(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل: 125]، آية موجهة للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- جامعة لكل أصول الدعوة والتبليغ إلى الله تعالى وإلى سبيله، والحكمة حسب أحد تعريفاتها هي: قول الشيء الذي ينبغي في الوقت

هممتُ بكتابة هذا المقال، ودارت في رأسي عشرات الأفكار وأمثلة كثيرة كدتُ أن أضيفها إليه، وأذكر فلانًا الذي يتحدث عن علان، وآخر الذي ترى أغلب كلامه تحذيرًا من هذا وذاك وكأنه وحده من ملك مفاتيح العلم والدعوة، ثم قلتُ لنفسي: أي دعوة أدعوها إن كنت أفعل ما أنهى عنه في مقالي، فأعدت ترتيب أوراقي وأفكاري وصغتُها بما يتناسب والهدف الذي لأجله أكتب.

(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل: 125]، آية موجهة للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- جامعة لكل أصول الدعوة والتبليغ إلى الله تعالى وإلى سبيله، والحكمة حسب أحد تعريفاتها هي: قول الشيء الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي. وقال ابن جرير: الحكمة هي ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والسنة. وكلا المعنيين يكملان بعضهما؛ فلا تعارض.

ولم تعد الدعوة مقتصرة على منابر المساجد وحلقات العلم والكتاتيب والمدارس، بل امتدت في عصر وسائل التواصل الاجتماعي إلى منشورات وفيديوهات وصفحات مختلفة التوجهات والأصول لتصل من خلال الشبكات والمواقع إلى كل شخص مهما كان فكره، وهذا من فضل الله علينا، ولكن لهذا سلاح ذو حدين.

الأول: هو كثرة الدعاة وتنوع الأساليب الدعوية التي ساعدت في الوصول إلى عدد أكبر من المسلمين في كل مكان، فهذا الداعية الذي يخاطب المسلمين في الدول العربية، وذاك يتحدث إلى حديثي العهد بالإسلام، وآخر يدرأ الشبهات وينافح عن الدين ضد الإلحاد والشذوذ وغيرها من مستحدثات عصر السيولة الذي نعيشه، وتلك الداعية التي كانت أقرب للفتيات المسلمات تحدثهنّ عن دينهنّ وتعلمهنّ أصوله وأحواله وفقهه بما يحتجنه، وتجد داعيًا شابًا يعرف هموم الشباب وصراعاته وأفكاره، فيخاطبهم بما يناسبهم ويثبت الإيمان في قلوبهم.

أما السلاح الثاني: فهو اختلاف هؤلاء الدعاة معًا، فكل داعية -ولا أشمل الكل- يضع لبنة في بناء هذه الجيل المسلم والمجتمع الذي يطمح إليه المسلمون ونحلم به، على نهج نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين بما يتناسب مع التطور والعصر الذي نعيشه دون أن نحيد عن مبادئ القرآن والسنة، فكيف إذا كان كل منهم يضع تلك اللبنة أو يبني ذلك الجزء في الجيل ويأتي آخر ليهدمه له ويجيّش عليه من يقاومه، وكلٌّ يفعل هذا بغيره حتى صرنا لا نرى نتيجة ولا أثرًا بما يتناسب والجهود الجبارة التي تُبذّل في الدعوة إلى الله.

ولم تعد التصنيفات التي تتردد بين المثقفين ومدعي الثقافة مثل علماني، ليبرالي، يساري... وغيرها، تقتصر على غير المسلمين أو تُذكر بعيدًا عن الدين، بل صارت مقرونة بالدين، فترى العلماني المسلم واليساري المسيحي والليبرالي غير الديني! وكأن شهوة جديدة أضيفت للإنسان هي شهوة تصنيف كل شيء حوله، وكل من حوله. وربما من منشور بسيط يكتبه أحدهم يقررون انتسابه لأحد تلك التصنيفات دون النظر في بقية أفكاره، وهذا فعل يريح عقل القارئ؛ لأنه بتلك الطريقة سيجعله يتعامل مع الآخر حسب ذاك التصنيف وحسب قواعد سبق وتمت كتابتها وتلقينها عن طريق الإعلام والفكر الجمعي.

كيف يساهم الداعية بتكوين فكر جمعي خاص به؟!

في عصر وسائل التواصل الاجتماعي يمكن للدعوة أن تكون من خلال صفحة على الفيسبوك أو قناة على اليوتيوب يخاطب بها الداعية جمهورًا يختاره من خلال الموضوعات التي يطرحها، فإن اختار موضوعات عامة تهم الشباب والشابات مثل هموم الزواج والحجاب والصلاة والالتزام استقطب فئة تختلف عن الفئة التي ستأتيه لو كان بدأ بالحديث عن الفقه أو العقيدة، أو طرح دروسًا عميقة تحتاج أساسًا من العلم الشرعي. وبالعكس فإن الجمهور هم في بعض الأحيان من يحدد للداعية موضوعاته التي سيطرحها، فيطلبون منه الحديث عن هذا الأمر أو ذاك، فيجد نفسه مُساقًا للتريندات التي تثور كل مدة فيتحدث فيها ويرد عليها.

وفي كلتا الحالتين، فإن الأسلوب هو ما يجعل أناسًا معينين يستمرون بالاستماع لزيد ويتركون عمرًا أو العكس، وهذه الاستمرارية مع الوقت تخلق حالة عاطفية تجعل المتابعين أو المتربين مرتبطين بالمربي ولو بخيط نفسي خفي لا يُرى، يجعلهم يؤيدونه على كل ما يقول ربما دون تفكير، وبل ويدافعون عنه إن أصابه أحدهم بسوء في الكلام أو خالفه، رغم أن الخلاف وارد وصحي ولا مشكلة فيه.

وهنا يأتي دور الداعية الواعي الذي لا يجعل من قنواته منبرًا للهجوم على من يخالفهم في الآراء الدينية والفقهية مادامت جميعًا تصب في إطار الدين العام ولا تخالف فيه واضحًا أو صريحًا؛ لأن هذا الهجوم المستمر ينعكس على المتابعين، فتجدهم يقضون وقتهم في الانتقال من صفحة لصفحة من المخالفين ومهاجمتهم بدلًا من استغلال هذا الوقت في المفيد من العمل والفكر.

وتتحول صفحات الدعاة إلى مناظرات أو سجالات وهجوم على بعضهم البعض، والأعداء يجلسون ويتفرجون على خلافاتنا ويضحكون، فإن كان هذا الحال بين النخبة من الدعاة فماذا يفعل الذين مازالوا على درجات العلم الأولى؟! فالخلاف في أسلوب الدعوة وبعض الفروع لا تجعل حربًا تشتعل بين داعية وآخر، وكل واحد منهم يؤلّب المتابعين ويجيّشهم لنصرته والدفاع عنه بحجة إظهار الصحيح من الدين، وتصل الأمور في بعض الأحيان للشتم، وهو ما يخالف الدين بشكل صريح أكثر من أي شيء آخر.

خطوات على المربي والداعية اتباعها كي لا يقع في فخ الخلاف:

1-   تزكية النفس:

الداعية ليس معلمًا أو مديرًا أو مدربًا، فهو حامل وناقل لأهم علم من العلوم وأعظم شريعة، وحال الداعية يتحدث عنه أكثر من كلامه، وهذا الحال لا يصل للمتربي والمستمع ما لم يكن مستغرقًا فيه يعيشه بكليته، يصل إلى هذا بالعبادة والذكر والعلم الشرعي والدعاء والتضرع إلى الله بالفتوح.

2-   عدم تصنيف الآخرين والاكتفاء بتوضيح وشرح العلم:

مهمة الداعي والمربي هي التعليم وإيصال المعلومات الشرعية، وليس تصنيف الآخرين إلى فئات: هذا فاسد وهذا صالح.

3-   التخفيف من حدة الخطاب الهجومي وانتقاء ألفاظه:

كما قلتُ في النقطة الأولى: المربي ينقل حاله إلى المتربين والمستمعين، فإن كان هجوميًا كارهًا لكل من حوله وما حوله تحولوا هم إلى ما يشبهه تلقائيًا مع الوقت.

4-   التركيز البنّاء والدعوة للبناء:

لم يحارب النبي -صلى الله عليه وسلم- قريشًا في السنوات الأولى ليس من ضعف فقط، ولكن لأنه كان يبني جيلًا من الصحابة قاموا هم ببناء دولة الإسلام فيما بعد في المدينة المنورة، فلم يضيعوا الجهد والوقت في سجالات لا تبني.

علينا أن نبني جيلًا يقيم الدين من جديد، وهذا يحتاج بناء النفوس أولًا، والبناء الصحيح يهدم الرواسب الخاطئة ويطردها تلقائيًا ما لم تكن شركًا أو مخالفات صريحة للعقيدة، فالنفوس أولًا، وهذه لا تُبنى في يوم وليلة أو ببضع كلمات تُسمع، لكنها جهود كبيرة، علينا جميعًا أن نتضافر للقيام بهذه المهمة الصعبة.

5-   التفريق بين الأصول في الدين والفروع:

لن يضر جيل الشباب اليوم إن لم يتعلموا الفروق بين الملل في المذاهب والحكم التفصيلية من الفرق المسلمة، إن كانت جميعًا على نهج الإيمان بالله وأركانه وقواعده وعقيدته، بل سيضرهم إن استعر الخلاف بين المسلمين في أمور شديدة الفرعية وبعض المسلمين يتأرجحون على شفا جرف هارٍ من إلحاد ومثلية وأمور أخطر بكثير من تلك الخلافات البسيطة.

6-   تعلّم وتعليم مهارات التفكير وأصوله ومحاكمة الأمور:

المغالطات المنطقية والمحاكمات العقلية والقياس والكثير من الأمور التي ترتقي بالفكر وتجعل الداعي أولًا والمتربي والمستمع منه ثانيًا يقيس الأمور بمنظور أشمل، فلا يكتفي بسماع كلمة من أحدهم ليحكم عليه بالسوء، وفي الوقت ذاته يعرف كيف يتجنب من يدس السم بالعسل في كلامه، ويحرف الدين والإسلام من خلال قراءاته (الجديدة) وتفسيره (العصري) له بعيدًا عن أصول وقواعد الدين واللغة والعلم.

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة