أنا مشرف بأحد المراكز التربوية، وألاحظ على أحد الطلبة لديّ -وهو في منتصف سن المراهقة- ميلاً إلى التشديد على نفسه ومن حوله في بعض الأحكام الشرعية والعبادات، فمثلاً كثيرًا ما يسخر من أصحابه لأنهم فرّطوا في صيام بعض النوافل.
السؤال:
أنا مشرف بأحد
المراكز التربوية، وألاحظ على أحد الطلبة لديّ -وهو في منتصف سن المراهقة- ميلاً
إلى التشديد على نفسه ومن حوله في بعض الأحكام الشرعية والعبادات، فمثلاً كثيرًا
ما يسخر من أصحابه لأنهم فرّطوا في صيام بعض النوافل، كما أنه يشق على نفسه في
الأخذ ببعض الآراء الشاقة حتى ولو كانت مرجوحة بذريعة أنه يربي نفسه على الشدة
ليطوّعها حتى لا تتمرد عليه مستقبلاً، فيشق بالتالي على من حوله.
وهو قليل
الابتسام، كثير التجهم بلا أي داعٍ، حتى خلال الأنشطة الترفيهية التي نمارسها معه
ومع زملائه والتي تستدعي التبسط والمرح، إلا أنه ملازم لهذه الحالة دائمًا، وقليل
المشاركة في الحياة الاجتماعية مع والديه وأسرته.. حاولت نصحه أكثر من مرة لكن
يبدو أن الأمر أعمق من مجرد نصيحة، فما توجيهكم لي ولأبويه، وكيف يمكننا التعامل
معه وتقويمه؟!
الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-. أما بعد..
تعد مرحلة المراهقة من المراحل المهمة في بناء الشخصية
المتزنة والفاعلة والسوية لدى الشباب، والتي يعتمد بناؤها على الخبرات الإيجابية والنوعية
التي توفرها البيئة المحيطة بالمراهق.
وإن تفهّم الوالدين والمربين لطبيعة مرحلة المراهقة
ومتطلباتها ضروري جدًا لمساعدة المراهق على تجاوز المرحلة بنجاح، ومن ثم الانتقال
إلى مرحلة أكثر فعالية ونضجًا. ولا بد من مقدمة بسيطة للموضوع حتى يحقق الوالدان
والمربون الفهم لهذه المرحلة وحتى يتسنى التعامل الجيد مع الحالة المذكورة أعلاه.
مرحلة المراهقة والتي تمتد من 12 عامًا وحتى 21 عامًا -المراهقة
المبكرة والمتوسطة والمتأخرة- هي مرحلة تتشكل فيها هوية المراهق، الهوية الأيديولوجية
والاجتماعية، ويبحث المراهق فيها عن إجابة لأسئلة من نوع: من أنا؟ ومن أكون؟ وماذا
أريد؟ ومع من أسير؟ وهل أنا لائق؟ وهل أنا جدير؟
يصف علماء النفس هذه المرحلة بـ(أزمة الهوية)، فإما أن
تتحقق الهوية في نهاية المرحلة فتكون هوية واضحة المعالم من الناحية الأيديولوجية
والاجتماعية، ويتحقق فيها النمو النفسي المتكامل -ويرى علماء النفس أنه غالبًا ما يتأخر
تحققها-، وإما أن يحدث ما يسمى باضطراب الدور أو تشتت الهوية، والتي تعبر عن
نتاج فشل الفرد في تحديد هوية معينة، وتشير إلى عدم القدرة على اختيار المستقبل أو
متابعة التعليم، كما تنطوي على الإحساس بالاغتراب وعدم الجدوى وانعدام الهدف وعدم
القدرة على اختيار المستقبل المهني واضطراب الشخصية.
وفي مرحلة نمو الهوية يقوم المراهق باستكشاف البدائل
المتاحة التي تساعده على اختيار هويته الأيديولوجية والاجتماعية، والالتزام
بمتطلبات هويته، ويكون هذا بدعم من بيئته التربوية المحيطة به.
يصنف علماء نفس النمو المراهقين من حيث تشكيل الهوية
إلى: هوية محققة؛ وغالبا ما يتأخر الفرد في تحقيقها، وهوية مشتتة؛ حيث لم تتح له
الفرصة لاستكشاف البدائل، وهوية مصادرة؛ حيث حُددت له هويته من قبل والديه أو
مجتمعه وفُرض عليه الالتزام بمتطلبات هذه الهوية، وهوية مؤجلة أو معلّقة؛ وهي التي
يحاول المراهق فيها استكشاف البدائل والتجريب ولا يطور التزامًا واضحًا بمتطلبات
هويته التي يلتزم بها، وهي أسلم أنواع الهوية في هذه المرحلة لبناء شخصية متزنة
واعية مستقبلاً.
في الحالة التي بين أيدينا نرى أن هذا الشاب يستكشف
هويته الدينية والأيديولوجية، ويحاول الالتزام بمتطلبات هويته الأيديولوجية لكن
ليس بشكل كافٍ، وقد يتغير لمسار آخر أثناء عملية بحثه عن هويته.
حالة هذا الشاب حالة مطمئنة من الناحية السيكولوجية؛ فهو
يستكشف الأفكار والقيم، ويحاول أن يطور التزامًا بمتطلبات هويته الأيديولوجية،
ولديه قدر من الاستقلالية بعيدًا عن الاستهواء والاستمالة من قبل الآخرين.
وبناءً على ذلك أنصح بما يلي:
أولاً: التقبل:
تقبل المراهق تقبلاً غير مشروط، وإشعاره بذلك، وفهم
المرحلة التي يمر بها، واستيعابه استيعابًا يعينه على الاستقامة، وما يحتاجه هو
زيادة الوعي والفهم الصحيح للدين.
ثانيًا: التوجيه:
لا يحتاج هذا الشاب نصحًا من نوع (افعل ولا تفعل)، (قل
ولا تقل)، وخصوصًا في مرحلة يعتبر نفسه مسؤولاً عن ذاته وأنه أصبح رجلاً، هو يحتاج
المنطق والحجة، وخصوصًا أنه متبع وحريص، فليؤتَ من باب الحرص وتبيان الأرجح
والأفضل، والتركيز على أن التيسير على الناس في هذا الدين هو الأولى، بذكر
الأحاديث التي تدل على ذلك وهي كثيرة، وليكن التوجيه له ولغيره بطريق غير مباشر من
خلال البرامج المقدمة في المركز.
ثالثًا: تصحيح المفاهيم:
البحث عن شخصية مربية وواعية ومؤثرة تكون محل ثقة الشاب
وتؤثر به، وطلب المساعدة منه في تصحيح المفاهيم: معلم، شيخ، صديق، داعية، مربٍّ...
إلخ.
رابعًا: منهجية رسول الله في التيسير:
الاستفادة من أن الشاب مقتدٍ ويحبُّ الاقتداء برسول الله
-صلى الله عليه وسلم-، فيمكن تضمين منهاج المركز التربوي سلسلة مواقف من السيرة عن
أعظم قدوة في التسهيل والتيسير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته الشخصية
والأسرية والاجتماعية، إضافة إلى النماذج من الصحابة والتابعين والصالحين والعلماء
المعاصرين.
خامسًا: لعب دور الشيخ:
تحميله مسؤوليات تربوية معينة من مثل تقديم فقرات من
السيرة أو الحديث أو الفقه ذات علاقة بالإشكاليات التي يعاني منها نفسه، وتقديمها
للشباب من جيله أو أصغر؛ موضوعات من مثل: منهجية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
في التيسير على الأمة، وهذا نوع من العلاج يسمى لعب الدور.
سادسًا: تربية وتهذيب:
لعل سخرية الشاب من أقرانه إن قصروا بالنوافل بتقديري
تحتاج إلى رعاية واهتمام أكثر من تشديده على نفسه؛ لأنها قد تشير لنمو جانب سلبي من
الشخصية، وهو التعالي على الآخرين، وتعظيم وانتفاخ الذات؛ لذا توجّب تقديم خبرات
مربية حول أهمية التواضع وعدم الاغترار بالطاعات على أهميتها، وأن معيار التفاضل
عند الله هو القلوب وليس الأعمال فقط، ولرب دمعة تائب من ذنب أعظم عند الله من
أعمال عابد، وكيف أن عددًا من الصحابة حديثي عهد بالإسلام، استشهدوا ودخلوا الجنة
دون أن يعملوا شيئًا من العبادات لصدق نواياهم... إلخ، من مثل هذه المواقف
المربية.
سابعًا: (إني لأخشاكم إلى الله وأتقاكم):
إن عزلة الشاب وعدم مشاركته الاجتماعية تندرج تحت باب
محاولة الالتزام بمتطلبات هويته الدينية والأيديولوجية التي يتمثلها ويعتقدها في
هذه المرحلة، ولمحبته للاقتداء يُعرَض عليه ضمن البرامج التربوية المقدمة، منهجية
رسول الله في العلاقات الإنسانية، في ضحكه مع الصحابة ومزحه معهم ومشاركته لهم
أمور دنياهم، ملاعبته الأطفال، علاقته مع أهل بيته، ويمكن التعريج على قصة الثلاثة
المغالين في العبادة، الذين استخفوا بعبادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ثامنًا: التركيز على الإيجابيات:
فالتركيز على إمكاناته وقدراته بدلاً من التركيز على
تشدده، واستثمار مواهبه أو مهاراته مهما كانت؛ أولى من الدخول معه في صراع حول
أفكاره المتشددة، وهذا يحتاج إلى عين مربٍّ خبير يستكشف ما لديه من إمكانات
ويستثمرها وينميها، ولعلها تكون سبيلاً لاندماجه مع أقرانه.
أخيرًا:
إن رعاية المراهق رعاية خاصة تساعده على تقديم أفضل ما
لديه، وتعمل على تطوير شخصية سوية متزنة تحقق التكامل الشخصي؛ تحتاج إلى فن ومهارة
تكتسب مع التدريب المستمر من قبل المربين، يحتاج المراهقون سعة صدر مربيهم
واستيعاب أخطائهم وتقبلهم واحترام خياراتهم ما لم تكن تؤذيهم، ومساعدتهم على التخطي
الناجح للمرحلة، واكتشاف ذواتهم وإمكاناتهم العقلية والشخصية والفكرية
والاجتماعية، واكتشاف الأفكار وبناء الوعي وتنمية مهارات التفكير المستقل، ومناقشة
الأفكار مناقشة واعية ومربية، والتربية بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فالمراهق يحتاج
إلى التقبل وأن يؤمن به من يرعاه.
إضافة تعليق