سجّل القرآن الكريم والسيرة النبوية المطهرة قصة الثلاثة الذين خُلفوا عن غزوة تبوك، وهم كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن أبي أمية، بهدف التربية واتخاذ العبرة والعظة منها في ضرورة اتباع أوامر النبي- صلى الله عليه وسلم- وعدم التخلّف عنه إلا لعذر شرعي. 

إنّ هؤلاء الرجال الثلاثة، قد تخلّفوا عن الغزو مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة التي كانت في وقت الحر والشدة، من غير عُذر شرعي ولا نِفاق، لكن على الرغم من فداحة ذنبهم  وعظمته، تجاوز الله عنهم وغفر لهم صنيعهم، لأنهم كانوا صادقين مع أنفسهم ومع نبيهم- صلى الله عليه وسلم- فلم يخادعوه ولم يأتوا بأعذار كاذبة، بل صَدَقوا واعترفوا بتخلفهم، ولجأوا إلى الله تائبين فتاب عليهم. 

مختصر قصة الثلاثة الذين خُلفوا  

ويَحكِي قصة الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك في العام التاسع الهجري، أحدهم وهو كعب بن مالك، حيث يقول: غزا النبي- صلى الله عليه وسلم- تلك الغزوة، حين طابت الثمار، فتجهز رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وتجهز المسلمون معه، ولم أتجهّز وأقول في نفسي سألحق بهم حتى إذا خرجوا ظننت أني مدركهم، وليتني فعلت. 

فلما انفرط الأمر، أصبحت وحدي بالمدينة لا أرى إلا رجلًا مغموصًا عليه في النفاق- أي مشهورا به- أو رجلًا ممن عذر الله من الضعفاء، فلما بلغني أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عاد راجعًا من تبوك حضرني الفزع، فجعلت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخط رسول الله؟ واستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما دنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم من المدينة-، زال عني الباطل، وعلمت أني لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه. 

فلما وصل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للمدينة بدأ بالمسجد وجلس للناس، فجاء المخلفون وجعلوا يعتذرون له ويحلفون، فيقبل منهم ظواهرهم ويستغفر لهم، وكانوا بضعًا وثمانين رجلًا، فجئت فسلمت عليه، فتبسم تبسم المغضب، فقال لي، ما خلفك؟ قلت: يا رسول الله والله لو جلست إلى غيرك من أهل الدنيا، لخرجت من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلًا، والله ما كان لي عذر حين تخلفت عنك، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أما هذا فقد صدَق، فقم حتى يقضي الله فيك.

 فخرجت من عنده فلحقني بعض أهلي يلوموني على أني لم أعتذر، ويستغفر لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، حتى هممت أن أرجع عن صدقي، فسألت هل قال أحد بمثل ما قلت؟ فذكروا لي رجلين صالحين: مرارة بن الربيع وهلال بن أبي أمية وكان فيهما لي أسوة. 

ثمّ إن رسول الله نهى عن محادثتنا نحن الثلاثة، فاجتنبا الناس، وتغيروا لنا، فتنكرت لي نفسي والأرض، أما صاحبيّ فاستكانا وقعدا في بيتيهما، أما أنا فأصلي مع المسلمين وأطوف الأسواق ولا يكلمني أحد حتى أقاربي.

بينما أنا في هذا الحال إذا جاءت رسالة من ملك غسان يقول لي: الحق بنا نواسيك بعد أن هجرك صاحبك، قلت: هذا من البلاء- أيضًا- فحرقت الرسالة، فلما مضت أربعون ليلة إذ رسول من النبي- صلى الله عليه وسلم- يأمرني باعتزال امرأتي فقلت: الحقي بأهلك، وكان الأمر باعتزال النساء لصاحبيّ أيضا. 

فلمّا مضت خمسون ليلة أَذِنَ الله بالفرج وجاءت التوبة، قال كعب: فما أنعم الله عليّ بنعمة بعد الإسلام، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ، والله ما أعلم أحدا ابتلاه الله بصدق الحديث بمثل ما ابتلاني. 

ونزلت في الثلاثة آيات هي: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة:118،119]. 

