله: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء: 84]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عليكمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة: 105]. فمن أدي الواجب المقدور عليه فقد اهتدى، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم"([7]). لكن إن كان منه عجز بلا حاجة إليه، أو خيانة؛ عوقب على ذلك.

وهذا يؤكد أهمية الحرص على دقة اختيار الأعوان واصطفائهم على أساس: "الاقتدار، والكفاية، والعلم، دون محاباة ولا إيثار، فإن الأثرة بالأعمال، والمحاباة بها جماع من شعب الجور والخيانة، وإدخال الضرر على الناس.

وقد اعتبر الإمام الشاطبي تولية غير الأكفاء من الأقرباء، وأهل الثقة، دون ذوي الصلاحية؛ بدعة محرمة في الدين.

وعندما يفلس المربون والقائمون على إدارة الأعمال الدعوية، ويعجزون عن إيجاد كوادر في كافة التخصصات يستطيعون من خلالها الاختيار الأنسب لإدارة الأعمال في كافة المواقع؛ حينئذ يلجؤون في التولية لإدارة الأعمال من يثقون بهم -وإن لم يستطيعوا القيام بما يُسند إليهم من أعمال على الوجه الأكمل- دون اعتبار الكفاءة في إدارة الأعمال، ناسين أو متناسين خطورة هذا الأمر.

توجيهات في اختيار الأكفاء:

ولا شك أن نقص الكفاءة في الأعمال الدعوية يعد عائقًا يسبب وهنًا وضعفًا في العمل الدعوي؛ ما يتحتم على المؤسسة الدعوية الأخذ بجدية لعدة أمور ليستقيم لهم الأمر:

أولًا: أن يتناسب التوسع الأفقي مع التوسع الرأسي؛ حتى لا تسقط مواقع بُذل فيها الغالي والنفيس.

ثانيًا: الجدية وبذل الجهد في تربية وبناء وإعداد كوادر علمية، تربوية، دعوية، ثقافية، فكرية، تتمتع بكفاءة عالية في إدارة مجالات الدعوة، وإلا فالسير في المحل.

ثالثًا: وضع برامج دعوية يومية لكل داعية يسير في عمله بناءً عليها، وتتم متابعة الداعية عن طريق المشرف الدعوي لهذا العمل، وعن طريق إرسال تقارير شهرية إلى اللجنة المختصة بذلك. ومن خلال زيارات دورية يقوم بها مسؤولو اللجان المختصة بذلك حيث يتم توجيههم وإرشادهم.

والحرص على رفع المستوى الشرعي والدعوي لهؤلاء الدعاة وتطويرهم عن طريق الدورات الشرعية، والملتقيات الدعوية.

وضمانًا للمحافظة على مستوى الدعاة والارتقاء بهم فيمكن إعداد منهج شامل لكافة أبواب العلم، يلتزم الدعاة بدراسته وإتقانه، كما تهيئ لهم القيادة دورات مكثفة لرفع قدراتهم العلمية والدعوية، والإدارية، وفي نهاية كل دورة يعقد امتحان تحريري وشفهي لقياس التحصيل العلمي لكل داعية ومدى جديته في طلب العلم.

رابعًا: تقوى الله ومراقبته سبحانه في تولية المناصب ومراعاة الأكفأ وتوليته، لاسيما وإن كانت هناك قواسم مشتركة وخلاف تنوع يجمع العاملين يمكن العمل والتعاون بين الدعاة مع وجود هذا الخلاف، أو ترك ما لديها من مواقع مادامت لا تجيد إدارتها أو ليس عندها الكوادر الأكفاء لإدارتها.

خامسًا: تربية الداعية ليكون قائدًا ربانيًا وليس موظفًا كل همه أن يقوم بما كلف به ثم ينصرف دون النظر بجدية لما قام به، والتأكد من أن ما يقوم به يؤدى بشكل صحيح متقن ووفق أعلى كفاءة.

سادسًا: تطوير العمليات الدعوية، وضبطها من خلال المعايير المعتمدة لكل عناصر العملية الدعوية، من أهداف، ومحتوى، ودعاة، ومتابعة إدارية ومراقبة للعمل منذ بدايته، وتقييم الأداء الدعوي الحالي، والوقوف على أوجه الخلل في أركانه ومجالاته، وتجنب الوقوع في هذه الأخطاء في اللاحق.

سابعًا: السيطرة على المشكلات والفساد الإداري الذي يصيب الدعاة في بعض الأحيان، ووضع آليات داخلية لعلاجها.

ثامنًا: تجنب تقديم الدعاة الذين تنقصهم الكفاءة، ومن تعوزهم الخبرة، أو من ليسوا أهلًا لها، فضعيف الكفاءة وقليل الخبرة أنَّى له أن يُخرِج عملًا دعويًا، علميًا، تربويًا، متقنًا، أو يجيد التخطيط للأنشطة الدعوية، ولا شك أن هذا الضعف يؤثر سلبًا على العمل، فيُفقده ثمرته المرجوة، ونتيجته المنتظرة.

تاسعًا: سعة صدر المؤسسة الدعوية، وقبول النقد البناء بالأسلوب المهذب، واستيعاب الآراء التي تهدف لتصحيح المسار ودفع الدعوة إلى الأمام، فالعمل على إسكات المخالفين أو إقصائهم عن العمل الدعوي إراحة للبال، أو التخلص ممن ترى أنه لا يوافقها في كل ما تراه وتنتهجه، من أخطر ما تواجهه الدعوات، وهو نذير شؤم يؤدي لسقوطها، أو ظهور جيوب تعيق حركتها، والدخول في دائرة المعاناة.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

([1]) صحيح البخاري (9/80) رقم: (7149).

([2]) صحيح البخاري (9/79) رقم: (7146).

([3]) صحيح البخاري (9/80) رقم: (7150).

([4]) صحيح الترغيب والترهيب (2/260) رقم: (2206).

([5]) صحيح مسلم (6/6) رقم: (4823).

([6]) صحيح البخاري (1/23) رقم: (59).

([7]) صحيح البخاري (9/117) رقم: (7288).

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة