ذَكَرَ القرآن الكريم قصة يونس عليه السلام في أكثر من سورة، منها: سورة يونس، وسورة الصافات، وسورة الأنعام، وهي من القصص التي تُبيّن رحمة الله تعالى وعظمته، وتُعلّمنا أهمية الإيمان بالله تعالى والالتزام بأوامره، وأن الله يحفظ عباده الصالحين ويحميهم في أوقات الابتلاء والاختبار، حتى ولو في بطن الحوت.
وتُؤكّد القصة أهمية الدعاء والعبادة وذكر الله تعالى في الشدائد وتأثير ذلك على زوال الكرب والهم والمصائب، وبيَّنت- أيضًا- أنّ التوبة الصادقة والنصوح هي السّبيل لكي يُنجّي الله تعالى عباده.
مختصر قصة يونس عليه السلام
وتبدأ قصة يونس في دعوته قومه إلى التوحيد، لكنهم كذّبوه وعاندُوه وتمرّدوا عليه وأصروا على كفرهم، فلمّا طال ذلك عليه ولم تنفع معهم نصيحة ولا تخويف من العذاب، خرج من بين أظهرهم ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث، فتعجّل وخرج من قريتهم غاضبًا؛ خشية أن يصيبه العذاب.
ولمّا خرج يونس من بين ظهرانيهم وتحققوا نزول العذاب بهم قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة، وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم، ثمّ عجُّوا إلى الله- عز وجل- وصرخوا وتضرعوا إليه وتمسكنوا لديه، فكشف الله- بحوله وقوته ورأفته ورحمته- عنهم العذابَ الذي كان قد اتصل بهم بسببه، قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا﴾ [يونس: 98]؛ أي: هلَّا وُجدت فيما سلف من القرون قرية آمنت بكمالها.
وهذه مَيزة لقوم يونس؛ أنهم آمنوا أجمعين، لكن يونس لم يدرِ بهم، بل غادرهم وهامَ على وجهه تاركهم لمصيرهم، فركب سفينة في نهر الفرات نازلة باتجاه البحر محاولًا الابتعاد عنهم إلى أقصى الحدود، ومصممًا على مفارقتهم الأبدية؛ لأجل الصد والجدال العقيم الذي تلقاه منهم والقلوب القاسية التي صدت النور وأبَتِ الانفتاح له، فقد غلّفها ران صلد مصاحب لفكر متحجر رافض للتغيير ومقيم على تراث الأجداد المنغلق.
ومِن أجل تيئيس يونس من إصلاحهم واستجابتهم لدعوته تكتلوا ضده وكلموه بصوت واحد، لغتُه الامتناع والإباء عن تلبية دعوته، فانطلق مغاضبًا لهم، هاجرًا بلدتهم، فقادتُه قدماه إلى سفينة الشقاء والابتلاء المخيف، فما كادت تنتهي من النهر لتدخل البحر وتركب موجة في رحلة على شواطِئ الخليج حتى ثار البحر هائجًا على غير عادة منه في مثل هذا الوقت، ونادى منادي الربان: أن ألقوا ما معكم من حمولة؛ فالأمر خطير؛ فقد ثقلت السفينة حتى غشيها الماء من شدة الموج.
وأحس يونس بالخطر المحدق، حين طرق سمعه صوت الربان وهو يقول: جاء دور تخفيف الحمل من البشر، ولكن لا بد من إجراء القرعة التي كانت ترسي في كل مرة على يونس، وكأن البحر لم يهِجْ إلا لأجل هذا المصير الذي ينتظره، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ [الصافات: 139 – 142].
وكان الحوت هو المستودع ليونس؛ لذلك لمّا شعر وهو في جوفه أنه يتحرك ويتنفس استذكر ربه فسبح الله ومجده وظل يستغفره ويتوب من ذنبه، فاستجاب الله دعاءه، وأمر الله الحوت أن يقذف بيونس إلى البر، قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: 143، 144].
ووصفت حالة يونس في سورة الأنبياء وهو في أحلك أيامه وأشدها خطورة: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87]. فلفظه الحوت بعد أن أمضى في بطنه أيامًا قليلة.
دروس من قصة يونس عليه السلام
وبعد عرض قصة يونس عليه السلام مع قومه، ومكوثه في بطن الحوت، نشير إلى بعض الدروس والعبر فيها على النحو التالي:
- المؤمن إذا وقع في كرب وشدة، ولجأ إلى الله بالدعاء، فإن الله مفرج كربه لا شك؛ وذلك أنه سبحانه وعد عباده المؤمنين، بأن يكشف ما نزل بهم من الكروب، وأنه سبحانه لا يتركهم وحدهم فيما هم فيه من همٍّ وغمٍّ. وهي بشارة لكل مؤمن يقتدي بيونس عليه السلام في إخلاصه، وصدق توبته، ودعائه لربه، بأن الله منجيه من كل غمٍّ، إذا صدق في إيمانه، وأخلص في دعائه.
- أهميّة الإخلاص في التوبة والرجوع إلى الله وهذا ما رأينا من حال قومِ يونس عليه السّلام، فحينما اقترب بهم عذاب الله تعالى هُرعوا إلى التوبة والإيمان والاستغفار، فرأى الله منهم صدق التوبة والإخلاص فيها؛ فصرف عنهم عذابه وعقابه، وآمنهم في منازلهم وأنفسهم وكانوا مائة ألف أو يزيدون، فقال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)،[٤] وكذا حال سيدنا يونس عليه السلام عندما نجّاه الله تعالى من الحوت، فقال في كتابه: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).
- الطّاعات تنجي في وقت الشّدة والكُربات وهذا ما بدا من موقف سيدنا يونس عليه السّلام بعد أن التقمه الحوت في جوف البحر، فالتجأ إلى الله تعالى بالدعاء والاستغفار، واعترف بذنبه وخطيئته؛ فنجاه الله تعالى من كربه وأعاده إلى قومه وهم مؤمنون كلهم؛ فقال تعالى: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ* فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ* وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ* وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ* فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ).
- الدعوة إلى الله يبارك الله- عز وجل- تحتاج إلى الجهد، والوقت، والمال، كما هو الحال مع رسل الله- عليهم السلام- وبالأخص نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- حين أرسله إلى الناس كافة.
- حينما لم يؤمن قوم يونس عليه السلام، ضاق صدره بهم ذرعًا، وخرج مغاضبًا من أجل ذلك، لا لأجل منافعَ دنيويةٍ لم يتحصل عليها، ولكن رأفة بهم من عذاب الله؛ لأن الرسل- عليهم السلام- بُعِثُوا لإخراج الناس من عبودية غير الله إلى عبادة الله وحده.
- أقدار الله نافذة على خلقه، فيونس- عليه السلام- ومن معه لما ركب السفينة، ولجَّجتْ بهم واضطربت، وكادوا يغرقون، تشاوروا، واقترعوا، فوقعت القُرعة على يونسَ ثلاثَ مرات، قال- عز وجل-: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)[الصَّافات: 141]، فرمى يونسُ نفسَه في عرض البحر، فأرسل الله حوتًا يشق البحار، والتقم يونس -عليه السلام-.
- الهداية مهمة ربانية، فالأنبياء وأتباعهم من الصالحين والمصلحين مهمتهم تقتصر علي التبليغ والدعوة والإرشاد، أو كما يسميها الإمام ابن القيم- رحمه الله- هداية البلاغ، أما هداية التوفيق فهي من الله وحده، وهذا يريح قلب الداعية فليس عليه إلا استفراغ الوسع والطاقة والقيام بواجب الدعوة بغض النظر عن النتائج وضغوط الواقع.
- من الخطأ ترك المهمة دون الرجوع إلي القيادة صاحبة التكليف مهما كانت الظروف والمبررات؛ فهذا يونس عليه السلام ﴿ذَهَبَ مُغَاضِبًا﴾ في لحظة يأس من استجابة قومه، وترك مهمته الدعوية التي كلفه الله تعالي بها دون الرجوع إليه، ولم يخطر بباله أبدًا أنه يخرج على أمر الله أو يفتات عليه أو يخالفه أو يعصيه ولكنها لحظة ضعف استجاب لها، ورغم أن ذلك لم يكن خطأ مقصودًا لكنه أمر خطير فكانت النتيجة عقوبة مباشرة من الله تعالي؛ وكان مصيره في بطن الحوت ﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ وكفي باللوم من الله تعالي عقوبة.
- من الضوابط التربوية في العقاب حتى يؤتي ثماره أن يكون على قدر الخطأ، وأن يتم تنفيذه عقب وقوع الخطأ وليس على التراخي أو بعده بفترة طويلة فإن ذلك يقلل من القيمة التربوية للعقاب، وحتى يتمكن المخطئ من فهم خطئه ويساعده ذلك في الإقلاع عنه.
- مَن يتق الله يجعل له مخرجًا: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ . لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الصافات:143-144)، (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:90).
- إعمال قاعدة “ارتكاب أخف الضررين”: (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ . فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (الصافات:140-141).
- اقتران العافية أو حلول العقاب بحال الناس: (فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [الصافات:148]، (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11]، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنفال:53].
إن قصة يونس عليه السلام، قد تجلّت فيها عظمة الله وتصرُّفه في الكون، وسِعة رحمته حيث عفا عن قوم يونس، بعد أن انعقدت أسباب العذاب، وصدر أمر الله بتعذيبهم بعد ثلاثة أيام، فلما جأروا إلى الله، رحمهم وعفا عنهم، وتجلت هذه الرحمة- أيضًا- مع نبيه يونس حين التقمه الحوت في بطنه، حيث حفظه من الهلاك ومنّ عليه بالخروج وأسعد قلبه بإيمان قومه.
مصادر ومراجع:
- ابتسام مهران: ملخص قصة سيدنا يونس.
- إسلام ويب: قصة يونس في القرآن الكريم.
- إسماعيل القاسم: دروس وعبر من قصة نبي الله يونس -عليه السلام-.
- موقع ومضات: وقفات تربوية في قصة يونس عليه السلام.
- موقع الكلم الطيب: قصة يونس عليه السلام.
إضافة تعليق