أخرج الإسلام من أبنائه أبطالًا عمالقة، سادوا وقادوا، وفعلوا المكارم، وأتموا جلائل الأعمال، ومع ذلك لم يتباهوا بما فعلوا، ولم يفخروا بما قدّموا، ومنهم صاحب النقب الذي أنكر ذاته وكتم أعماله، وابتغى وجه ربهم الذي لا يُضيع أجر من أحسن عملاً، والذي يعلم السّر والنَّجوى.
لقد اقتحم هذا الرجل الشجاع- الذي لم نعرفه حتى اليوم- نقبًا صعبًا كان في أحد الحصون التي حاصرها المسلمون زمن الدولة الأموية، وفتح باب الحصن للمسلمين، فكان الفتح على المسلمين بسبب فعله العظيم الذي خلد التاريخ الإسلامي ذكره.
مختصر قصة صاحب النقب
كان مسلمة بن عبد الملك أميرًا على جيش من جيوش الدّولة الأُموية التي قدّمت ما قدمت في نصرة العروبة وتوطيد الدولة العربية المسلمة، وكان مسلمة يُحاصِر بجيشه حصنًا من حصون الأعداء، واستعصى هذا الحصن على الجيش، فلم يستطع له فتحًا ولا اقتحامًا.
فحرّض الأمير مسلمة جُنده على التضحية والإقدام حتى يحدث بعضهم في ذلك الحصن ثغرًا أو نقبًا، فتقدّم من وسط الجيش جندي مُلثّم غير معروف وقذف بنفسه إلى جهة الحصن غير مبالٍ بسهام الأعداء ولا خائف من الموت؛ حتى أحدث فيه نقبًا كان سببًا في سقوط الحصن ودخول الجيش فيه.
وفرح مسلمة بذلك كثيرًا، ونادى في وسط الجيش: أين صاحب النقب؟ فلم يُجبه أحد، فقال مسلمة: إني أمرت حاجبي بإدخاله عليَّ حين يأتي فعزمت عليه (أي حلفت) إلا جاء. وكان يريد أن يخصه بجزء من الغنائم ويمجده.
وبعد فترة جاء الرجل إلى حاجب مسلمة، وقال له استأذن لي على الأمير فقال له الحاجب: أأنت صاحب النقب؟ فأجاب أنا أخبركم عنه.
واستأذن له الحاجب على الأمير، فلما صار بين يديه قال له: إن صاحب النقب يشترط عليكم ثلاثة شروط هي: ألا تبعثوا باسمه في صحيفة إلى الخليفة، وألا تسألوه مَنْ هو، وألا تأمروا له بشيء. قال مسلمة: فذلك له. فقال الرجل في استحياء: أنا صاحب النقب! ثم ولى مسرعًا، فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا دعا فيها قائلا: “اللهم اجعلني مع صاحب النقب يوم القيامة!”.
وكأن هذا الرجل المحتسب المجاهد المتستر يتذكر خير التذكر أن رجلاً جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر (أي ليرتفع ذكره) والرجل يقاتل ليُرى مكانه (أي ليشتهر بالشجاعة) فمَنْ في سبيل الله؟ فأجاب الرسول: “مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله”.
وها هو عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- يقول: يا رسول الله أخبرني عن الجهاد والغزو، فقال: “يا عبد الله إن قاتلت صابرًا محتسبًا بعثك الله صابرًا محتسبًا، وإن قاتلت مرائيًا مكاثرًا، بعثك الله مرائيًا مكاثرًا”.
وقال ابن قيم الجوزية- رحمه الله- في هذا الشأن: “إن الله إذا أراد بعبدٍ خيرًا سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه، والإخبار بها من لسانه، وشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نُصْبَ عينيه حتى يدخل الجنة، فإن ما تُقبِّل من الأعمال رُفع من القلب رؤيته، ومن اللسان ذكره”.
دروس وعبر من قصة صاحب النقب
وتشمل قصة صاحب النقب على دروس وعبر عديدة نذكر منها ما يلي:
- أهمية الجهاد في حياة الأمة الإسلامية.
- إن من خطط الحرب حصار العدو، حتى يستسلم.
- إن الجهاد يكون تحت إمام من المسلمين، فلا بد من وجود قائد للجيش، يأتمر الجنود بأمره، ويسمعوا له، ويطيعوا.
- أهمية الإخلاص لله سبحانه وتعالى في العمل، فعلى المسلم أن يجعل بينه وبين ربه خبيئة عمل، لا يطلع عليه إلا هو سبحانه وتعالى، فمثل هذه الأعمال التي لا يراها الناس لها مقام عظيم عند الله.
- هذا الرجل آثر ما عند الله، على ما عند الناس، فترك الشهرة، وأعرض عن المديح، وحبّ الظهور، رغبة فيما عند الله.
- على الرغم من إلحاح الأمير، والقائد مسلمة بن عبد الملك على الرجل بالظهور، وأن يعرف باسم، فإن الرجل أبى، مخافة الرياء وإبطال العمل وخسارة الأجر.
- إنه لشرف وفخر كبير أن ينادى باسم الشخص، أمام الملأ، وأن يهتم به ليكرم، وينال الجائزة، ويهنأ من الكل، ومع كل هذه الإغراءات، إلا أن الرجل آثر التواري وعدم البروز.
- القصة عظيمة، وعظيمها هو صاحبها الذي دارت القصة حوله، مما يدل على أن الأمة لا تزال بخير وعافية، ما دام فيها أمثال هؤلاء العظماء إلى يوم القيامة.
- جهالة اسم الرجل لا تضر، فالأهم من ذلك هو عمله الذي قدمه.
- الجرأة والإقدام عند هذا الرجل.
- هذا الرجل ليس كبيرًا، وليس عظيمًا في الجيش، بل هو أحد أفراده لذا قال: “فجاء رجل من عرض الجيش”.
- هذا الرجل جاء من تلقاء نفسه، وباختياره فلم يأمره أحد.
- الأصل في التغيير أنه يأتي من الداخل. فنفسك إن لم تسع بتغييرها من الداخل، فل تتغير، والتحفيز قد يأتي من الخارج. لكنه قد يأتي بدوافع داخلية، فيكون سببًا في أن يقدم الشخص أشياء على خلاف العادة.
- قائد الجيش يندب الجنود للقيام ببعض الأعمال، ولو كانت خطرة، ولا يقوم بذلك بنفسه، خشية عليه، لأن قيادة الجيش ليس أمرًا هينا.
- لم يأت الرجل إلى القائد مباشرة، بل تريث في الأمر، وتنكر في طريقة الدخول، واحتاط أشد الاحتياط، حتى لا يعرف.
- الاستئذان في الدخول أدب إسلامي رفيع.
- طلب الرجل من القائد مسلمة قبل أن يكشف حقيقته، ثلاثة أمور هي: ألا يكتب اسمه في صحيفة إلى الخليفة، وأن لا يأمروا له بشيء من عطاء، أو مال ونحو ذلك، وألا يسألوه عن أصله، أو هائلته، أو من أي حي، أو قبيلة، فقطع على الجميع كل الطرق لمعرفة من هو.
- كان بود القائد مسلمة أن يكشف عن شخصية الرجل، لكن لم يتمكن من ذلك، فوجد أن الحل الأمثل لما رأى صدق الرجل وإخلاصه، أن يدعو الله في صلاته أن يحشره مع صاحب النقب.
- فضل الدعاء، وأهميته، فهو يقرب البعيد، ويحقق الأماني، ويخفف معاناة النفس.
- أعمال البر، والقربات الخفية، يحتاج لها العبد يوم القيامة.
- لا يكون الفتح إلا من الله عز وجل.
- شجاعة القائد المسلم، مسلمة بن عبد الملك- رحمه الله-.
- إنه لا يعرف الرجال إلا في المواقف.
- أحيانا يهاب الجنود الإقدام، لشدة الموقف وصعوبته.
- بعض الأمور تحتاج إلى روية، وتفكير لحلها.
- قد يكون رجل بألف.
- الاستئذان أدب إسلامي رفيع.
- صاحب النقب كانت لديه تربية إسلامية صحيحة، لذا فالتربية مهمة للناشئة، فالرجل مثلا عنده من ذلك، روح المبادرة، والشجاعة والمغامرة، ومراقبة الله، والإخلاص، والبعد عن الظهور، وأدب الاستئذان، والزهد في الدنيا، وطلب الأجر والثواب من الله.
- مبالغة، وزيادة، واحتياط شديد في التنكر حتى لا يعرف، وفي هذا رسالة قوية فحقق الله لهم في هذه المعركة الفتح.
إن قصة صاحب النقب تُجسد العديد من القيم النبيلة، أبرزها الشجاعة والتضحية بالنفس من أجل تحقيق النصر للمسلمين، والإيمان القوي بالله سبحانه، والذي جعله يُقدم على هذه المهمة الصعبة، والتعاون مع باقي المسلمين لتحقيق النصر.
مصادر ومراجع:
- ابن رجب: لطائف المعارف، ص 289.
- ابن قتيبة: عيون الأخبار، ص 73.
- ابن منظور: مختصر تاريخ دمشق 7/273.
- عدنان أبو هليل: الإخلاص.. وقصة صاحب النقب.
- زاد السائرين: من روائع الإخلاص وإنكار الذات – (قصة صاحب النّقْب)
- الدكتور عبد الله العمادي: صاحب النقب.
- عبد الله بن محمد الشهراني: اللهم اجعلني مع صاحب النقب.
إضافة تعليق