أكدت الشريعة الإسلامية أنّ المزاح لا يتعارض مع تقوى الإنسان وخوفه من ربه جل وعلا، لذا كان ضحك النبي- صلى الله عليه وسلم- ومزاحه حاضرًا في كثيرٍ من المواقف مع أهله وأصحابه الكرام؛ محبة لهم وتوددًا إليهم، وليذهب عنهم السآمة والملل، ويرفع عن كاهلهم الجهد والتعب، حتى يتجدد النشاط في نفوسهم، وتعلو هممهم، وتقوى عزيمتهم، فيقبلون على العبادة والطاعة بقلوبٍ صادقة، وعقول متفتحة ناطقة، وإرادة قوية ساطعة، مستبشرين مسرورين، لأن الأرواح تمل كما تمل الأبدان.
وجَبَلَ الله- سبحانه وتعالى- النفس الإنسانية على الضحك والبكاء، وكل ذلك مما ركّبه الله في طبع الإنسان وفطرته، فقال عز وجل: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى} [النجم: 43]، قال ابن كثير: “أي: خلق في عباده الضحك والبكاء وسببهما، وهما مختلفان”، وقال الطبري: “وأن ربك هو أضحك أهل الجنة في الجنة بدخولهم إياها، وأبكى أهل النار في النار بدخولهم فيها، وأضحك من شاء من أهل الدنيا، وأبكى من أراد أن يبكيه منهم”.
ضحك النبي ومزاحه مع أهل بيته
رغم كثرة ما كان يكابده رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من أعباء النبوة وأثقال الدعوة، وشدة ما يعانيه من أزمات وأحزان إلا أنه لم يتخلَّ عن دوره الأبوي وواجبه الأسري في رعاية حقوق أهل بيته ومعاشرتهم معاشرة حسنة ترفع عن كاهلهم التعب والجهد، فتريح قلوبهم، وتسر نفوسهم، فيلقاهم مستبشرًا ضاحكًا، فعن السيدة عائشة- رضي الله عنها-، قالت: “كان إذا خلا في بيتهِ؛ ألْينَ الناسِ، وأكرمَ الناسِ، ضحَّاكًا بسَّامًا”.
ووصفت السيدة السيدة عائشة- رضي الله عنها- ضحك النبي- صلى الله عليه وسلم- ومزاحه بقولها: “ما رأيت النبي- صلى الله عليه وسلم- مستجمعًا قط ضاحكًا، حتى أرى لهواته (لهواته: جمع لهاة، وهي اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم)، إنما كان يتبسم” (متفق عليه).
وعن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- قالت: “خرجت مع النبي- صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: تقدموا، فتقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: تقدموا، فتقدموا، ثم قال: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: هذه بتلك” (رواه أحمد).
ودخل النبي – صلى الله عليه وسلم- يوما على عائشة – رضي الله عنها- وهي تلعب بلعب لها، فقال لها: “ما هذا؟، قالت: بناتي، قال ما هذا الذي في وسطهن؟، قالت: فرس، قال: ما هذا الذي عليه؟، قالت: جناحان، قال: فرس لها جناحان؟، قالت: أو ما سمعت أنه كان لسليمان بن داود خيل لها أجنحة؟!، فضحك رسول الله – صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه” (رواه أبو داود).
وروى أبو يعلى عن عائشة – رضي الله عنها- قالت: “أتيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بخزيرة طبختها له، فقلت لسودة والنبي – صلى الله عليه وسلم- بيني وبينها، فقلت لها: كلي، فأبت، فقلت: لتأكلنَّ أو لألطخن وجهك، فأبت، فوضعت يدي في الخزيرة فطليت بها وجهها، فضحك النبي – صلى الله عليه وسلم- فوضع فخذه لها، وقال لسودة: الطخي وجهها، فلطخت وجهي، فضحك النبي – صلى الله عليه وسلم- أيضًا) (1).
وعن ابن عباس – رضي الله عنه- قال: “بينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في بيت بعض نسائه، إذ وضع رأسه فنام، فضحك فى منامه، فلما استيقظ قالت له امرأة من نسائه: لقد ضحكت فى منامك فما أضحكك؟، قال: أعجب من ناس من أمتي يركبون هذا البحر هول العدو، يجاهدون في سبيل الله، فذكر لهم خيرا كثيرا” (رواه أحمد).
ضحك النبي ومزاحه مع أصحابه
وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم- قريبًا من أصحابه يتواضع لهم، ويتسامر معهم، ويتودد إليهم، ويحنو عليهم، ويرأف بهم، يسمعهم من الكلام أطيبه، ويريهم من الفعل أحسنه، فكان لهم أبًا رحيمًا، ومعلمًا كريمًا، ومربيًا فاضلًا، يضحك لضحكهم ويفرح لفرحهم.
وقد كان ضحك النبي- صلى الله عليه وسلم- ومزاحه تربية لمن حوله، فقد روى أبو هريرة – رضي الله عنه- أنه قال: “يا رسولَ اللهِ، إنك تُداعِبُنا! قال: إني لا أقولُ إلا حقًّا” (الترمذي).
ويقول عنه عبد الله بن الحارث- رضي الله عنه-: “ما رأيت أكثر تبسمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم”، وفي رواية أخرى عن جابر بن سمرة- رضي الله عنه- قال: “جالست رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أكثر من مئة مرة، فكان أصحابه يناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية، وهو ساكت وربما تبسم معهم”.
وعن جرير- رضي الله عنه- قال: “ما حجبني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي” وفي رواية: “ما حجبني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت، ولا رآني إلا ضحك” رواه ابن ماجه.
وعن أنس – رضي الله عنه-: “أن رجلا أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله: احملني، قال النبي- صلى الله عليه وسلم- إنا حاملوك على ولد ناقة، قال: وما أصنع بولد الناقة؟!، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- وهل تلد الإبل إلا النوق” (رواه الترمذي). فكان قوله – صلى الله عليه وسلم- مداعبة للرجل ومزاحًا معه، وهو حق لا باطل فيه.
وعن عبد الله بن مغفل قال: “أصبت جرابا من شحم يوم خيبر، قال: فالتزمته (احتضنته)، فقلت لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، قال: فالتفت فإذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- متبسما” (رواه مسلم).
ومن مواقف تبسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم- هو ما حَدَّثَنَا أَبُو عَمَّارٍ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لأَعْلَمُ أَوَّلَ رَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَآخَرَ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ، يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَيُخَبَّأُ عَنْهُ كِبَارُهَا، فَيُقَالُ لَهُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا، وَهُوَ مُقِرٌّ، لا يُنْكِرُ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِهَا، فَيُقَالُ: أَعْطُوهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ عَمِلَهَا حَسَنَةً، فَيَقُولُ: إِنَّ لِي ذُنُوبًا مَا أَرَاهَا هَاهُنَا قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ” (مسلم).
ويقول صاحب كتاب فيض القدير: وإنما كان صلى الله عليه وسلم يمزح لأن الناس مأمورون بالتأسي به، والاقتداء بهديه، فلو ترك اللطافة والبشاشة، ولزم العبوس والقطوب، لأخذ الناس من أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة من المشقة والعناء (2).
وما نُقل عن النبي – صلى الله عليه وسلم- في مزاحه مع أصحابه دون الخروج عن الآداب أو الأخلاق: أمر غير قليل، وقد كان هذا الصنيع يلفت أنظار أصحابه فيقولون: يا رسول الله إنك تداعبنا فيقول: إني لا أقول إلا حقا”.
ولقد عدد الإمام ابن القيم رحمه الله أسماء الرسول وذكر منها: “الضحوك القتال” ثم قال: وأما الضحوك القتال فاسمان مزدوجان، لا يفرد أحدهما عن الآخر فإنه ضحوك في وجوه المؤمنين، غير عابس ولا مقطب ولا غضوب، ولا فظ؛ قتَّال لأعداء الله، لا تأخذه فيهم لومة لائم (3).
مزاح النبي مع الصحابيات
وكان للصحابيات نصيب من ضحك النبي – صلى الله عليه وسلم- ومزاحه، حينما يجلسن إليه يسألنه عن أمور دينهن، فكان يطيب لهن القول فيعطف عليهن ويأمر المسلمين بحسن معاشرتهن ويقول: “استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عوان عندكم”.
ومن آثار مزاح النبي – صلى الله عليه وسلم- مع نساء الصحابة ما روت عائشة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم- قالت: أتت سلمى مولاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أو امرأةُ أبي رافع مولى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إلى رسول الله، تستأذنه على أبي رافع قد ضربها! فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لأبي رافع مالك ولها يا أبا رافع؟ قال: تؤذيني يا رسول الله! فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: بم آذيته يا سلمى؟ قالت: يا رسول الله ما آذيته بشيء، ولكنه أحدث – أي خرج منه ريح- وهو يصلي فقلت له: يا أبا رافع إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قد أمر المسلمين إذا خرج من أحدهم الريح أن يتوضأ، فقام فضربني، فجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يضحك ويقول: “يا أبا رافع إنها لم تأمرك إلا بخير”(4).
المزاح مع الأطفال
وكان ضحك النبي- صلى الله عليه وسلم- ومزاحه مع الأطفال، حاضرًا في كثير من المواقف، منها ما قاله أنس بن مالك – رضي الله عنه-: “إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا حتى أنه كان يقول لأخ لي صغير: يا أبا عُمير ما فعل النغير”، والنُغير: طائر يشبه العصفور منقاره أحمر كان يلعب به.
وعن أنس – رضي الله عنه- قال: “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- من أحسن الناس خَلَقا، فأرسلني يوما لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله- صلى الله عليه وسلم-، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس، أذهبت حيث أمرتك؟ قال: قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله” (رواه مسلم).
وها هو يُمازح يتيمة كانت عند أم سلمة، لكنها لا تفهم مقصوده فتحزن، يقول أنس: كانت عند أم سليم يتيمة، فرأى رسول الله اليتيمة، فقال: أنت هيه لقد كبرت لا كبر سنك، فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي فقالت أم سليم: ما لك يا بنية؟ قالت الجارية: دعا علي نبي الله أن لا يكبر سني، فالآن لا يكبر سني أبدا. أو قالت: قرني، فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها حتى لقيت رسول الله فقال لها رسول الله : ما لك يا أم سليم؟ فقالت: يا نبي الله أدعوت على يتيمتي؟ قال: وما ذاك يا أم سليم؟ قالت: زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنها ولا يكبر قرنها. قال: فضحك رسول الله ثم قال: يا أم سليم أما تعلمين أن شرطي على ربي؛ إني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل؛ أن تجعلها له طهورًا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة” (رواه مسلم).
ومن الضروري أن نوضح أن المزاح وإن كان للمؤانسة والملاطفة، إلا أن الرسول – صلى الله عليه وسلم- كان يُريد من خلاله – في بعض الأحيان- توجيه رسالة تربوية؛ لتنشئة الأبناء على الحياء، واحترام الكبار وتوقيرهم، كما جاء عن سهل بن سعد الأنصاري – رضي الله عنه- قال: «أن النبي – صلى الله عليه وسلم- أتى بشراب، فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء، فقال الغلام: لا والله يا رسول الله، لا أوثر بنصيبي منك أحدًا، قال: فتله رسول الله في يده، ملاطفًا وممازحًا ليفهم أن تصرفه هذا غير مقبول دون أن يجرح حياؤه وكبرياؤه” (البخاري).
ضوابط الضحك في الإسلام
لقد كان ضحك النبي – صلى الله عليه وسلم- ومزاحه مقيدًا بضوابط لا بُد وأن يراعيها كل مسلم يريد أن يتأسى بهديه، منها:
ألا يقع في الكذب ليضحك الناس، لقول النبي – صلى الله عليه وسلم-: “ويل للذي يحدث فيكذب، ليضحك القوم، ويل له، ويل له، ويل له” (رواه الترمذي).
وكان – صلى الله عليه وسلم- يمزح ويضحك ولا يقول إلا حقا وصدقا، ومن ثم فينبغي ألا يشتمل المزاح والضحك على تحقير لإنسان آخر، أو استهزاء به وسخرية منه، قال الله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات:11). وقال- صلى الله عليه وسلم-: “بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم” (رواه مسلم).
ومن ضوابط المزاح والضحك في هدي النبي – صلى الله عليه وسلم-: ألا يترتب عليه تفزيع وترويع لمسلم، قال- صلى الله عليه وسلم-: “لا يحل لمسلم أن يروع مسلما” (رواه أبو داود).
وأن يكون بقدر يسير معقول، وفي حدود الاعتدال والتوازن، الذي تقبله الفطرة السليمة، ويرضاه العقل الرشيد، ويتوافق مع المجتمع الإيجابي العامل، ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم-: “يا أبا هريرة أقل الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب” (رواه ابن ماجه).
والضحك مباح في الأصل، لكنه إذا تجاوز الحدّ المعتاد بلغ درجة الكراهة التنزيهية، ولذلك ذمه السلف ونهوا عنه وفي الحديث: “… ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب (رواه الترمذي وحسنه الألباني).
ألا يكون الضحك مذمومًا، فقال الإمام الغزالي في الإحياء: “والمذموم منه أن يستغرق ضحكا” (5)، والمقصود بالضحك المذموم هو: ما صحبه صوت كالقهقهة، أما الضحك الذي يكون بصورة التبسم، فهذا محمود بل هو مأمور به في بعض المواطن، قال النبي – صلى الله عليه وسلم-: “تبسمك في وجه أخيك لك صدقة” (رواه الترمذي وصححه الألباني).
