السؤال:
أنا
مشرف على حلقة لتحفيظ القرآن، ولديّ طالبان في المدرسة الإعدادية، وهما صديقان
وزميلان في فصل واحد، لكنهما كثيرا النزاع أمامي، ولا يكفان عن الشجار ومخالفة
أحدهما للآخر، وهو ما يبدو لي أنه نوع من المنافسة والغيرة، ومحاولة من كل منهما
ليكون صاحب حظوة عندي ومقربًا إليّ أكثر من الآخر..
فكيف
يمكنني أن أتعامل معهما علمًا بأنهما متفوقان في الحفظ ولديهما قدرات ذهنية عالية؟!
الجواب:
بسم
الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله
وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما
بعد: أخي السائل الكريم، بداية أهنئك على حرصك الشديد على تهذيب سلوك حفظة القرآن
الكريم، وعلى اعتنائك بالإشراف على حلقة من حلقات التحفيظ، فبارك الله في جهدك
الطيب، ووفقك لكل خير..
وبداية
أقول:
إن
الغيرة هي من الغرائز البشرية التي أودعها الله في خلقه وفطرهم عليها، ومنها ما هي
غيرة محمودة تبرز أجمل ما في الإنسان من إبداع وابتكار واختراع، وتُظْهِر ملكاتِه
المُخْتَبِئة خلف جدار صمته وخجله، وتشحذ الهِمَم على البذل والعطاء، والجِدِّ
والاجتهاد في تحصيل العلم النَّافع، والعمل المنتِج والمُثْمِر، والسَّعيِ في
الأرض لطَلبِ الرِّزق الحلَال. والغيرة بهذه المعاني هي صفة محمودة في النفس
المخلصة الصادقة في علاقتها بالخَلق والخالِق.
ولها
آداب ينبغي مراعاتها وإلا انقلبت إلى غيرة مذمومة، ومن هذه الآداب:
-
ألا يكون سبب الغيرة عِلَّةٌ من العِلل التي تصيب القلب فتوهِنُه.
-
ألا تكون سببًا من أسباب الحسد، والكراهية، والحقد الدفين الذي يجتاح النفس كبركان
يحرق بحِممِه من يقترب منه، ويُحْبِط عمله الصالح، ويصرفه عن طاعة الله ومرضاته.
-
أن تكون الغيرة باعتدال، فلا إفراط ولا تفريط، ولا مغالاة ولا إكثار لحدِّ
الانحراف عن طاعة الله.
ومن
الإرشادات التوجيهية التي تساعدك -أخي الكريم- في إقامة علاقة مودة ورحمة وصحبة
طيبة بين هذين الطالبين المُجِدَّين وبقية الطلاب من حفظة كتاب الله ما يلي:
أولاً:
حاوِل أن تقترب منهما كصديق وأخ أكبر منهما، وتحدَّث إليهما بأسلوب اللِّين
والرِّفق، والحوار والإقناع، لا بأسلوب الشدة والعنف، حتى تحقق الأهداف التربوية
المنشودة.
ثانيًا:
كُن عادلاً معهما في تصرُّفاتك، فلا تمدح أحدهما وتذم الآخر، أو تبخَس مجهود
أحدهما وتَرْفَع من شأن الآخر وتُنْزِلْه منزلة أعلى قدرًا، ومقامًا، ومكانةً، وحظوة؛
لأن إقرار نظام موحَّد في التربية والتوجيه، والعدل في المعاملة بين طلاب العلم؛
يؤلف بين قلوبهم، ويدفع عنهم العداء، والجفاء، والنُّفْرَة، والتنافس السِّلبي،
والغيرة المذمومة.
ثالثًا:
امْنَحْهُم الجُرْعَة العاطفية التي هم بحاجة إليها، وضاعِف من اهتمامك بشؤونهم،
فذاك من شأنه أن يحقَّق لديهم الهدوء والعافية، والاستقرار النفسي والتوازن
العاطفي، ويُشْعِرُهم بالأمان.
رابعًا:
هذِّب سلوكهم على قاعدة إيمانية ربَّانية، وعلى منهج تربوي يغذِّي أفكارهم
وعواطفهم بجُرعات من الآداب والقيم الإسلامية، المختارة من قصص القرآن وسيرة النبي
-صلى الله عليه وسلم-، وسيرة الصحابة والتابعين، وسِير الصالحين والعلماء العاملين.
خامسًا:
نمِّ قدراتهم على التواصل فيما بينهم في جوٍّ هادئ، ووَزِّع المهام بينهم بشكل
متكافِئ، يبعث في نفوسهم الرغبة في المشاركة، وتقبُّل مبدأ الفكر الجماعي المنتِج
والمثمر، والتعاون والاتحاد فيما بينهم، تطبيقًا للمنهج التربوي النبوي القائم على
تكثيف الجهود لجعل القلوب تتوحَّد كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر
الجسد بالسهر والحمى.
سادسًا:
ازْرع بداخلهم قيمة الأخوة في الله، وقيمة التضامن فيما بينهم على قلب واحد، وروح
واحدة، لبلوغ مقام المحبة في الله، ومقام المتحابِّين في الله، تطبيقًا للمنهج
النبوي الكريم، الذي قال في حديثه -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث من كن فيه وجد
حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه
إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار". وفي حديث
آخر قال -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...
ورجلان تحابا في الله: اجتمعا عليه وتفرقا عليه".
حتى
يدركوا ما معنى العمل لأجل الله لا لأجل غاية أو مصلحة دنيوية، وقيمة المجاهدة
لبلوغ مقام العاملين المجاهدين في سبيله، الذين قال فيهم الحق سبحانه: (وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت: 69].
سابعًا:
وَثِّق بينهم عُرى الإيمان، واجعل غايتهم من حفظ القرآن: الاتباع، والاقتداء،
والالتزام، والعمل إخلاصًا لوجهه الكريم، وعلى منهج مشترك موالاة في الله ومعاداة
في الله، وحبًا في الله وبغضًا فيه.
ثامنًا:
كثّف جهودهم في المثابرة والحفظ، لأجل تحقيق غاية واحدة هي أكبر من مطامعهم
الذاتية، ومصالحهم المادية، ورغباتهم الدَّنِيَّة، ولأجل تبليغ رسالة إنسانية
عظيمة تجعل من كلِّ فرد خليفة الله على أرضه، ولذلك هي تستحِقُّ وجودهم وتعاونهم
فيما بينهم، وبَذْلَ الجُهد والمٌثابرة والجِد في الحفظ لنَيْلِ الثَّواب ومضاعفة
الأجر من رب محسن كريم.
وفي
الختام، أسأل الله العلي القدير أن يبارك في عملك، ويوفقك للخير والنفع، ويسخرك
لتوجيه النشء على الاعتناء بحفظ القرآن حِفْظَ صدرٍ، وحِفْظَ عملٍ وسُلوك قويم،
ومنهج حياة.
إضافة تعليق