دروس من القصة

وفي قصَّة الثلاثة الذين خُلفوا عن غزوة تبوك وفوائدُ ودروس تربوية عديدة، منها: 

  • الصِّدق سفينة النَّجاة: حيث أدرك كعبٌ، وهلالُ، ومُرَارةُ- رضي الله عنهم- خطورة الكذب، فعزموا على سلوك طريق الصَّراحة، والصِّدق، وإنْ عرَّضهم ذلك للتَّعب، والمضايقات، ولكنْ كان أملُهم بالله تعالى كبيرا في أن يقبل توبتَهُم، ثمَّ يعودون إلى الصَّفِّ الإسلاميِّ أقوى ممَّا كانوا عليه، وما أجملَ ختمَ ربِّ العالمين توبته على كعبٍ وَمَنْ معه- رضي الله عنهم- بقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]. 
  • أثر الهَجْر التَّربويُّ في المجتمع: إذ له منافعُه العظيمة في التربية على الاستقامة، ومنع الناس من التَّورُّط في المخالفات الَّتي تكون إمَّا بترك شيءٍ من الواجبات، أو فعل شيءٍ من المحرَّمات. وهذا الهجر يختلف عن الَّذي يكون بين المسلمين على أمور الدنيا، فهذا دنيويٌّ، وذاك دينيٌّ.
  • تنفيذ المجتمع المسلم كلِّه لأوامر القيادة: استجاب المجتمع المسلم كلُّه لتنفيذ أمر المقاطعة، والهجر الَّذي صدر من القائد الأعلى النبي محمد- صلى الله عليه وسلم-، وامتنعوا جميعًا عن الحديث مع هؤلاء الثلاثة، ووصف كعبٌ لنا ذلك، فقال: “… فاجتَنَبَنا النَّاس، وتغيَّروا لنا، حتَّى تنكَّرتْ في نفسي الأرضُ فما هي التي أعرف، فأمَّا صاحباي، فاستكانا، وقعدا في بيوتهما يبكيان…”.  
  • الولاء التَّامُّ لله ورسوله- صلى الله عليه وسلم-: فقد كان العدوُّ يراقب، ويرصد، ويستغلُّ الفرصة السَّانحة لكي يمزِّق الجبهة الدَّاخلية، ويشعل نار الفتنة بين المسلمين، حيث استغلَّ ملكُ غسَّان فرصة هجران المسلمين لكعب بن مالكٍ- رضي الله عنه-، فأرسل سفيره له برسالةٍ خاصَّةٍ منه إليه يُغريه فيها. فكان رد كعب على هذه الرِّسالة: “وهذا من البلاء أيضا! قد بلغ منِّي ما وقعت فيه أن طمع فيَّ رجالٌ من أهل الشِّرك! ثمَّ أحرق الرِّسالة. 
  • توبة الله على العبد قِيمَةٌ دينيَّةٌ يتطلَّع إليها الصَّادقون: فعندما نزلت الآيات الكريمة الَّتي بيَّنت توبة الله على هؤلاء الثَّلاثة؛ كان ذلك اليوم من الأيام العظيمة عند المسلمين، ظهرت فيه الفرحة على وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؛ حتَّى استنار كأنَّه قطعة قمرٍ، فقال- صلى الله عليه وسلم- لكعب: “أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمُّك!”. 
  • تشرع أنواعٌ من العبادات شكرا لله عند النِّعمة: كانت فرحة كعب بن مالكٍ بتوبة الله- سبحانه وتعالى- عليه لا تحدُّها حدودٌ، ولا تصوِّرها مثل، وقد تفنَّن هو- رضي الله عنه- في التَّعبير بسجود الشُّكر، ومكافأة الَّذي يحمل البُشرى حيث نزع كعب ثوبيه اللَّذين كان يلبَسُهما، فكساهما الَّذي سمع صوته بالبشرى، وما كان يملك وقتئذٍ غيرهما، ثمَّ استعار ثوبين، فلبسهما، كما تصدّق بالمال. 
  • التصالح مع الذات: فهو إجراء مهم وله أثر كبير في تحسين الحياة، فهذه سويّة كعبٍ لم تمنعه من أن ينقلَ هذه القصّة بمصاعبها كلّها لابنه، وأبت سويّته ومن معه أن يقولوا خلاف ما يعرفون من أنفسهم؛ فلم يبرروا كسلهم وتباطُؤهم عن الخروج مع وجود المبرّرات؛ وإنّما تصالحوا مع أنفسهم فصدقوا مع ذواتهم ونالوا خيرًا عظيمًا.