من آداب الضحك في الإسلام
ويتعلم المسلم من ضحك النبي ومزاحه آداب كثيرة، إذ لا بُد من أن يراعي الآتي:
يكون الضحك تبسمًا، قال العلامة العثيمين رحمه الله: الضحك ثلاثة أنواع هي ابتدائي، ووسط، ونهائي: الابتدائي: التبسم، والوسط: الضحك، والنهائي: القهقهة.
ألا يضحك من غير سبب؛ لأن هذا من قلة الأدب، فهو يضحك عندما يرى أو يسمع شيئا يُعجبه، فيؤدي به ذلك إلى الضحك، قال الله عز وجل عن سارة زوج نبينا إبراهيم عليه السلام: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود:71] فالملائكة عندما جاءت إلى إبراهيم قرّب لهم عجلاً مشوياً ضيافةً لهم لكنهم لم يأكلوا؛ فأوجس منهم خيفة، وكانت زوجه سارة قائمة تخدمهم، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: لما نظرت سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم ضحكت، وقالت: عجبا لأضيافنا هؤلاء نخدمهم بأنفسنا، كرامةً لهم، وهم لا يأكلون طعامنا!
وألا يتكلف الضحك كما يفعل البعض، فالضحك المتكلف ليس مثل الضحك الحقيقي، فليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، فالأولى تبكى من قلب والثانية تبكي بأجر، ومن يضحك تكلفاً ضحكه مثل بكاء النائحة المستأجرة.
ولا يكثر من الضحك، فقد ورد في أحاديث فيها مقال: أن كثرة الضحك تميت القلب، ولا يليق بالإنسان العاقل أن يمضي أثمن ما يملك وهو وقته في الضحك، والذي ينبغي له أن يكثر من البكاء ويُقلَّ من الضحك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا” (البخاري).
أن يحذر من الضحك في المقام الذي ينبغي أن يكون فيه باكيا، قال سبحانه وتعالى عن المشركين: {أفمِن هذا الحَديثِ تَعجَبُون (59) وتَضحَكُون ولا تبكُون (60)} [النجم ] فقد كانوا يضحكون استهزاء وسخرية عند سماعهم للقرآن الكريم، مع أن الواجب أن تلين قلوبهم وتبكي عيونهم عند سماعه.
أن يبتعد عن الضحك استهزاءً بعباد الله وأولياءه، فعاقبة ذلك وخيمة، وقد يكون جزاء هذا الضحك في الدنيا: حسرة وندامة يوم القيامة، قال جل جلاله عن الكافرين طالبين الخروج من النار: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)} (المؤمنون)، فيأتيهم الجواب من الله العزيز الحكيم بأنهم ماكثون في النار بسبب أعمالهم في الدنيا التي منها الضحك والسخرية بالمؤمنين: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)} [المؤمنون].
وأن يتجنب الضحك والاستهزاء بآيات الله الكونية القدرية أو الشرعية الحكمية، فعاقبة ذلك العذاب والنكال، قال عز وجل: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ۖ وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)} [الزخرف] (6).
لقد كانت المواقف التي ضحك فيها- النبي صلى الله عليه وسلم- كثيرة ومتنوعة، فنجده يضحك فرحا بكرامة أو فتح لأمته، أو تفاعلا مع أصحابه، أو مداعبة لزوجاته، أو لإدخال السرور على الأطفال، وبالنظر في كتب السيرة والسُنة النبوية نجد أن أكثر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم هي الابتسامة، وفي بعض الأحيان كان يزيد على ذلك فيضحك باعتدال وإن بدت نواجذه، دون إكثارٍ منه أو علوّ في الصوت.
والضحك والبكاء خاصية في هذا الإنسان، وهما سر من أسرار التكوين البشري لا يدري أحد كيف هما. ولا كيف تقعان في هذا الجهاز المركب المعقد، الذي لا يقل تركيبه وتعقيده النفسي عن تركيبه وتعقيده العضوي، والذي تتداخل المؤثرات النفسية والمؤثرات العضوية فيه وتتشابكان وتتفاعلان في إحداث الضحك وإحداث البكاء (7).
مصادر ومراجع:
- الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 4/318.
- المناوي: فيض القدير، 3/13.
- ابن القيم الجوزية: زاد المعاد، 1/94.
- الهيثمي: كتاب مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ص 243.
- أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، ص 133.
- فهد بن عبد العزيز الشويرخ: من آداب الضحك في الإسلام.
- سيد قطب: في ظلال القرآن، تفسير الآية 43 من سورة النجم.
إضافة تعليق