  • الامتثال لأمر الله سبحانه دون تفكير: فهذا كعب لمّا أتاه أنِ اترك زوجَك لم يتباطأ لحظة، وإنّما قال: أأطلّقها؟ وهذه سرعة استجابة لأمر الله لافتة يجب الاحتذاء بها.
  • تركُ التّسويف: فهو مشكلة عضال قد تؤدّي إلى ما لا يحمد عقباه، فهذا هو كعب ظلّ يُسوّف حتّى خرج الجيش وعاد، فندم ندمًا شديدًا. 
  • عظم أمر المعصية: وقد نبّه الحسن البصري على ذلك فيما أخرجه بن أبي حاتم عنه قال: يا سبحان الله ما أكل هؤلاء الثلاثة مالاً حراماً ولا سفكوا دماً حراماً ولا افسدوا في الأرض أصابهم ما سمعتم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر. 
  • جواز إخبار المرء عن تقصيره وتفريطه وعن سبب ذلك وما آل إليه أمره تحذيرا ونصيحة لغيره. 
  • أن الإمام لا يهمل من تخلف عنه في بعض الأمور بل يذكره ليراجع التوبة، حيث سأل النبي- صلى الله عليه وسلم- الصحابة الذين تخلفوا عن غزو تبوك عن أسباب تخلفهم. 
  • استحباب بكاء العاصي أسفًا على ما فاته من الخير. 
  • ترك السلام على من أذنب، وجواز هجره أكثر من ثلاث، وأما النهي عن الهجر فوق الثلاث فمحمول على من لم يكن هجرانه شرعيًّا. 
  • إيثار طاعة الرسول على مودة القريب. 
  • إعطاء البشير أنفس ما يحضر الذي يأتيه بالبشارة.  
  • اجتماع الناس عند الإمام في الأمور المهمة وسروره بما يسر أتباعه. 
  • جواز إخبار الرجل عن تفريطه وتقصيره في طاعة الله ورسوله، فقد أعطى كعب خلاصة هذه التجربة ينصح بها نصيحة للمسلمين ليتأسّوا بذلك فيهجرُوا المعاصي ويتركوا الذنوب، فالعاقل من اعتبر بغيره.
  • جواز تعزير المتخلّف عن الجهاد مع ولي أمر المسلمين حتى يشعر بألم المخالفة، وينبغي لولي الأمر أن يذكره ويعنفه ويوبخه، ليأخذ بيده إلى الله تعالى، لأنّ إهمال المسلمين المقصرين وعدم السؤال عنهم يفسدهم ويعرضهم للزلل والزيغ، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كعبًا وقال: “ما فعل كعب؟”. 
  • الذب عن عِرض المسلمين، كما ردّ معاذ رضي الله عنه على من طعن في كعب رضي الله عنه بقوله: “حبسه برداه والنظر في عطفيه”، فقال له معاذ: “بئس ما قلت، والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيرًا”.
  • إجراء الأحكام على الظاهر وترك السرائر إلى الله تعالى، فمع أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم كذب المنافقين إلا أنه قَبِلَ منهم ووكِل سرائرهم إلى الله، ولم نؤمر أن نشق عن صدور الناس. 

هذه قصة الثلاثة الذين خلفوا عن المشاركة في غزوة تبوك، بفوائدها ودروسها التربوية، حيث تُبين أن الله تعالى رحيم غفور، وأنه يقبل توبة عباده مهما كانت ذنوبهم، ما داموا يتحرون الصدق في توبتهم، كما تُبين أهمية الصدق مع الله تعالى، وعدم التمادي في الذنب، والرجوع إلى الله تعالى بالتوبة والاستغفار، فضلا عن أهمية طاعة ولي الأمر، وعدم مخالفة أوامره، والصبر والتحمل في سبيل الله، والثبات على الحق، وعدم التنازل عنه. 

مصادر ومراجع:  

  1. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري 7 /716-731. 
  2. سعد بن تركي الخثلان: قصة الثلاثة الذين خلفوا…دروس وعبر.
  3. أحمد النبراوي: قصة الثلاثة الذين خلفوا.
  4. طريق الإسلام: وقفات مع قصة كعب بن مالك رضي الله عنه.
  5. سعيد محمود: وقفات مع توبة الله على الثلاثة.
ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة